B086

استيطان المجال المكاني لمنطقة دمشق
محاكاة تاريخية لنشأة المدينة

يَبني بعض الباحثين تصورهم عن نشأة مدينة دمشق، استناداً للتاريخ، بأنها كانت المنطقة المستقرة الحضرية الأولى في هذه المنطقة، وأنها كانت سابقة في نشأتها على باقي مكونات النسق الحضري، ولا يُذكر أن كان هناك مراكز حضرية منافسة لها في منطقتها؛ وغالباً ما تُذكر دمشق إلى جانب المدن المُبدعة؛ ويُراوغ التاريخ عندما يُراد معرفة باني دمشق، أكان فرداً، أم حضارة؛ وكان من الواضح بأن التاريخ قد تقصد إغفال دور السكان، ودوَّن سجلاً رصف فيه أحداث الأقوام الوافدة وما فعلوه بدمشق.

أما كتب الرحالة فكانت تتغزل بالغوطة على أنها هبة من القدير وجنته، وأن قاسيون جبل الأساطير الدينية، وكأن هناك إهمالاً تاماً للنسق الحضري الذي تتألف منه المنطقة، ذلك النسق الذي يُمثل حقيقة تفاعل السكان في المجال المكاني، فكان جسرَ الوصول إلى هذا القلب[1] المقدس، وخطاً دفاعياً عن المنطقة بكامله، ففي سبيلها كانوا يُقتلون ويُسبون وتُحرق أغلالهم، ودمشق لم تكن بهذه القدسية والمكانة التاريخية لولا هذا النسق في الجبل والغوطة.

ليس خروجاً عن النصّ، وإنما التوسع في تفسيره؛ فتحليل الأخبار ومقاطعتها مع أجزاء نظرية وتطبيقات عملية يمكن أن يُظهر جانباً آخر يبتعد إلى حدّ ما عن نظرية سيطرة دمشق، كمركز حضري، منذ بدايات الاستقرار في المنطقة؛ فالدلائل تشير إلى وجود عدد كبير من المستقرات في أرجاء الغوطة وعلى تخومها الصحراوية والجبلية، كان بعض منها مهيأً ليكون مركزاً حضرياً مسيطراً لتطابق جغرافيته مع القواعد النظرية للنشأة، إلا أن دمشق كانت قد ظهرت على قمة النسق الحضري دون منافسة، رغم أنها تجاوزت العديد من الشروط الواجب توفرها لنشأتها.

ولا بأس من تكرار أنَّ منطقة دمشق تخضع لتأثير مباشر من نهر بردى والغوطة وقاسيون لأهميته، إلا أنَّ شرح هذا التأثير يستدعي تناول عوامل جغرافية تتسع لتشمل محيط المنطقة، وأخرى تاريخية عديدة، ويفرض السياق العلمي للبحث التفريق مابين دمشق المعبد، ودمشق المدينة، ودمشق المنطقة؛ فدمشق المنطقة هي البقعة الجغرافية التي تضم أفرع نهر بردى حتى البحيرتين والغوطة وسفح جبل قاسيون، والتي كانت تضم مستوطنات السكان؛ ودمشق المعبد التي يمكن تناول نشأتها من التناص[2] الملحمي للأخبار العديدة الأولى قبل التاريخ المدون والتي تشكل صراع الأشخاص والأمم للدخول إلى ميثولوجيا[3] المكان المقدس الطاغي في تأثيره على نشأة المدينة؛ أما دمشق المدينة فهي تلك الحاضرة التي أورد التاريخ أخبارها بعد أن امتلأ محيطها بالقرى والبلدات والمدن قبل أن تولد، مصرحاً في سجلاته بأنَّها كانت إبداعات الأقوام الفاتحة حول المكان المقدس للسكان الأصليين، وأنها مقراً لحكمهم وسكنهم وتجارتهم؛ وبهذا يكون المجال المكاني للبحث يتضمن كل ماذكر.

ويمتد المجال الزمني من أول استقرار في المجال المكاني ليشمل الفترات المتعاقبة حتى ولادة المدينة الرومانية المسورة؛ ويقع البحث في مجال علمي تاريخي جغرافي معتمداً على نظريات تاريخ المدن القديمة في التوضع والنشأة والنمو.

وتأتي أهمية البحث في مخالفته النسبية للكتابات المألوفة عن نشأة دمشق، الأمر الذي يمكن أن يولد اهتماماً أكبر بالمحيط المهمل بالدراسة والتنقيب، والذي يمكن أن يقوِّم تاريخ مدينة دمشق بشكل سليم ودقيق، ويتيح للباحثين تجاوز المقولات التاريخية الثابتة لدى البعض رغم مخالفتها للنظريات العلمية، ويمكن للبحث أن ينال نوعاً من الأهمية العلمية من خلال الدمج المتواضع ما بين الاختصاصات المتعددة في الجغرافيا والتاريخ وتخطيط المدن.

وتتجلى إشكالية البحث في قصور التبريرات العلمية المتوفرة لنشأة مدينة دمشق بمعزل عن محيطهاالحضري، فقد ربط الباحثون نمو المدينة مع جمال الغوطة وشموخ قاسيون على أنهما معطيان جغرافيان، والقليل منهم من ربط المدينة بالتجمعات الحضرية فيهما، لذا كانت الإشكالية تتضح في صعوبة تقبل نتائج العديد من الدراسات حول نشأة دمشق، رغم معارضة موقعها للعديد من التوصيات التي فصلها المتخصصون القدامى عند اختيار مواضع المدن.

ويهدف البحث إلى بيان أهمية النسق الحضري الموجود في المجال المكاني، وأنه كان يسبق ظهور دمشق وترافق مع نشأتها، وأنَّ المنطقة تخضع لتأثيرات إقليمية كان لها تأثير على تميّز بعض المستقرات الحضرية، كما يهدف البحث إلى الكشف عن المواقع الجيدة التي يمكن أن تستجيب لشروط إنشاء مدينة مسيطرة على النسق الحضري، وتوضّح أنَّ موضع دمشق لم يكن منها، وبالتالي لم يكن سبباً في نشأتها.

ولإثبات ذلك، يستدعي البحث الاعتماد على المراجع التاريخية الكلاسيكية التي تتناول تاريخ مدينة دمشق وغوطتها، إضافة إلى كتب الجغرافيين، والمراجع الأساسية في نظريات تخطيط المدن وتاريخها، كما اعتمد البحث على عدد من الدراسات التخصصية الحديثة والمعاصرة، التي تتناول بالتحليل المجال المكاني تاريخياً وجغرافياً وأثرياً، وعدداً من تقارير التنقيبات، والأبحاث والمقالات والدراسات التخطيطية.

واعتمد البحث في متنه على النصوص التاريخية والقواعد الجغرافية والنظريات التخطيطية وتحليلها بتفكير أكثر من التسليم، من خلال تطبيق استخدامات مناهج علمية عديدة، فقد استخدم المنهج التاريخي في العديد من فقراته، واعتمد على المنهج التحليلي المقارن في الوصول المرحلي للنتائج، واستخدم المنهج النظري في عرض الثوابت العلمية، وتم استخدام المنهج الاستنتاجي للوصول إلى هدف البحث؛ وعرض في السياق عدد من الرسوم التوضيحية المركبة من النصوص التاريخية حول الاستقرار في المنطقة، وذلك بهدف الإشارة إلى المواضع التي تتناولها فقرات البحث، دون الاعتماد عليها كبيانات إحصائية أو إجرائية.

وحقيقة كان من الصعوبة بمكان ترتيب فقرات البحث لتداخلها، واختصار ما يمكن اعتباره بدهيات وألفباء منطقة دمشق؛ وقد أتى البحث بعد هذا التمهيد في مرحلتين؛ تبدأ الأولى في عرض تحليلي للموقع الجغرافي وبيان ثوابته المتوفرة من مكوناته الثلاثة: جبل قاسيون والغوطة والمنطقة شبه الجافة، ومن ثم بيان النفوذ الإقليمي الواصل إلية من محيطه والذي يقسم المجال المكاني إلى خمس مناطق: المنطقة الشرقية، المنطقة المفتوحة، المنطقة الشمالية، المنطقة الغربية، المنطقة الجنوبية؛ ثمَّ عرض تحليلي للسكان ونشاطهم في أجزاء المجال المكاني.

ويتجه البحث بعد ذلك إلى تناول تدرج ظهور النسق الحضري في المجال المكاني وفق مكوناته الجغرافية: النسق الحضري في منطقة جبل قاسيون، ثمَّ النسق في المنطقة الشرقية، ثمَّ الغوطة؛ باتجاه إعطاء تقييمٍ وافٍ للنسق الحضري في المجال المكاني، وتقويم ما يراه المخططون المنظرون في أسباب نشأة المدينة في موقعها، ومن خلال محاكاة إجرائية لنظريات النشأة، يصل البحث إلى تقييم نشأة دمشق ضمن النسق الحضري.

وينتهي البحث في خاتمة تشير نتائجها إلى أن دمشق كانت غائبة عن النسق الحضري إلا أنها كانت محوره الديني، وأن هناك أربعة مستقرات كانت مسيطرة على النسق الحضري قبل دمشق، وأن هناك مواقع أفضل من موضع دمشق، ولكن دمشق تميزت بثقلها الديني، ونشأت بتأثير قرارات سياسية.

