- info@damascus-heritage.org
رفاعة الطهطاوي فكراً ودعوةً:
ولد رفاعة في العام الذي جاء فيه محمد على إلى مصر على رأس ألف جندي عثماني للمشاركة في مقاومة الحملة الفرنسية على مصر، وتصادف أن يولد رفاعة لأسرة متوسطة الحال في يوم رحيل جنود الحملة الفرنسية عن مصر، ويرتبط رفاعة بنهضة محمد علي باشا من وعيه، ويستمر فيها مع ابنه وأحفاده ليوم مماته، بدأب وكد يندر مثيله، وكان نضاله يمثل مرحلة تاريخية مهمّة في مسار بناء الدولة الوطنية الحديثة التي بدأها محمد علي في مصر؛ وصنفه المستنيرون بصفته رائداً للفكر الاجتماعي في مقدمة ثلاث قمم أثروا القرن التاسع عشر، مع عبد الرحمن الكواكبي وخير الدين التونسي؛ ووسموه بشمولية النظرة والإحاطة بالظواهر الاجتماعية والسياسية من مختلف جوانبها، ثم الجمع ما بين النظر والعمل والفكر والخبرة الواقعية، فالارتباط بالواقع ثم المزج ما بين أرضية التراث الإسلامي والتعرف على العلوم العصرية الحديثة[1].
ونُسبت انطلاقة الطهطاوي في تفكيره الاجتماعي والسياسي إلى احترام العقل أداة لحل كل مشاكل المجتمع، وذلك بالكشف عن أسبابها وبواعثها، على أن كتابات الطهطاوي عبّرت عن فهم مستنير للحضارة الأوروبية، فهو لا يرفضها كما أنه لا يقبلها دون تمحيص، ولكنه يعمل على التفاعل معها؛ ولذلك دعا الأزهر إلى أن يضيف سائر المعارف المدنية إلى جوار علوم الفقه والشريعة، وقد نجح الطهطاوي في شرح أفكاره من خلال عرضها ضمن سياقها التاريخي مع شرح وتحليل الأحداث التاريخية التي عاصرها أو قرأ عنها.
وألبسه المؤيدون لقب (السيد الأمير)[2]، وجعلوه زعيماً للإصلاح الاجتماعي والفكري، ناضل نضالاً مستميتاً في سبيل تحقيق رسالته، على أنه المبشر بالفكر الديمقراطي الليبرالي في ديمقراطية الفكر السياسي كالفصل بين السلطات (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، والدعوة إلى تجديد الفكر التشريعي مزاوجاً بين التراث الإسلامي والتشريع الأوروبي، أو ما بين (الأصالة والمعاصرة) من خلال إحياء كتب التراث وترجمة كتب الغرب، وتتلخص الأفكار التي بشر بها رفاعة الطهطاوي في تأكيد فكرة القومية المصرية، وإقامة الدولة العلمانية العصرية التي تفرق بين العبادات والمعاملات وفق القاعدة الشرعية: “العبادات لا اجتهاد فيها“[3]، والمعاملات وفق الحديث الشريف: “أنتم أعلم بأمر دنياكم“[4]، وبناء المجتمع المصري الحديث على أسس سياسية اقتصادية ثقافية متكاملة.
وبقي الطهطاوي مثار جدل كبير يتناسب مع حياته وإنتاجه الفكري، فبينما اعتبره البعض الرائد الأعظم في حركة النهضة العربية الفكرية والثقافية خلال العصر الحديث، كان الآخرون يلقبونه بـِ(المؤرخ المدجَّن)، ويشنون عليه الهجمات بتهمة أنه رائد العلمانية المعاصرة في العالم الإسلامي[5]، وأنه الذي فتح الباب واسعاً أمام الفكر الغربي والثقافة الغربية لتلج بقوة في مجتمعنا العربي والإسلامي بعد ترجمة قوانينها وقواعدها الاجتماعية وخبرتها التاريخية، وقدمها على أنها الحكمة والعدل والإنصاف وسبب لعمران بلادهم وكثرة معارفهم[6]، واستناداً لمقولته الشهيرة:
“وجدتُ عندهم إسلاماً.. ولم أجد مسلمين، ووجدت عندنا مسلمين.. ولم أجد إسلاماً”.
علم الجغرافية ورسالة رفاعة:
ويشهد التاريخ العلمي للمسلمين ما بين القرنين الثالث والتاسع للهجرة إنجازاتٍ عظيمةً تجلّت في تدوين أخبار كثيرة على شكل أدب رحلات مثل رحلات ابن فضلان وابن جبير وابن بطوطة، أو على شكل وصف وتقويم للبلدان مثل: ابن خرداذبه والبلخي والإصطخري وابن حوقل والشريف الإدريسي (بطليموس) وياقوت الحموي وغيرهم الكثير، طبعت كتبهم وترجمت ودرّست، وتدرس على منابر العلم والمعرفة بالعالم، ومن إنجازاتهم المهمّة ما قام به الخوارزمي في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي إبَّان حكم المأمون عندما رسم خريطة للسماء والأرض، وقام بمحاولة ناجحة لقياس محيط الأرض على أنها كرة، من موقع (سنجار) في الشمال الشرقي لمدينة تدمر، فيما كان الأوروبيّون يعتقدون أن الأرض مسطحة، ويعتبرون البحثَ في المظاهر الكونية خروجًا على الدين.