الموقع الجغرافي والنفوذ الإقليمي:

يشير كل من استرابون[4]، وبتولوميه[5]، إلى أن الحضارة والاستقرار والسياسة ارتبطت بالجغرافيا، وكانت أسيرة المكونات الجغرافية في انتشارها، لذلك كانت الحضارات القديمة تهتم باختيار المواقع الجغرافية لإقامة حضارتها وإحداث مدنها ومسارات حركتها بعناية ودقة، تمكنها من بسط نفوذها وإجراء تحصينات لحمايتها وتأمين مواردها، كذلك كانت المحددات الجغرافية، كالجبال والأنهار والبحيرات والصحارى والبحار، تمثل حدوداً طبيعية يصعب اختراقها، ويستدعي تجاوزها قوة كافية وإمكانيات كبيرة؛ ومن هنا كان هناك ثوابت تتمثل في الموقع الجغرافي ومكونات المجال المكاني، ومتحولات تتمثل في السكان وتفاعلهم مع الثوابت ومقدرتهم على التكيف معها والتحكم بها؛ وبشكل عام، فإنَّ المواقع المتميزة جغرافياً تُعد مكاناً جاذباً لسكناها ولممارسة النشاطات المختلفة فيها، الأمر الذي يتطلب توفر تنوع متغير في مجالها المكاني، سواء أكانت في الجوانب الثقافية أو الدينية أو العرقية أو النشاطات الاقتصادية، والتي تنعكس بعلاقة طردية مع تميز الإستراتيجية الكلية للمجتمع القائم، ويستدعي تغيير تنظيم المكان إحداث تغييرات في هيكلية النظام الإداري الذي يدير شؤون المنطقة، وقد يأتي هذا التغيير من الداخل على شكل انتقال سلمي، أو من خلال ثورات داخلية، أو احتلال خارجي مباشر؛ أنتج هذا السجال المتعاقب تاريخياً في المجال المكاني نسقاً من أشكال الاستقرار يمكن ترتيبها لقراءة النشأة من زاوية جديدة يمكن أن تتوافق مع السرد التاريخي أو يمكن أن تقترب منه، ولهذا فإن البحث ينحى لعرض منطقة دمشق وفق هذا المفهوم على الشكل الآتي[14: 16]:

  • الثوابت:
  • الموقع: من الشروط الهامة للنشأة والاستمرار وتوفير القوة، يتضح بشكل أساسي في الاتصال مع الخارج، ويمكن أن يكون مغلقاً طبيعياً أو صنعياً، ويمكن أن يكون مفتوحاً بشكل كبير من جهاته كافة، أو من أحدها، أو غير ذلك؛ ويمكن للموقع أن يكون ممراً إجبارياً لقوافل دول أخرى، وهذا ما يستوجب وجود قوة قادرة على حماية الحدود وحقوق السيادة وتحصيل العائدات وإجراء المبادلات، من خلال تخصيص منافذ ومحطات آمنة لإتمام ذلك، ويمكن اختيار منافذ للطرقات التجارية على الجبهات المفتوحة وفق النسق الحضري وتتابع الاتجاهات، أو استخدام المنافذ الجغرافية الطبيعية كالوديان بين الحواجز الجبلية ومسارات الأنهار المتاحة على طريق القوافل.
  • الأرض: هي العنصر الأساسي لتشكيل الحدود السياسية، والثروة الحقيقية التي تبنى عليها أركان الحكم، وترتبط المساحة مع قوة الحكم، ويستدعي تغيير حدودها إما الرغبة المطلقة للشعب، أو خوض حروب عسكرية، يتم من خلالها التوسع على ثوابت مكانية لدولة أو سلطة أخرى.
  • البنية الطبيعية: وهي من الثوابت لتعلقها بالأرض، ويمثل المناخ وتوفر المياه، والأراضي الزراعية، والموارد الطبيعية، أهم مكونات البنية، ويمكن تطوير إمكانيات الاستفادة من هذه البنية من خلال استخدامات وإبداعات في مجال المعالجات المناخية، وتطوير أنظمة الري، وتصنيع بعض الاحتياجات من الموارد المتاحة في هذه البنية.
  • الهيئة والتضاريس: من الثوابت المتعلقة بالأرض، تتشكل هيئة الأرض من تضاريس مختلفة، وغالباً ما كانت الحدود عبارة عن تضاريس متميزة، يعبر تجاوزها عن الخروج من نفوذ والدخول تحت سيطرة أخرى، وغالباً ما كانت هذه العملية تتم بهدف التبادل التجاري والثقافي ما بين الجوار القريب أو البعيد، وتتميز المناطق الحدودية بقابلية أسرع في الاستيعاب السكاني والثقافي والمهني من المناطق الداخلية، عن الموجودة داخل المجال المكاني، ويمكن تمييز هذه المناطق من تعددية أجناسها ونشاطاتها وثقافاتها وسرعة نموها؛ ويمكن للتضاريس الداخلية التأثير على توزع السكان والنشاطات داخل المجال المكاني العام، وتؤثر التضاريس على عوامل الاستقرار وكثافته.
  • المتحولات:
  • السكان: يناقش موضوع السكان على أنه عنصر متحول ومتغير هام وفعال على الثوابت المتعلقة بالمجال المكاني، ويعد موضوع حجم السكان من الشروط الأساسية لنمو الموقع، ويصاغ من حيث الكثافة، ويدل على حجم النشاط وقوة الدفاع عن المكان، ويشير إلى إمكانية الهجرة إليه أو منه، ولكن بعد ربطه بالإمكانات الاقتصادية؛ ويشير تنوع السكان إلى تراكم وفود هجرات إلى المكان.
  • الموارد الطبيعية: وهي موارد تتعلق بالنشاط والمكان يمكن أن تزيد أو أن تنقص، مثل الزراعة والصيد، ويمكن أن تشمل الأخشاب واستخراج المعادن والأحجار الكريمة، ويمكن أن يضاف إلى ذلك عائدات مرور القوافل، وتتوقف قيمة المجال المكاني على القيمة الأساسية لغزارة ثرواته ونوعيتها، والثروة هنا الانتاجية القابلة للمبادلات التجارية، ولا يكفي توفر الثروة دون الانتاجية، ولا يمكن إجراء العمليات التبادلية دون وجود خطوط تجارية، وغير ذلك؛ وهذا ما يفرض نوعاً من العلاقات التكاملية بين السكان والمجال المكاني.
  • البنية الاجتماعية: وهي المؤشر الأوضح لقياس حجم تأقلم السكان مع البيئة الطبيعية، ومن أهم الدلائل في تحليل أحداث التفاعل التاريخي بين الثابت وما هو متحول؛ وتتضح البنية من خلال خصائص المجتمع الثقافية، والدينية والعادات والتقاليد والممارسات والنشاطات واللغة واللهجات المحكية، والتجمعات العرقية والعقائدية؛ ويمكن دراسة توزيع السكان استناداً لمعتقداتهم، فيمكن ملاحظة تكتلات دينية طائفية تكون متآلفة في احترام معتقداتها المختلفة كما كان سائداً في عبادات آلهات المجتمعات القديمة، أو متناحرة كما في المجتمعات التي ظهرت فيها الأديان السماوية بدءاً من اليهودية، وتظهر في هذه الحالة على شكل بنيات سياسية غالباً ما تكون الحروب أوضح وسائل التفاهم فيما بينها.

التفاعل في بيئة المجال المكاني:

تقع منطقة دمشق وسط الجهة الغربية لبلاد الشام على حافة الصحراء الشامية، في ظهر الحاجز المزدوج المكون من جبال لبنان، والذي يفصلها جغرافياً عن الشريط الساحلي؛ وينبع في هذه السلسلة من الجبال نهران يجريان شرقاً وهما: نهر إبانة أو بردى[6] ونهر فرفرة أو الأعوج[7] المذكوران في الكتاب المقدس[8]، واللذان كانا سبباً في نشأة الغوطة، يضاف إليهما مياه عين منين، انظر الشكل (1)؛ وتحمي شُعب الجبال، وأقربها جبل قاسيون، سهل دمشق من الشمال والغرب وبعض الجنوب؛ ويحمي جبل المانع المدينة من الجنوب بعض الحماية، ولكنها مكشوفة من الشرق، وتقع دمشق على ارتفاع نحو 2300 قدم فوق سطح البحر، تتمتع بمناخ عام معتدل، وتمتد على مساحة محصورة محددة لا يمكن زيادة رقعتها بسبب المحددات الجغرافية الطبيعية المحيطة بها.

وتقسم المنطقة مناخياً حسب مكوناتها الجغرافية، كما في الشكل رقم (2)، إلى ثلاث مناطق: قاسيون والغوطة وشبه الصحراوية، تتباين أحوال الطقس فيما بينها بوضوح سواء من حيث الحرارة والرطوبة والهواء، استقر الإنسان فيها، وكان لنهر بردى وأفرعه أثر كبير في الانتشار عليها؛ وحسب المصادر، فإنَّ الإنسان هبط من الجبل إلى السفوح فأطراف البحرتين، وأطراف الغوطة، ثمَّ أقام فيها، ويمكن وصفها على الشكل الآتي:

  • جبل قاسيون: من أهم مكونات المنطقة، لا يمكن فصله عنها، وهو من أعظم مظاهرها، يمتاز بموقعه وبإشرافه على الغوطة الفسيحة، يعزز أهميته مرور نهري يزيد وثورى؛ يتصل من جهة الغرب بسلسلة جبال لبنان، وقد عملت مياه بردى مع الفيجة على فصله عن جبل المزة المتصل بجبال الشيخ وحوران، وعملت مياه منين على فصله من جهة الشرق عن سلسلة جبال القلمون الممتدة إلى منطقة حمص.

وقد تنوعت الآراء في أصل التسمية، فقيل: إنَّ تسميته جاءت من قساوة صخوره، وهناك من يقول: بإنَّه قسا على أن يأخذوا منه الأصنام؛[34: 28] وتشير إليه بعض المراجع الأجنبية باسم آسوس، أو كاسيوس، ويُعتقد بأنَّ هيكلاً كان يعلوه، بني إكراماً للإله المشتري، وكان يسمى: Jupiter Casius،[44: 751] وفي رواية أخرى[45: 269] أشير إلى وجود معبد لكبير آلهة دمشق وهو يحمل بيده اليمنى ثمرة الرمان دلالة على قدرته المتمثلة في حماية القشرة المدرعة لما بداخلها، وأنَّ الرومان عندما قدموا إلى المنطقة أطلقوا عليه التسمية السابقة نفسها.

ولجبهة قاسيون الشرقية سفحان يفصل بينهما نهر يزيد، فما كان على ضفته الشمالية فهو السفح الأعلى، وهو سفح كبير واسع خال من الماء، لم يكن يُنتفع فيه إلا بزرع شيء من الحنطة والشعير المسقيين بماء السماء، ولم يكن فيه شيء من البناء إلا محلة دير مران، وإلا بعض دور قليلة متفرقة في أنحائه وبعض المباني الدينية، ومغارة الدم ومغارة الجوع وكهف جبريل؛ أما السفح الأدنى ما كان على ضفة يزيد الجنوبية، وهو سفح مزدهر وافر المياه خصب الأرض يزرع طوال فصول السنة، وكان عامراً آهلاً بالسكان لسهولة العيش فيه.[35: 44]

وبحسب الميثولوجيا الدينية للمنطقة[35: 38]، فقد أحيط قاسيون بالأساطير ونقشت فيه الأماكن المقدسة، ففي سفحه الأدنى في بيت أبيات كان يسكن أبو البشر آدم، وفي شرقه التقى آدم بحواء، وفي أعلاه قتل قابيل أخاه هابيل، ففتح الجبل فاه لفظاعة هذا العمل يُريد أن يبتلع القاتل، وأخذ الجبل يبكي وتسيل دموعه حزناً على هابيل، وبقي لون الدم على صفحة الصخرة التي قتل عليها هابيل ظاهراً بادياً، وفي كهف جبريل جاءت الملائكة إلى آدم تعزيه بابنه هابيل؛ وفي شرقه كان مولد إبراهيم ومصلاه؛ ومن أتاه لا يعجز في الدعاء، وفيه احتمى إلياس من ملك قومه، وفيه صلى إبراهيم ولوط وموسى وأيوب، وفي غربيه الربوة التي آوى إليها المسيح وأمه، وقرب الربوة في النيرب كان مسكن حنة أم مريم جدة المسيح؛ وغير ذلك من الأخبار؛ وفيه عدد من المواضع والشواهد التي تظهر أهمية دور هذا الجبل في أسبقيته على الاستقرار فيه، مثل: كهف الأربعين[9] وكهف برزة[10]، ومغارة أهل الكهف أو آدم أو جبريل، ومغارة الجوع[11] ومغارة الدم[12]، ومغارة الشياح[13]، والكثير غير ذلك.

  • الغوطة: لم يتفق القدماء على تعريف الغوطة[14]، قال المقدسي[15]: “إنَّ مساحتها مرحلة[16] في مثلها”، وقال القزويني[17]: “إنَّ طولها مرحلتان في عرض مرحلة”، وقال ياقوت[18]: “إنَّ استدارتها ثمانية عشر ميلاً[19]“، وقال شيخ الربوة[20]: “إنَّها من حيّز دمشق، ناحية يكون طولها ثلاثين ميلاً، وعرضها خمسة عشر ميلاً”.

وتطلق تسمية “الغوطة” على الصقع المروي حول دمشق بين الجبل والبحيرتين[21]، وهي الكورة[22] التي فيها الحدائق والبساتين؛ وقد اصطلح على أن الغوطة هي: كل ما أحاط بدمشق من قرى، وكان من الأرض المطمئنة التي تروى من نهر بردى، وما اشتق منه من الجداول والأنهار الصغيرة أو القني، وعلى هذا فحدّ الغوطة يبدأ غرباً من فوهة وادي الربوة فالمزة فداريا، وينتهي بالجنوب عند صحنايا والأشرفية وسبينة وسبينات وحوش الريحانية ومن الشرق الريحان والشيفونية وحوش مباركة وحوش الأشعري وحوش المتبن وحوش خرابو والفضالية والنشابية وبيت نايم، وينتهي في الشمال بجبلي قاسيون وسنير[23]، ويشرف الجبل الأسود وجبل المانع من الجنوب، ومن الشرق أرض المرج[24].

وتأخذ الغوطة شكل مروحة فيضية، تقع أعلى نقاطها عند مخرج بردى من خانق الربوة، ويشتد الإنحدار من قمة المروحة الفيضية، وتبدو فيها خطوط الارتفاعات المتساوية على شكل موجات مركزية تنطلق من مخرج النهر عند خانق الربوة.[26: 420] 

المنطقة شبه الجافة: وهي المنطقة المتناهية من الغوطة باتجاه الشرق والتي تضم منطقة بحيرتي العتيبة والهيجانة، تفصل الغوطة عن البادية، وهي منطقة تلال أثرية موغلة بالقدم، وهي تمثل منزلاً للمراحل الأولى للاستقرار في المنطقة التي كانت تعتمد على الصيد والمحاصيل البرية، وقد سُكنت لقربها من بحيرتي العتيبة والهيجانة؛ ثمّ أصبحت معقلاً لقبائل العرب ومدخلاً لهم على منطقة الغوطة، وهي منطقة مستوية تخلو من العوائق الطبيعية، يصعب فيها العيش إلا على الرعي، وتصعب حمايتها لامتدادها ولسيطرة البدو عليها؛ وقد نزلها الوافدون من البدو الرحل ومن ثمَّ استوطنوا بها، وهؤلاء هم في الواقع أنصاف البدو الذين أخذوا بأسباب الحياة المستقرة على أطرافها، ثم أسسوا قرى خاصة بهم أو أقاموا إلى جانب القرى القائمة في هذه المنطقة[10: 3].

النفوذ الإقليمي في محيط المجال المكاني:

يمثل موقع المجال المكاني بأكمله ميناء برياً هاماً يستقطب القوافل وتجارة شمال سورية والعراق وأرض الجزيرة وبلاد العرب وبابل، والبحر المتوسط ومصر، وأصبح في أوقات مركز هذه التجارة؛[8: 95] وهو يصل ما بين عقدتين أساسيتين لتوزيع القوافل هما تدمر في الشرق وبعلبك في الغرب، وكانت المنطقة محل أطماع الممالك القوية لما فيها من صناعات ومزروعات وأخشاب وماشية،[17: 133] وهي تتوضع وسط منطقة صراع بالغ العداء بين الإمبراطوريات المتنافسة للسيطرة على الطرق التجارية ليمنع كل منها وصول البضائع للأسواق الأخرى، ولتحصيل عوائد مرور البضائع عبرها.

وقد تجلّت أسباب حروب الحضارات أكثر ما تجلّت في صراعها على الطرق التجارية التي تمدها بالبضائع المختلفة من الحرير والنسيج والتوابل وتأمين الغذاء ومستلزمات الحياة والمواد الضرورية لبناء السفن وتصنيع السلاح ولتمنعها عن غيرها من أعدائها، وكانت عملية السيطرة على الطرق التجارية وتأمينها وحمايتها من الأمور التي تشغل حيزاً كبيراً من النشاط العسكري والسياسي لشعوب المناطق الموجودة على هذه الطرق، فالطرق التي تخرج عن السيطرة العسكرية كانت تضمنها الاتفاقيات السياسية، وكان يوضع على الطرقات العديد من المراكز للحماية والمراقبة الجمركية التي كانت تحصل ضرائب مرور القوافل، وكانت مناطق التبادل التجاري الواقعة على تقاطعات الطرق من أهم المواقع التي يجب الحفاظ عليها ضمن السيطرة؛ لذلك فإنَّ الموقع الجغرافي يأخذ أهميته الكبيرة خصوصاً عندما ترافقه ميزات تتعلق بتوفر موارد غنية تزيد من عملية الاستقطاب له. 

وتشير المراجع التاريخية[29: 178] إلى أن الطرق التجارية التي تربط سورية مع بلاد الرافدين تمر عبر قطنا[25] وماري[26]، وأن أحد هذه الطرق يخترق الصحراء ماراً عبر تدمر ليصل سهول حمص، ومن ثمّ سواحل البحر المتوسط أو يتجه باتجاه سهل البقاع مع مسار نهر العاصي، ومن بعلبك إلى سهل الزبداني ووادي بردى فمنطقة دمشق؛ أو يخرج من تدمر باتجاه الجنوب الغربي نحو الضمير وعدرا ويصل منطقة دمشق من دوما، ثمَّ يتابع باتجاه فلسطين والبحر الأبيض المتوسط أو سيناء فمصر وشمال إفريقيا، وطريق آخر يسير جنوباً إلى بترا في شرق الأردن والجزيرة العربية التي تصلها البضائع من السواحل المحيطة بها من الهند والسند وبلاد العجم؛ وقد أصبحت دمشق بفضل هذا الموقع مركزاً هاماً منذ أقدم العصور؛[34: 358] وتشير المصادر التاريخية إلى انتشار محطات جباية الرسوم والجمارك على هذه الخطوط التجارية.

وأما المسافات بين المنطقة وما يجاورها، فمنها إلى بعلبك يومان، وإلى طرابلس ثلاثة أيام، وإلى بيروت ثلاثة أيام، وإلى صيدا ثلاثة أيام، وإلى أذرعات أربعة أيام، وإلى أقصى الغوطة يوم واحد، وإلى حوران والبَيَنِيَّة يومان، وإلى حمص خمسة أيام وإلى حماة ستة أيام، وإلى القدس ستة أيام، وإلى مصر ثمانية عشر يوماً، وإلى غزَّة ثمانية أيام، وإلى عكا أربعة أيام، وإلى صور أربعة أيام، وإلى حلب عشرة أيام؛[8: 22] وقد ازداد رواج المنطقة بعد سقوط تدمر إذ تحولت إليها تجارة الهند والعجم والعراق وقصدتها تجارة أوروبا، فعززت ثروتها وعلا شأنها؛[8: 63] ولم تصبح دمشق قصبة ولاية من الولايات أيام الرومان، ولعل من أسباب ذلك انجذابها نحو الصحراء، وقد ألحقت في التقسيم الإداري الروماني الذي تم بعد لبنان الفينيقية التي كانت قصبتها السياسية حمص؛ ونجد دمشق، وهي المدينة التي لم تخضع مباشرة لمشايخ العربان الذين كانوا يحكمون المناطق المجاورة، بل لم تخضع للغساسنة، ومع ذلك فقد كانوا يحكمون المناطق الملاصقة لدمشق؛ واستفادت دمشق لاحقاً من إعطائها صفة مقاطعة رومانية تحت قيادة الإمبراطور ديوقلسيان[8: 93]، وأصبحت مركزاً عسكرياً هاماً خلال حربها مع الفرس؛[8: 51] ازدهرت بعد ذلك كمركز تجاري تلتقي عندها القوافل الصحراوية، ووجه الرومان عناية خاصة لتقوية المدينة وذلك برصف الطرقات الموصلة إليها وبتسويرها.