وخلال هذه الفترة قام المقديسي برحلات طويلة دوّنها بما يمكن أن يسمى “دائرة معارف” في الجغرافية، وصف فيها بدقة جميع الأماكن التي زارها[9].
وفي أواخر القرن التاسع أوائل العاشر تُرجم إلى اللغة العربية كتاب جغرافية بطليموس، وتلا ذلك ظهورُ عدد من الدراسات الجغرافية ارتبطت فيها دراسة الجغرافية بالتاريخ أو بعلم تخطيط البلدان أو بالدراسات الاقتصادية أو بالسياسية، أو بالمناخ والبيئة، أو بمكونات الطبيعة.
وفي مطلع القرن الحادي عشر نشر البيروني كتابه عن جغرافية روسيا وشمال أوروبة وفي هذا القرن نفسِه استطاع الزرقالي أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى أن يضع أطوال البحر المتوسط بتقدير قريب جدًا مِمَّا هو معتبر الآن وفق أدق الدراسات. وفي سنة 1290م صنع قطب الدين الجغرافي خريطة للبحر الأبيض المتوسط، وقدّمها إلى ملك إيران؛ ووضع أبو الفداء أمير حماة كتاب “تقويم البلدان” الذي تُرجِم إلى اللاتينية في القرن الثامنَ عشر، وكان مرجعَ كثير من علماء الغرب[10]. إضافة إلى ما وضعه العرب من معلومات جغرافية لا تزال معينًا للباحثين والدارسين؛ فقد كانوا مَعْبَرًا انتقلت بواسطته إلى أوروبة أفكار اليونان الجغرافية والفكرة الهندية عن صورة الأرض، وعقيدة استدارة الكرة الأرضيّة، والنظريّة الصائبة عن أسباب المدّ والجزر؛ يضاف إلى ما سبق مساعدة العلماءُ العرب أعلام الرحالة الغربيين في مجاهل إفريقية والمحيط الهندي واكتشاف رأس الرجاء الصالح، ومساعدة الحملات على إنجاز أبحاثها ورحلاتها العلمية ككتاب وصف مصر الخاص بحملة نابليون.
لا تزال المكتبة العربية تحتفظ بنوادر المخطوطات التي لم يتم تحقيقها أو التعريف بها، ففي فهرس مخطوطات علم التاريخ لمعهد مخطوطات الجامعة العربية بالقاهرة وجدت رسالة بعنوان “جغرافية بلاد الشام” لرفاعة رافع الطهطاوي، صنفها المستشرق الألماني كارل بروكلمان )1956( برقم 2/731 في مواضيع الجغرافية في كتابه تاريخ الأدب العربي، صورتها عام 1948 بعثة تصوير مخطوطات إلى محافظة سوهاج، برقم 315 ضمن مجموعة مهمّة ونادرة من مخطوطات مكتبة رفاعة رافع الطهطاوي يبلغ عددها 540 مخطوطاً مصوراً، وصنفت في مصورات المعهد برقم /سوهاج 28 جغرافية/.
وتأخذ رسالة رفاعة الطهطاوي قيمتها العلمية باعتبارها إسهاماً في علم الجغرافية وفي علم التاريخ، وتزداد أهميتها من خلال المنهجية المتبعة في إنجازها، ومن نوعية المعلومات المدرجة فيها، ومن أنها تفصح عن الهدف من أعمال البعثات العلمية المرافقة للحملات الأجنبية على البلاد.
ومضمون رسالة الطهطاوي يقع في عموميات الموقع الجغرافي دون التمحيص فيه، إلا أن الجغرافية عنده ارتبطت بالتاريخ دائماً، فالأحداث تم تصويرها بأسلوب العرض القصصي للتوراة، والمواقع فسرت بأسلوب المقارنة الحية مع مناطق أخرى من العالم، وكأن الكاتب يخاطب متخصصين في جغرافية بلاد الشام، ويقوم هو بعرض الحقائق المادية لتاريخ المناطق في بلاد الشام.
واستندت الرسالة في أجزاء منها على الوصف الأدبي عبر تعداد الميزات المكانية الطبيعية للمواقع دون التوضيح الشكلي بالرسم، مع التركيز على إظهار جوانبَ متناقضةٍ بالغة الأهمية تتعلق بتغير السلوك الثقافي والاجتماعي لمجموعات سكان المناطق، وبمفهوم الأقليات والأكثرية والفروقات المذهبية بينها.
أضف إلى ذلك تَوَفُّر منهجٍ تاريخي مطول سرد من خلاله تعاقب الأقوام على البلاد، وسياسة تعاملهم مع السكان، ولم تتضمن الرسالة معلومات استكشافيةً يمكن لها أن تضيف جديداً عن جغرافية المنطقة أو عن تاريخها، بل كانت توضح بجلاء رأياً اغترابياً عن هذا الموقع من العالم.