ورغم الأهمية الموضحة للموقع ضمن شبكة خطوط القوافل- لما تتمتع به منطقة دمشق من إمكانية توفير الماء والغذاء وانجاز العمليات التجارية، ولدورها في تأمين الحماية، وتزويدها بالخدمات، وتوفير الأمان، بما يضمن استمرار سيرها لغايتها، ولأنَّ المرور عبرها يمكن أن يختصر المسافات والعديد من المشاكل التي يحتمل أن تتعرض لها القوافل فيما لو اختارت الطرقات الأبعد والأطول- إلا أن منطقة دمشق لم تكن يوماً سوقاً أو ممراً إلزامييين[26: 126]، خصوصاً في فترات الأزمات، فقد أشارت العديد من الأحداث التاريخية إلى فترات غابت فيها تجارة المنطقة، أو نشطت، بحسب الأحداث التي تعاقبت عليها، وتعود إمكانية تجاوز منطقة دمشق على خطوط القوافل لتوفر الطرق البديلة، من خلال دوران الطريق الصحراوي القادم من تدمر حول شرقها في منطقة البادية والاستمرار بالطريق نحو بترا، وهو طريق أطول ولكنه ممكن لتوفر محطات القوافل عليه؛ أو يمكن عدم المرور بالمنطقة أصلاً، واستخدام المعبر الشمالي من مملكة قطنا باتجاه سهل البقاع، والتوجه غرباً باتجاه الساحل، أو جنوباً باتجاه بترا، دون المرور بمنطقة دمشق.

ولهذا كان هناك نوع من التنافس الخفي في النفوذ الإقليمي على منطقة دمشق لتأمين مرور قوافل الممالك والأقوام المتاخمة لها.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ منطقة دمشق كانت معزولة عن محيطها الإقليمي بحواجز جغرافية طبيعية سواء من الشمال والغرب- لوجود سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية التي يصعب الوصول إليها من البحر لوعورتها وثلوجها- أو من الشرق والجنوب لأن معظم تلك المناطق صحراوية لا ماء فيها، تجعل عابرها فريسة لسكان البادية الذين يتربصون هذه الغنيمة السهلة؛[9: 380] إلا أنها كانت تصل إلى جوارها من منافذ محددة على الجهات الأربع، ففي الغرب كان المعبر الوحيد هو خانق الربوة بين جبلي قاسيون والمزة أو عنتر، وفي الشمال كان المنفذ الرئيسي مضيق منين الفاصل بين قاسيون وجبل العتا من سلسلة جبال الحرمون، وفي الجنوب كانت جبال المانع تفصلها عن سهول حوران، وكانت الكسوة المنفذ الرئيسي بين جبلي معاني ومارا؛ وكانت مفتوحة شرقاً على البادية بشكل كبير إلا أنها كانت محددة بمنافذ استخدمتها القوافل طرقاً لعبور الفيافي عبر محطات استراحة وتزود بالمياه والمؤن؛ وفي ضوء المنافذ التي كانت تصل دمشق بمحيطها الجغرافي يمكن تقسيم المنطقة لجهات أساسية أربع على الشكل الآتي:   

  • المنطقة الشرقية: ويطلق عليها اسم بادية[27] الشام، عبارة عن نَجْد مثلث الشكل، يختلف فيها توزع نباتات الرعي من مكان لآخر حسب التضاريس ونوعية التربة، وتختلف من سنة لأخرى تبعاً لكميات هطول الأمطار، تعتبر امتداداً لشبه الجزيرة العربية من الشمال، وتقع جنوب شرق سورية وتضم شرق الأردن وغرب العراق؛ ويسمى القسم الجنوبي الأوسط منها “الحماد”[28]، وهي عبارة عن مراعٍ طبيعية لأهل البادية؛ وتعتبر مدينة تدمر هي المركز الرئيسي لأهل البادية في تلك المناطق؛ وتسمى المناطق الجنوبية منها بـ”حماد الضمير”؛ وهي ديار البدو ومنتجعهم ومسارح غدواتهم وروحاتهم، ومطارح حروبهم وغزواتهم، يتجولون في أرجائها الشاسعة، وينجعون سعياً وراء الكلأ والماء والدفء لماشيتهم، حسب تقاليد معروفة واتفاقات محدودة بينهم، كل منهم في بقعة منها، تآلفوا عليها وتقاسموها، وهم اكتسبوا حق التجوال والنجعة التي اختصوا بها إما عقب حروب طويلة مع الذين كانوا يحتلونها من قبلهم، وإما نتيجة الحلول والدخول بين عشيرتين كانتا موجودتين سابقاً.[11: 71]

وتعد حماد الضمير من أهم المراحل المقطوعة للقوافل من تدمر[29] باتجاه منطقة دمشق عن طريق الضمير[30] وعدرا وصولاً إلى دوما، وغالباً ما كانت تقع الضمير، وما يليها باتجاه منطقة دمشق، تحت نفوذ حكم القوة الموجودة بمملكة تدمر، تؤمن لها الحماية والأمان من هجمات البدو؛ وغالباً ما كان يستدعي هذا التواصل وجود نوع من التوافق ما بين هذا الجزء من دمشق مع السلطة المهيمنة على الطريق التجاري للقوافل القادمة من الشرق، ونظراً للمصالح المتبادلة والفائدة المشتركة فإنَّ المنطقة الشرقية المتمثلة بدوما وما حولها غالباً ما تدين بالوفاء، إذا لم يكن نفوذ كامل، لقوة الحكم في تدمر، من خلال عملائها ومعاملاتها مع هذا الجزء من المجال المكاني؛ وتتميز دوما بعدد من المعطيات التي تظهرها على أنها من المواقع المناسبة لنشأة مدينة مسيطرة على وسطها الحضري، منها موقعها على الطرف الشمالي الشرقي للغوطة بالقرب من المنطقة المرتفعة، يسهل الدخول والخروج منها، وهي على مقربة من الخطر المستمر القادم من قبائل البادية.

  • المنطقة المفتوحة: وهي المنطقة المفتوحة تماماً على البادية تمتد على شكل قوس كبيرة شرقاً جنوب المنطقة السابقة، وهي عبارة عن مساحة شاسعة تقطنها القبائل، تصعب حمايتها ويتعذر تحصينها، وكانت مهنة عرب الشام قيادة طرق القوافل وحمايتها وتقديم الخدمات لها، أو صدها ومهاجمتها، ولم تكن لديهم مهنة تذكر[20: 180]؛ وكانت الإمبراطوريات تهاب القبائل المنتشرة في الصحراء على مسارات القوافل ما بين الحواضر، وكانت تتوددها وتقدم إليها الهدايا وتوفد الوفود، وعرفت هذه القبائل كيف تستثمر في ظروف عديدة منافسة الإمبراطوريات المتصارعة لمصلحتها التجارية[12: 127]، وكان لقبائل البدو النفاذ من مناطقهم مباشرة إلى التجمعات الحضرية المنتشرة في الغوطة، فقد كان هذا الجزء مقصداً لهم[8: 38] بحثاً عن الأراضي الخصبة وعن الماء والغذاء في أوقات الجفاف التي كانت تصيب منطقتهم، وكانت القبائل تتعامل مع الغوطة إما عن طريق تبادل المنتجات حيث كانت الأنعام ومشتقاتها مقابل الغذاء والأخشاب أو عن طريق الإغارة على البلدات الموجودة في هذا الجزء؛ ولكن بعد فترة من الوقت بدأت هذه القبائل تفضل الاستقرار على الحدود، وابتداءً من القرن الثامن قبل الميلاد وُجِدت قبائل عربية مستقرة في هذه المناطق كان لهم دور في تاريخ دمشق[4: 58].

وكان الرومان في هذه الديار يحاذرون، أبدا،ً عَادية الأعراب على المعمور من هذه الكورة وما تاخمها، فأقاموا لذلك على سيف البادية مخافر لتأمين نواحي الغوطة من عيث العائثين، وتكون خط الدفاع الأول عن دمشق الحاضرة من اعتداء المعتدين، ذلك أنَّ الأعراب من القديم، ولاسيما عرب شمال الجزيرة إذا أحسوا بأنَّ سماءهم شحَّت وأرضهم أقحطت، لا يرون أمامهم غير أرجاء الشام يتسللون إليها للانتجاع، فيفسدون زروعها، ويحتطبون المثمر وغير المثمر من أشجارها، ويروون أنعامهم من مياه غزيرة جمعها أهلها لشربهم وإرواء ماشيتهم.[40: 67]

وعلى هذا يُعتقد أن القرى الموجودة في محيط الغوطة المفتوح على منطقة الحماد هي لأقوام أقرب إلى البداوة[31]؛[11: 281] فيما تعود الآثار داخل الغوطة إلى المجموعات البشرية الأكثر تحضراً، والتي كانت تعتمد على الزراعة بشكل رئيسي؛ ولا يشترط وجود توافق اجتماعي ما بين المجموعتين، وأغلب الظن أن قرى الغوطة كانت عرضة للغزو  لما فيها من خيرات على مدار السنة؛ ولخصوصية الموقع وتماسك منطقة الغوطة وتوزعها ما بين عدة قوى محلية تلتقي مناطق نفوذها في دمشق المعبد، كان ظهور تفوق لمدينة كبيرة في إحدى هذه المناطق الأربع أمراً صعباً جداً.

  • المنطقة الشمالية: وهي المنطقة التي تضم سلسلة جبال حرمون الواصلة حتى مملكة قطنا قرب حمص ومن بعدها ماري ويمحاض[32] وإيبلا[33] وما بعدها، والتي تبدأ من برزة مروراً بمضيق وادي منين الذي يفصل جبل قاسيون عن الحرمون، فحلبون[34] عبر الجبال باتجاه الشمال، وهي طريق سهلة نسبياً وأقصر من الطريق الغربية؛ ولكنها أقل حماية وأقل مياهاً، وتمر بعدد من البلدات والمستقرات التي كانت تخضع لحكم مملكة قطنا قرب حمص أو لما يليها؛ وكانت تعبرها القوافل ما بين الشمال والجنوب، وهذا ما يشير إلى أن منطقة برزة كانت مفتاح الدخول لهذه المنطقة من الشمال، وبالتالي فهي وما حولها من مستقرات كانوا يدينون بالولاء، بشكل نسبي، وفق المصالح المشتركة للحكم المسيطر شمالاً.
  • المنطقة الغربية: وهي المنطقة الواقعة ضمن سلسلة جبال لبنان الممتدة من مخرج خانق الربوة[35] الذي يفصل جبل قاسيون عن جبل المزة باتجاه الغرب، مروراً بوادي بردى فسهل الزبداني فوادي سرغايا حتى بعلبك في سهل البقاع، ليتابع بعد ذلك بعدّة اتجاهات شمالاً وشرقاً وجنوباً؛ وقد مثل هذا المحور جانباً حضارياً متميزاً متماسكاً ومتجانساً في معظمه، غالباً ما كان يخضع للممالك الموجودة في سهل البقاع مثل بعلبك وعنجر، وقد أشير في الوثائق التاريخية[30: 12] إلى أنَّ دمشق كانت ضمن مملكة آبوم في كوميدي[36]؛ وكانت ضمن منافسات القبائل على الخطوط التجارية، فسيطر عليها اليطوريون مدة طويلة، وفرضوا سيطرتهم على كامل المنطقة، حتى أنَّهم وصلوا إلى المنطقة الشمالية من دمشق ؛ ويتميز هذا المحور بوفرة مياهه وخصب شريط الأراضي المجاورة للأنهار، كما يتميز بتحصينه الطبيعي من شعب الجبال التي تشكل الوديان المنغلقة، ويضم مساره عدداً كبيراً من المستقرات المنتشرة عليه، والتي كان لها دور كبير في تاريخ هذه المنطقة.

وعلى الرغم من وعورة هذا الطريق إلا أنَّه يعد من أهم الطرقات وأمنعها في المنطقة بسبب كثافة المستقرات فيه ولأهمية ربطه الجغرافي، فقد كانت تعبره القوافل المتجهة إلى سواحل البحر المتوسط أو القادمة منها، وتصل دمشق بمنطقة حصن معابد بعلبك التي تتميز بالأراضي الغنية بالثروات، والتي يتقاطع عندها طريق هام يصل الشمال بالجنوب ويتميز بالسهولة والخيرات الوفيرة.

وتعد هذه المنطقة من المناطق المناسبة لتكوين مجتمعات قوية متماسكة يصعب اقتحامها عسكرياً، وغالباً ما كانت المنطقة تخضع للممالك القائمة في سهل البقاع، إلا في حالات سيطرة القبائل عليها، وفي هذه الحالة كانت تغلق منافذها، وتضع مركزها في منطقة متوسطة على المحور الممتد من بعلبك حتى خانق الربوة، المطل مباشرة على دمشق، وتظهر الأهمية البالغة لهذا الخانق من خلال علاقته بتحكم توزيع المياه على كامل أجزاء منطقة دمشق؛ وعلى هذا فإن منطقة دمشق لا يمكن إلا أن تكون على علاقة جيدة منظمة نسبياً بالمتنفذين على هذا المحور، وهذا يعني امتداد النفوذ إلى الأجزاء المجاورة له، إلى جهة المزة، أو جهة منطقة دير مران التي كانت عامرة ومتصلة تماماً بمنطقة خانق الربوة، وكانت موصولة بطريق مباشر مع منطقة برزة، وبهذا فإن الجهة الغربية من منطقة دمشق كانت تدين بالولاء للسلطة المتنفذة على المحور الغربي باتجاه جبال لبنان؛ وتجدر الإشارة إلى أن منطقة دير مران مع الربوة من البقع الملائمة لإنشاء حاضرة تستند إلى جبل قاسيون وترتفع لتطل على كامل الغوطة وتتحكم بمصادر مياه المنطقة وتتمتع بميزات بيئية وجيولوجية عالية، وتتوفر فيها مواد البناء ومستلزماته.

  • المنطقة الجنوبية: وهي المنطقة الممتدة من خلف جبال المانع باتجاه الجنوب، والتي تعبرها القوافل التجارية من الجنوب وصولاً إلى داريا عبر منفذ الكسوة، آتية من منطقة البترا، وكانت تفد القوافل من  محورين، الأول من شرقي الأردن وفلسطين وسيناء، والثاني من شبه الجزيرة العربية، وقد كانت هذه المنطقة محل تنافس مع عدد من القبائل السامية[37] التي تحاول السيطرة على منطقة بيت المقدس والطريق الموصلة إلى سيناء وإلى شبه الجزيرة؛ [24: 115] ويمكن القول إنَّ هذه المنطقة الممتدة إلى الشرق من نهر الأردن قد عرفت صراعات عديدة لتصل ليد الأنباط[38] الذين اتخذوا البتراء[39] عاصمة لهم في أواخر القرن الرابع ق.م، واتخذوا من المنطقة الجنوبية من فلسطين مستقراً لهم،[17: 377] وقد امتد نفوذ الأنباط ليشمل المنطقة من حدود دمشق مع حوران شمالاً حتى النقب جنوباً.

وهذا ما يدل على أن طريق القوافل القادم من الجنوب كان ضمن نفوذ سلطة حكم الممالك القائمة بالجنوب في شرقي الاردن أو فلسطين، وكانت تتصل مع دمشق من خلال بعض القرى الواقعة في الجزء الجنوبي من غوطة دمشق والتي كان أوضحها بلدتي كفرسوسية وداريا؛ ويعد هذا الجزء الجنوبي من دمشق من الأجزاء التي تنال مياهاً وافرة من نهري بردى والأعوج، وهي منطقة سهلية يُعد مناخها وهواؤها من أفضل بقاع منطقة دمشق، تتمتع تربتها بالخصوبة المناسبة للتشجير والزراعة الموسمية، وهي على تخوم أراض غنية بالغلال والمحاصيل الغذائية، وتقع على طريق هام للقوافل المحملة ببضائع متعددة؛ وطبقاً للمصالح المشتركة في تأمين وفود القوافل وتنشيط عملية التبادلات التجارية، ونظراً للسهولة النسبية في الوصول إلى هذا الجزء من دمشق، فقد كانت داريا والمستقرات المحيطة بها على توافق كبير مع السلطة التي تحكم المنطقة الجنوبية الملاصقة لها وتدين لها بالوفاء وبعض النفوذ.

ويتضح من العرض السابق أن مصير المنطقة كان يتأثر بشكل كبير بالقبائل البدوية، وبالغزاة القادمين من الشرق أو من الشمال من بلاد الرافدين؛ أو بالغزاة الآتين من الجنوب أو الجنوب الغربي عبر الانهدام السوري الإفريقي من مصر؛ وتكون المنطقة ضمن نطاق صراع الإمبراطورية والممالك المحيطة بها.[9: 379]

يقول ابن عساكر: “إنَّ ظاهر دمشق كان مساكن القبائل، وكان قرى متصلة وأبنية متقاربة، فخرب ذلك كله في الفتن والحروب والحصارات، وباد أهلوه وتمادى عليه الخراب، وقل موضع حفر إلا وجد فيه أثر العمارة من الجهات الأربع من البلد، وكان معموراً بالمساكن والسكان، فباد وبادوا، فسبحان من لا يبيد ملكه”[2: 93]؛ وكان يصيب الخراب على الغالب الأقرب فالأقرب من القرى إلى دمشق، أو ما كان على طريق الفاتحين كالمزة في الغرب، والقابون في الشمال، فقد خربتا غير مرة.[40: 156] وكان الحاكم إذا غضب على أهل قرية يأمر بحرق أشجارها وتدمير عمارها، وكثيراً ما كان الفاتحون ينزلون الويلات بالغوطة، ويحرقون ما في ضاحية دمشق إذا أرادوا حصارها[40: 157].

يشير الشكل رقم (3) إلى الطرقات التجارية الموصلة إلى دمشق، ويوضح الشكل (4) مناطق نفوذ المستقرات المتلقية للطرق التجارية، والطرق الموصلة فيما بينها بشكل محيطي أو عبر الغوطة مروراً بالمنطقة المقدسة، إضافة للمنطقة الشرقية المهددة بهجمات قبائل البدو، وأن جميع المناطق تتقاطع في المركز.

وعلى هذا فإنَّ محيط دمشق يفرض نوعاً من النفوذ إلى عمق المنطقة من اتجاهات أربع، وكانت أجزاء المنطقة، في الأوقات المتأخرة، موزعة على نفوذ عدة جهات، وهذ أمر غير مستبعد لأنها كانت فريسة سهلة للبدو الغازين لها باستمرار، رغم تضامن المستقرات مع بعضها لحماية المنطقة، إلا أنَّ مهمة توفير الأمن والطمأنينة لسكان المستقرات كانت تأتي من التضامن مع طرف قوي له مصالح مشتركة في درء العدو المشترك الذي يغزوا قوافلها، وكان العمل والإنتاج ودفع الضرائب بالنسبة للسكان أفضل من الغزو والقتل؛ ولكن الأجزاء كانت تلتقي في المكان المقدس في دمشق الذي يشمل معتقدات سكان المنطقة وآلهة محيطها، ولم تكن دمشق في بداياتها محط قوافل، بل كانت مكان تعبد يجتمع  فيه سكان أجزاء المنطقة لإجراء طقوس العبادات، وفصل النزاعات، وإتمام عمليات التبادل التجارية، ضمن سلطة معبد دمشق وعلى أملاكه؛ في شكل حصن محمي بسلطة دينية وقوة إلهية، تتناسب مع الدور السياسي الذي كانت تؤديه دمشق خلال الفترات التاريخية المتعاقبة؛ وكانت مراكز محطات القوافل تتوزع في أطراف غوطة دمشق في أربعة مراكز رئيسية على الأقل، حسب تفرق الطرق منها إلى الجهات المحيطة المذكورة آنفاً؛ ومن هنا نال موقع دمشق أهمية كبيرة في السعي للسيطرة عليه، على اعتقاد بأن من يفرض نفوذه على المكان المقدس يبسط نفوذه على كامل منطقة دمشق؛ ويعتقد أن هذا الولاء ظل مستمراً حتى خلال فترات الحكم القوية عندما تشكلت دمشق، وظلت هذه المناطق تتأرجح في ولائها لدمشق حتى فترة الفتح الإسلامي.

السكان والنشاط في المجال المكاني:

 يصعب تعقب أصول سكان منطقة دمشق، إلا أنَّه ساد اعتقاد[19: 101] بأنَّ أصل شعوب المنطقة من أقوام الجزيرة العربية[40]، فتعدد الهجرات العربية واستمرارها إلى بلاد الشام عبر قرون عديدة، قبل التاريخ وبعده، يؤكد ترسخ فكرة أنها أرض الخلاص المليئة بالحضارة والخير والمياه العذبة، وأنها الملاذ الأهم بالنسبة لهم في سبيل تجنب حياة القلّة والتقشف والترحال التي كان يعيشها العرب في شبه الجزيرة العربية نتيجة الظروف البيئية والطبيعية؛ فهاجروا إليها تباعاً بعد انتشار أخبارها وصفاتها ومميزاتها عن طريق القوافل التجارية؛ وتؤكد المراجع التاريخية أن المراحل الأخيرة من الألف الثالث ق.م وبدايات مرحلة الألفية الثانية ق.م كانت قد شهدت توالي هجرة جماعات من عرب شبه الجزيرة العربية إلى الشام؛ وترجح الدراسات[20: 78] أنَّ عدداً من القبائل العربية[41] الوافدة على سورية مثل الأنباط والتدمريين والإيتوريين والآراميين والكنعانيين والفينيقيين والعمونيين والموآبيين والأدوميين، أصبحوا منذ العصر السلوقي[42] النواة الثابتة والأكثرية الغالبة من السكان[24: 219].