والأمثلة كثيرة لإثبات دقة ما سبق، إلا أنّ الأهم كان ما تضَّمنته الرسالة من وصف للطوائف والمعتقدات، ووصف فلسطين بأرض اليهود كما جاء في الصفحة رقم 13 من مقدمة مخطوط الرسالة، وفي العودة إلى الجذور العبرانية كاحتمال لتصوير نشأة المدن والمناطق المأهولة كما في حماة وغيرها، ولعل هذا يمكن أن يُعزى إليه أسباب تأخّر أو تجنب نشر هذه الرسالة.
وتأتي أهمية الرسالة في أنها غير مطبوعة وغيرُ محققة، وفي أنها تثبّت أهمية الجغرافية والتاريخ للحملات الأجنبية كقاعدة بيانات لآليات التعامل مع هذه المناطق؛ فلا شك في أن حوار تقسيم الهلال الخصيب عام 1915 ما بين مارك سايكس البريطاني، وجورج بيكو الفرنسي بقصد الاتفاق على تقسيم المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة العثمانية وهي سورية والعراق ولبنان و فلسطين إلى مناطق تخضع للسيطرة الفرنسية وأخرى تخضع للسيطرة البريطانية، كانت تستند إلى دراسات الجغرافيين الأجانب والتي ترجم منها رفاعة هذه الرسالة، ويتأكد ذلك من خلال مقارنة المسارات التي ذكرت في الرسالة مع خريطة تقسيم اتفاقية سايكس بيكو للمنطقة.
وقد اعتمد الطهطاوي في وضع رسالته على النقل من عدد محدود من المصادر المهمّة، كان ينقل منها حرفياً، ومرّات كان النقل يتمُّ بتصرُّف بهدف الاختزال، واستخدم الإسرائيليات من قصص الأنبياء بلا حرج ولا تعليق، وكان يستشهد في التأكيد على أسماء الأمكنة من التوراة، كما ورد في الصفحة التاسعة من مقدمته، واعتماد الإنشاء اللغوي في خطابة تفيد إجراء المقارنة الفكرية دون تأكيد حقيقة ثابتة؛ فكان يستعرض ما ترجمه من نصوص دون ذكر لترجيح أو تقييم أو دمج أو تحليل.
كما أنَّ الطهطاوي أهمل ذكر مدنٍ كثيرة، واكتفى بما يشبه خطوط سير لرحلة رئيسية في بلاد الشام، وتجاهل معالم جغرافية وعمرانية مهمّة في المناطق التي تعرض لوصفها فلم يأت حتى على ذكر الجامع الأموي في دمشق وكان يذكر سوقاً هامة فيها دون تسميتها، وأخطأ في أسماء بعض المناطق والمدن والأنهار، وقد يعود ذلك لعدم معاينته العملية لما يتحدث عنه، فهو لم يزر بلاد الشام قط؛ ويظهر بجلاء تمسُّكه بأمانة المترجم، فكان باستمرار يبدأ الفقرات وينهيها بوضوح، عازياً إياها للأصل، معتمداً على ثقافة القارئ في التاريخ القديم وفي المعطيات الجغرافية للمناطق الأوروبية التي كان يقارن فيها ما استعرضه من مثيلتها في جغرافية بلاد الشام.
[1] راجع:
[2] كما سماه الكاتب مهند المبيضين في كتابه: تجربة البناء الحديثة للدولة المعاصرة ½، المنشور في القاهرة، 2004. وكما سماه محمد عودة ومحمد شافعي في مقالاتهم على شبكات المواقع الثقافية.
[3] يعتمد رواد التجديد باتجاه المعاصرة إلى تفكيك الأصالة إلى أجزاء، ليسهل تقديم أفكار التحديث؛ والقاعدة الأهم في ربط العبادات بالمعاملات هي قوله تعالى: [وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] (العنكبوت: 45) ولتحديد مصادر الاجتهاد وشروطه أنظر الجزء الأول من: عابدين محمد أمين (الشهير: بابن عابدين)، رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، دار الثقافة والتراث، دمشق، سورية، 2006. مج1.
[4] أخرجه مسلم عن أنس في كتاب الفضائل- باب وجوب امتثال ما قاله صلى اللَّه عليه وسلم؛ (مسلم- 2363).
[5] كما سمّاه أبو فهر محمود شاكر وآخرون من نقاده في مقالاتهم على شبكات المواقع الثقافية.
[6] الشيال جمال الدين، رفاعة المؤرخ، مهرجان رفاعة الطهطاوي، ديسمبر 1958، مطبوعات المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، القاهرة، مصر،1960. (ص: 119– 127).
[7] الموسوعة الثقافية، بإشراف د. حسين سعيد، دار المعرفة، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة- نيويورك، 1972. ج1. (ص: 342).
[8] لويس ماسينيون وآخرون، دائرة المعارف الإسلامية، مركز الشارقة للإبداع الفكري، الشارقة، الإمارات العربية،1998. ج12. ص:82.
[9] المسلم إبراهيم، إطلالة على علوم الأوائل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة- مصر، 2006. ص:134.
[10] المرجع السابق. ص: 169.