إلا أن هذا الاعتقاد يضعف عند إثباتات أبحاث الأحفوريات ودراسات تاريخ علم الإنسان القديم[21: 74]، التي تشير إلى أنَّ هذه المناطق من أولى الأماكن التي سكنت منذ بدايات التاريخ، وما انفكت؛ والعديد من السِّيَر الدينية توضح أنها مهبط الأديان ومنبع الرسل، ومعقل الآلهات والعبادات المختلفة؛ وفي تجاهل دور سكان المنطقة، والتعامل مع المنطقة وكأنها كانت خاوية من السكان، وأنَّ شبه الجزيرة العربية هي المنبع الوحيد للهجرات البشرية لهذه المناطق، إجحاف من قبل الباحثين، وإغفال لدور السكان في صناعة تاريخ البلاد؛ وكان أولى بهذه الأقوام أن تنجز حضارتها في منطقتها وما كان من داعٍ لأن تفجر عبقريتها البدوية في بلاد الشام؛ ولا يفهم تماماً المقصود من إفراغ محتوى السكان من المنطقة، وربط الشعوب بشبه الجزيرة إلا للتأكيد على عروبية السكان، ومن ثمَّ المنطقة، ورغم جلالة الموضوع وأهميته، كان من الواجب الإقرار بأنَّ التاريخ قد أغفل تماماً دور السكان في صناعة حضارتهم.

وفي جميع الأحوال سكان المنطقة يؤلفون ثلاث تشكيلات الأولى تضم سكان المنطقة، والثانية العرب العاربة، والثالثة الفاتحين؛ ويمكن تصنيف إشغال المنطقة بالمستقرات البشرية على ثلاثة أنواع، كما يلي:

  • سكان الضواحي على الحدود الواقعة في المناطق شبه الصحراوية على تخوم الغوطة.
  • المناطق الواقعة على الحدود الفاصلة ما بين الغوطة والجبال أو الأراضي الجرداء.
  • منطقة الغوطة، داخل المناطق الزراعية على شكل تجمعات زراعية.

وطبقاً لهذا التوزيع فإنَّ التخصص الوظيفي لهذه التجمعات كان نشاط سكان كل منطقة من هذه المناطق يتميز بالاستقلالية اللازمة لتشكيل مجتمعه الخاص به وفق الموارد المتاحة، دون لحظ أية عملية دمج في الوظائف ما بين المجتمعات؛ وكان سكان الضواحي ذوي مجتمعات إقامتها شبه مؤقتة إلى حد ما؛ تعمل على تغيير أماكنها في نطاق واسع محدد من الأراضي خلال فصول السنة، تتصف هذه المجتمعات بالبدائية، وتعتمد على الرعي والقنص، وكانت تمارس دور المرشد للقوافل التجارية، أو دور الحامي أو الغازي لها، وكان لها دور كبير في مجريات أحداث فتح المنطقة.

ولا يعتقد بأن البدو الرحل سكنوا دمشق بأيٍّ من العهود، وما كانت ضمن عاداتهم وحياتهم السكنى إلا في الأطراف القريبة من الصحراء التي تعودوا على الحياة فيها، وكانوا غالباً ما يختارون أقرب مكان يشعرهم بالصحراء التي تبقي للبدوي نداء في الأعماق وحنينا مستمراً،[9: 381] وعلى هذا فإن البدو بحسب انتمائهم للصحراء ماكانوا إلا ليعودوا إليها في مواسم الخير ومواسم القوافل التجارية التي كانوا يعيشون على هديها أو غزوها؛ وكان لهم شأن كبير في ترجيح غلبة الأمم المتناحرة على المكان.

أما الغوطة فكانت تحدد بالوظيفة الزراعية لوفرة المياه والطقس المناسب للزراعة على مدار السنة، وعلى هذا فقد توزع فيها عدد كبير من المحلات الريفية الثابتة في ضوء نوع العمل الذى يمارسه سكانها وأساليب الزراعة والطريقة التى تستغل بها التربة، وترتبط نشأة هذه المستقرات الثابتة بمجموعة من العوامل الجغرافية أهمها تزايد السكان، وتوفير البيئة الصالحة لانتاج الغذاء بدرجة كافية، وتحقق الأمن الجماعي من خلال السكن وفق روابط دم تؤلف مجموعات أسرية أو قبلية[39: 123]؛ وكانت المستقرات تتراوح ما بين نواة ريفية صغيرة، وضيعة أو قرية صغيرة، أو قرية كبيرة، وكانت القرية تتأثر في نشأتها بعدد من العوامل بعضها جغرافي مثل الموقع، وبعضها تاريخي مثل الحاجة المبكرة للدفاع مثل تلة الصالحية، وبعضها اقتصادي مثل نظم الزراعة، وقد نمت القرى في الغوطة نمواً طبيعياً عشوائياً مبعثراً، على شكل مساكن مفردة أو مجموعة صغيرة من المساكن، والتي تظهر فى النهاية على شكل نسيج معقد من القرى الصغيرة والمزارع، وغالبا ما يدل هذا التبعثر على علاقة قوية للغاية بين مكان المسكن ومكان العمل حيث يوجد كل مسكن وسط الحقول أو المزرعة الخاصة بصاحبها، ولم تنشأ على أساس تخطيطي.

وتظهر في المنطقة عوامل تركز عمراني لمستقرات أقرب للمدن في مناطق الحدود الفاصلة ما بين الغوطة والجبال أو الأراضي الجرداء، في أماكن مشتركة مخلخلة تمثل مفاصل لتلاقي البيئات الجغرافية المختلفة، على شكل مستقرات أكبر حجماً في محيطها، ولها ميزات وتقدم خدمات أوسع لا توجد في المستقرات الصغيرة المبعثرة في الغوطة، وكانت تتميز بكثافتها المرتفعة وتنوع ثقافة سكانها، وتكامل النشاط السائد فيها، وكان بعضها يقدم نوعاً من الخدمات اللازمة للقوافل التجارية ويشتغل سكانها بالزراعة إلى جانب بعض الصناعات اليدوية والحرفية البسيطة، ويقوم اقتصادها على المبادلات التجارية بشكل رئيسي، وكانت هذه المستقرات تنمو بشكل متنافس لتكون مدينة رئيسية للمنطقة بأكملها، فيما لو استمر نموها دون مؤثرات كالغزو المتكرر أو انتقال النشاطات إلى مدينة قريبة منها في المنطقة نفسها، أو تحويل مياه الري عنها، أو غير ذلك من الأسباب، ومما لا شك فيه أن هذه المستقرات قد مرت بفترات ازدهار وتقهقر عمراني وفق هذه المؤثرات، إلا أنَّ استمرار العديد منها دليل على أهمية موقعها ودورها الواضح في تاريخ المنطقة؛ من أهم هذه المستقرات برزة وبيت لاهيا ودوما وحرستا وجوبر والقابون ومحلة دير مران في المنطقة الفاصلة عند جبل قاسيون، وكفرسوسية وداريا  في السهول الممتدة باتجاه حوران؛ ونظراً للدور الذي كانت تؤديه هذه البلدات على شكل موانئ للقوافل وتمارس نفوذاً على محيطها، فقد تراجعت روابط الدم والقرابة ليحل محلها نوع من التنظيم الإداري المدعوم بنوع من القوة الدفاعية التي يمكن أن تدعم محلياً أو خارجياً، أو أن تكون شبه مستقلة بذاتها.

النسق الحضري في المجال المكاني:

قدمت نظريات التخطيط[6: 146] المختلفة العديد من وجهات النظر حول بدايات تشكل النسق الحضري التي تضع تصورها وفق مفهوم “من الكهف إلى المدينة”، وكانت تجمع على أن السكن بدأ بالكهوف الواقعة في المرتفعات، وهبط منها بالتدريج إلى الأكواخ والمساكن الفردية في السفوح والسهول، لتظهر بداية تجمعات القرية، فالبلدة، ثمَّ المدينة؛ بشكل مترافق مع تطور النشاط من الصيد والمحاصيل البرية، إلى الزراعة وتربية الحيونات، فالمبادلات التجارية، وهذا ما ينطبق مع نتائج الأبحاث حول نشأة المستقرات في مدينة دمشق.

فقد أكدت إحدى الدراسات التاريخية[9: 61] أهمية استقراء تطور سكنى المنطقة من خلال دراسة المراحل التاريخية لتفرعات الأنهار عن بردى، والتي تبدأ من مرحلة نهر بردى، حيث يصب النهر، اعتباراً من خانق الربوة، في بحيرة كبيرة كانت تغطي منطقة دمشق، رافقها الإنسان الحجري بكهوفه، والتي جفت على فترات طويلة إلى أن انقسمت إلى بحيرتي العتيبة والهيجانة، وتظهر خلال هذه الفترة منطقة جبل قاسيون وبرزة تحديداً على أنَّها بداية استقرار في المنطقة، ويظهر خط واضح متصل من برزة باتجاه الشرق نحو صيدنايا ومعلولا، وباتجاه الغرب نحو دمر وسوق وادي بردى؛ ويمتد عصر بردى بطيئاً وفيه ينتشر سكن الناس في المنطقة المحيطة بالغوطة، ثمَّ سكنت الغوطة على مراحل، حيث كانت الزراعة هي النشاط السائد؛ وتأتي مرحلة قناة بانياس التي يُعتقد أنَّها تؤرخ للعهد الأموري والكنعاني، والتي يعتقد أنها خصصت لمدينة دمشق؛ يليها عصر قناة ثورا التي تعود للفترة الآرامية، تم خلال هذه الفترة توسعة المدينة، ثمَّ عهد قناة القنوات التي يُعتقد أنَّها تعود للعهد الروماني، وعهد قناة يزيد التي تعود إلى الحكم الأموي.[37: 8]

 وعلى الرغم من أن الدراسة قد أشارت إلى أن قناة يزيد قديمة وقد تمت توسعتها، إلا أنَّها لم توضح أهميتها التاريخية التي تتعلق بتزويد محلة دير مران بالمياه وما يليها من مستقرات باتجاه الشرق على سفح جبل قاسيون خلال فترات قد تعود إلى ما قبل العهد الأموري.

إلا أنَّ هذا التصور قد يكون ضعيفاً في ترتيب المراحل التاريخية بأكمله استناداً لإحداث أفرع نهر بردى، وخير دليل توسعة نهر يزيد؛ يضاف إلى ذلك أنَّ دراسة تخصصية أخرى[23: 242] أشارت إلى نبوغ السكان المحليين واهتمامهم بأنظمة الري منذ العصور المبكرة؛ وتستشهد على ذلك بأنَّ اختصاص هندسة الري كان واسع الانتشار في حضارات ماقبل التاريخ[43]؛ وتؤكد على أن النظام المائي لريّ الغوطة كان قبل العصور التاريخية المنوه عنها في تاريخ المنطقة وتطور خلالها، وهذا ما يتناسب مع ما تؤكده الكتب التاريخية على أن الغوطة كانت من أسباب استمرار الاستقرار في المنطقة؛ وكانت الغوطة بكاملها مغطاة بشبكة ري على شكل مدينة، يقابل البستان فيها المنزل، ظهرت فيها بعض التجمعات التي تميزت نتيجة توضعها الجغرافي والعديد من العوامل المتداخلة.

وتشير إحدى الدراسات[22: 16] الجيولوجية والأثرية[44] إلى أن منطقة دمشق كانت في الزمن الجيولوجي الرابع[45] بحيرة كبيرة، أقام الإنسان الأول على شواطئها، وقد ازداد هذا الاستيطان كثافة وانتشاراً مع تقدم الزمن وانحسار البحيرة الكبيرة إلى ما هي عليه العتيبة والهيجانة، وتشير الدراسة نفسها إلى أن التنقيبات دلت على وجود مستقرات سكانية حول منطقة الغوطة منذ الألف الثامنة ق.م، ويُعد تل أسود[46] الواقع بين بحيرتي العتيبة والهيجانة إلى الشرق من منطقة الغوطة من أقدم المستوطنات المكتشفة وأهمها، وقد دلت التحليلات إلى أن هذه المستوطنة كانت مزدهرة خلال الألف الثامن ق.م، وأنها كانت تمارس النشاط الزراعي وتدجين الحيوانات والصيد بأنواعه بأدوات متطورة نسبياً، وأنَّها كانت على قدر من المعرفة والإيديولوجيا والثقافة والفن، وتشهد المنطقة توسعاً في الاستيطان، وتشير التنقيبات[45: 38] إلى الحلقة الثانية في المستقرات السكانية في نموذج مستوطنة تل الغربفة[47] الواقعة إلى الشمال من تل أسود، كما يُستدل على انتشار المستوطنات بشكل كبير خلال الفترة نفسها اكتشاف تل الرماد[48] الواقع في وسط جغرافي جديد ضمن السفوح الجبلية قرب قطنا جنوب غرب دمشق، والذي يعود إلى الفترة الواقعة في النصف الثاني للألف السابع ق.م والنصف الأول من الألف السادس ق.م، وقد لوحظ في المرحلة الأخيرة من حياة مستوطنة تل الرماد، تبدل اقتصادي واجتماعي مهم في حياة السكان الذين تحولوا من مجتمع مستقر يعتمد على الزراعة إلى مجتمع رعوي متنقل اعتمد على تربية الحيوانات، يتكاملون مع المجتمعات المستقرة، ويتعايشون جنباً إلى جنب مع المزارعين في محيط قراهم بشكل موسمي.

وتشير مكتتشفات[49] تل الخزامي،[50] إلى الشمال من تل أسود، وتل البحارية[51] إلى استمرار الحياة في المنطقة المحيطة بالغوطة على امتداد الألفين الخامس والرابع ق.م؛ ويستمر الاستقرار خلال الألف الثالثة ق.م، وتدخل أكثر في المنطقة وتزداد حجما وتطوراً، وتشير منطقة دير خبية[52] غرب دمشق، وتل الصالحية[53] وتل سكا[54] وتل الصوان[55] وتلال الريحان، وأرض التلول في حزة[56]، وتل الغزلانية[57] والتلة في زبدين وغيرها، إلى أنها كانت مستوطنات مهمة ومسوَّرة؛ وتستشهد الدراسة على أهمية هذه التلال كمستقرات من خلال الوثائق الكتابية والمراسلات المكتشفة، والتي تؤرخ لأحداث الألف الثاني ق.م الأحداث التي مرت بها المنطقة نتيجة الصراعات عليها ما بين الميتانيين في الشمال والمصريين في الجنوب، ثمّ ما بين المصريين والحثيين[58]، حيث أشير إلى المنطقة بعدة أسماء أظهرها كان اسم أوبي أو يوبي Upi، أو آبوم[47: 546]، ويعتقد أنَّها كانت مملكة قائمة في الألف الثاني ق.م، تمتد على المنطقة الخضراء من الغوطة إلى كوميدي.[45: 74] أو أنها مدينة مسوّرة في تلة الصالحية، كانت تمثل مركزاً لمحيطها من المستقرات، تمتاز بموقعها الاستطلاعي على طرق القوافل.

ومع تقرير مضمون الدراسة، إلا أنَّه لا يمكن رصد وجود واضح لدمشق خلال هذه الفترة، وكان من الممكن تلمس ظهور تأثير الثقل الديني لدمشق كمنطقة مقدسة، ولم يمرّ ذكرها صراحة مع مدن مبدعة عظيمة مثل: إيبلا وماري ويمحاض وقطنا وقادش وبابل، التي خُططت ونُظمت مسبقاً، وتم بناؤها دفعة واحدة؛ ويوضح الشكل رقم (5) نماذج خاصة لمدن مُبدعة يُعتقد أنها كانت معاصرة لمدينة دمشق.

وعموماً، فقد أشارت الدراسات السابقة إلى أنَّ الاستقرار بدأ بكهوف قاسيون، ثم سفوحه، وانتقل بعد ذلك إلى المنطقة الشرقية بجانب البحيرتين معتمداً على الصيد والمحاصيل البرية، ومع تطور الزراعة تم الاستقرار بالغوطة على شكل قرى منتشرة في أرجائها، ثم بدأت البلدات بالتشكل لتمثل نمواً حضرياً يستدعي ظهور مدينة مسيطرة على كامل النسق الحضري؛ وهذا ما يدل على تحقق كبير لنظريات نشأة المستقرات في المجال المكاني لدمشق؛ ويوضح الشكل رقم (6) مراحل نمو النسق الحضري استناداً للنصوص التاريخية وفق تسلسل نشأتها.

 ولسهولة استيعاب تشكل المستقرات يمكن عرض تطور المستقرات وتحولها في المكان حسب المكون الجغرافي الواحد، على الشكل الآتي:

النسق الحضري في منطقة جبل قاسيون:

كان لقاسيون شأن كبير في بداية نشأة التجمعات السكانية في المنطقة؛ فقد كان بردى يخرج من منتهى الوادي غرباً باتجاه السهل الفسيح شرقاً، وبدأ تجمع السكان في سفحه شمالاً يزرعون مبتعدين قليلاً عن مضيق الوادي ليأمنوا على أنفسهم ومزروعاتهم ومواشيهم تيارات السيول والفيضانات.[35: 38]

وكان إنسان هذه الفترة محتاجاً لأن يحمي نفسه وماشيته، ومحتاجاً إلى بيت يأوي إليه ويعتصم فيه، فكان أقرب موضع يصلح لذلك هو جبل قاسيون حيث تسيل المياه تحت قدميه، ويبدو سفحه قليل الإنحدار فيسهل تسلقه والإقامة به، حيث يراقب المقيم به كل شاردة وواردة في السهل المنبسط أمامه شرقاً وغرباً وجنوباً، فسكن الجبل والتجأ إلى ما فيه من كهوف ومغاور.[35: 38]

ويشير استقراء النسق الحضري حسب الدراسات السابقة إلى أن الاستقرار في الجبل كان سابقاً على منطقتي البحيرات والغوطة، وعلى الرغم من محدودية حجم هذا الجزء إلا أنه شهد تحولات كبيرة في السكن خصوصاً في سفوحه، التي يظهر فيها نسيج كثيف من المستقرات الحضرية على مدى تاريخ المنطقة، آخذاً بالارتفاع تارة، وهابطاً في فترة لاحقة، إلا أنه استمر مرافقاً لتدفق المرور في سفحه عبر الطريق الواصلة ما بين برزة ودير مران، وتظهر برزة في الجهة الشرقية كمركز مهيمن لما يحيط بها من مستقرات، ولا يصعب تمييز منطقة دير مران في غربه إذا ما ألحقت بالتجمع الحضري الموجود في منطقة الربوة، ويمكن عرض أهم المستقرات التاريخية كما يلي:

دير مران: محلة غربي جبل قاسيون، كانت عامرة بالسكان، تقع في سفح أسفل قبة سيَّار وأعلى بستان الدواسة، يُطل منها على الربوة، تحتها مروج ومياه حسنة، سميت على اسم دير موجود على تلة عالية فيها، بناؤه بالجص الأبيض وأكثر فرشه بالبلاط الملون، وكان في هيكله صورة عجيبة دقيقة المعاني، وفلاليه دائرة به، وأشجاره متراكمة، وماؤه يتدفق؛ وأغلب الظن أن أصل الدير معبد، كان في هذه المنطقة المرتفعة المتقدمة على منطقة الربوة، كان يمارس سكان الربوة طقوسهم الدينية به، وهو في نهاية الطريق الواصل من برزة في الشرق، ويمثل نقطة بداية نفوذ سكان منطقة الربوة على الجزء الغربي من غوطة دمشق؛ وكانت المنطقة تتزود بالمياه من نهر يزيد الذي يتابع سيره لمنطقة النيربين.

الربوة[59]: عدّها المتقدمون من قاسيون مع أنَّها واد وليست بجبل لأن الحد الطبيعي لهذا الجبل من الجنوب هو نهر بردى، وهي أول منفسح الوادي الغربي الآخذ إلى دمشق، ومنها يتفرع بردى إلى سبعة أنهار، وقد سميت الربوة لإطلالتها على الغوطة وهي عبارة عن مقسم لتوزيع المياه على كامل المنطقة؛ وقد كانت الربوة مأهولة عند فتح العرب لدمشق، وهي عبارة عن جرفين قائمين يمتدان من خانق الربوة حتى دمر على شكل حصن طبيعي لا يمكن اختراقه، في بدايته صخرة المنشار على شكل بوابة من الصخور الحادة القاسية، ونهايته بوابة على الشكل نفسه، وتمثل هذه المنطقة بداية طريق مباشر إلى بعلبك وإلى الساحل السوري غرباً، ومن بعلبك شمالاً إلى قطنا فماري والمناطق الشمالية من سورية، وهي طريق رئيسية محمية غنية بالمياه والخيرات والمجتمعات السكانية؛ وغالباً ما كانت هذه المنطقة تقع ضمن نفوذ الآقوام التي يصلها الطريق من دمشق، ومن المؤكد أنَّها كانت خلال فترات طويلة ضمن نفوذ الحكم في البقاع، باستثناء الفترات التي استولى عليها الأيتوريون[60].

النيرب: محلة كانت آهلة بالسكان تلي الربوة  ومنطقة دير مران من جهة دمشق على الطريق الواصلة حتى برزة، والنيرب كلمة آرامية يعتقد أنها مشتقة من اسم إله آرامي يدعى: بيربا، وكان له في هذه المنطقة معبد[5: 526]، أو أنَّها سريانية بمعنى الوادي، ويراد بها هنا سفح قاسيون مما يلي الربوة، ويقال النيربان: الأعلى منهما هو الواقع بين نهري يزيد وثورى، والأسفل هو ما بين ثورى وبردى؛ وهي منطقة زراعية غنية بالمياه الوافرة، وأغلب الظن أنها كانت عبارة عن محطة سهلة لنزول القوافل تتضمن سوقاً للتجارة وبعض الاستراحات التي تتطلبها القوافل للاستعداد للرحيل.

برزة: وهي موضع في السفح الشرقي لجبل قاسيون، اشتهر في جبل قاسيون بمغارته، ويعتقد أن الاسم مشتق من الجذر: “برز” في الآرامية، بمعنى: حفر ونقب، وهذا ما ينطبق تماماً على طبيعة الموضع؛ ويذكر المؤرخ فلافيوس[61] برزة باسم: مقام إبراهيم،[62] وتشير المراجع التاريخية إلى أنها حاضرة سكنها إبراهيم وبها متعبده بسفح الجبل ينسب إليه، وكانت دمشق عامرة إذ ذاك.[18: 21] وقد ورد ذكرها بالتوراة في عصر إبراهيم[63]، وتؤكد وثائق المكتبة الملكية لحضارة إيبلا، أنَّ راعياً اسمه إبراهيم وزوجته هاجرا مع خدمهم وأنعامهم، قد مروا بهذه المنطقة.[23: 244] 

ويُعتقد أن برزة هي أم دمشق، حيث دلت المكتشفات [16: 15] على أنها كانت حاضرة تستقطب ماحولها، تقدر نشأتها منذ مطلع الألف السابعة؛ وهي على اتصال شعاعي بجهاتها كافة، حرستا ودوما والقابون والتل ومنين، وأنها على اتصال وثيق مع الجهة الغربية من خلال طريق مباشر يصلها بدير مران[64].

وتتميز منطقة برزة باستقلاليتها من حيث المياه عن نهر بردى فهي كانت تتزود من مياه عين منين عبر مساره في الوادي، وهي ذات تحصين طبيعي حيث يكتنفها جبل قاسيون، أضف إلى ذلك أنها قريبة من مصادر مواد البناء، وتقع على أطراف الأراضي الزراعية، وتتمتع بأرض صلبة جيدة للبناء والتأسيس، ولها موقع استراتيجي مطل على المنطقة بأكملها، وهي على اتصال مباشر بالمنطقة الغربية عبر الطريق المستقيم الممتد على سفح جبل قاسيون والذي يصل حتى منطقة الربوة، كما أنها على مقربة من دوما ومنطقة البادية.

بيت أبيات: وهي قرية شرقي جبل قاسيون في سفحه، أسفل حي الأكراد، يقال إنَّها كانت مسكن آدم أبي البشر، وصارت بعد ذلك تدعى بالصالحية العتيقة، وهي من المناطق التي كانت تتميز بشروط جيدة لإقامة حاضرة كبيرة، وهذا ما تم لاحقاً عند تأسيس الصالحية.

الميطور: وهي قرية دارسة تحت حي الأكراد بسفح جبل قاسيون شرق قرية مقري وفي جوارها،[33: 324] وتقع على الطريق الممتد ما بين برزة ومنطقة دير مران، وهي من المواضع المتميزة على سفح قاسيون ومطلة بشكل جيد على الغوطة ومشرفة على الأراضي الزراعية جنوبها، وكانت منطقة آهلة بالسكان والنشاط.

النسق الحضري في المنطقة الشرقية:

أخذت هذه المنطقة أهميتها خلال المرحلة الثانية من الاستيطان، حيث استقر السكان فيها حول البحيرتين معتمدين على صيد الاسماك والقنص وتربية الحيوانات، وتشير التلال الأثرية المذكورة إلى استقرار واضح فيها، ويشير إسقاط المستقرات المدرجة في المراجع التاريخية والأثرية إلى وجود ضعف شديد في النسق الحضري لهذه المنطقة، فقد لوحظ تراجع الاستقرار فيها عقب فترات الجفاف التي أصابتها، وتحول معظم السكان لبدو رحل يعتمدون على نشاط الرعي، ودخول جزء آخر إلى داخل الغوطة بحثاً عن مصادر جديدة للماء والغذاء، وتبدأ الغوطة باستيعاب كبير للمستقرات؛ ولا يظهر على القوس الشرقي للمجال المكاني أي استقرار ثابت بعد ذلك لضعف الموارد الطبيعية في هذه المنطقة، ولعدم قدوم قوافل تجارية عبرها بسبب انخفاض عوامل الأمان أمام غزوات القبائل ومباغتاتها المحتملة؛ وفي الفترات المستقرة سياسياً، كانت هذه المنطقة تمثل المحطة الأولى لتحول البدو إلى مزارعين مستقرين في أطراف الغوطة، ولا تظهر في هذه المنطقة مدينة مركزية، ولا حتى في الأعماق التي تليها باتجاه دمشق، لتأثير القبائل البدوية الذي كان يقوِّض أي نمو حضري يختلف عن الزراعة والرعي، ولأنَّ متطلبات السوق تعتمد على التبادل البسيط ما بين البدو والمزارعين؛ ويظهر النسق الحضري بشكل تجمع بسيط لبعض المستقرات الحضرية الريفية على القوس الشرقية، يليه تراجع واضح في المستقرات باتجاه الغوطة، ولا تظهر المستقرات بعد ذلك إلا ضمن النسيج الحضري الموجود على الجهة الوسطى والغربية.

النسق الحضري في منطقة الغوطة:

أجمع من وصفوا الغوطة على الأيام أنَّها قرى شجراء، وأنَّ فيها قرى كالمدن، وأنَّ أهلها كأهل الحاضرة بعاداتهم وأزيائهم، يقول شيخ الربوة: “إنَّ العمارة المبثوثة فيها لو جمعت لكانت مدينة عظيمة، …، وإنَّ هذا لا يوجد بغيرها أصلاً، ولولا الغوطة ما كانت دمشق من أجمل بقاع العالم”.[40: 33] ويوجد في إقليم[65] الغوطة ثلاثمئة قرية ونيفاً، وبها مدن صغار وبلدان تشابه المدن،[40: 16] وهذا يدل على أن الغوطة كانت عامرة جداً؛ ولكن أصابها الخراب في معظم قراها، وابذعَرَّ[66] سكانها واضمحل عمرانها، وما يشاهد من الدمن[67] والتلال في أرجائها أصدق شاهد.

وتعود تسمية العديد من قرى الغوطة إلى فترات تاريخية موغلة بالقدم، وقد أرجع الباحثون أسماء العديد من القرى إلى الفترة الآرامية[68] وما قبلها؛ وهناك العديد من التسميات الفارسية واليونانية، والرومانية،[69] والعربية[70].

وعلى الرغم من العدد الكبير من القرى والبلدات الموجودة في الغوطة حالياً، يورد محمد كرد علي في كتابه “غوطة دمشق” عدداً هائلاً إضافياً من القرى الداثرة، كانت في القرون الخالية قائمة عامرة، ولم يبق منها إلا اسماؤها، تدل أطلالها على مواضعها، يبلغ عددها 168 موضعاً ما بين قرية وبلدة وشبه مدينة حاضرة، بعض منها بقيت أطلاله، ومنها ما أشيد مكانها، أو وزعت أراضيها على بلدات مجاورة؛ وهذا يدل على أن الغوطة كانت عامرة بالبنيان والسكان أكثر مما كان في دمشق؛ وإنَّ تقارب القرى من بعضها برهان على اكتظاظ أرض الغوطة قديماً بالقرى والمزارع والقصور؛ فقد “تبدلت معالم الغوطة مرات، وما زال القوم كلما حفروا في الحقول البعيدة عن مراكز القرى يعثرون على دمن، تدل على عمران ضخم، وعلى ثروة وحضارة”[40: 134]؛ وتشير دراسته التاريخية إلى أن الغوطة لا تحتوي على تلال طبيعية، وجميع تلالها[71] صناعية ناتجة عن ركام بلدة أو قرية كانت قائمة[40: 161]، وهي عديدة وموزعة في أرجاء الغوطة، وكان في الغوطة عدة قرى تبدأ بـ”بيت”، والمقصود بها “القصر”، ومنها ما يزال قائماً[72]؛  والكثير منها مندثر[73]؛ وفيها خرائب كثيرة[74]؛ ولا يُعتقد أنَّ قرية واحدة اكتفت بسكانها، بل كانوا مزيجاً من أهل الشرق والغرب، وفي قرية واحدة تجد جاليات متعددة، نزلوها في أدوار مختلفة وامتزجوا بأهلها حتى صاروا مثلهم؛ وكان بعض أهل جوبر يهوداً، وكان لهم كنيس مقدس يزورونه ويقيمون فيه صلواتهم[40: 28].

وفي محاولة إسقاط النسق الحضري للمستقرات في منطقة الغوطة استناداً للمراجع التاريخية، يلاحظ وجود كثافة كبيرة للمستقرات مما يؤكد على أنَّ زراعتها كانت مورداً أساسياً لسكانها، ولا يظهر في وسطها نمو متميز غير مدينة دمشق، وتظهر على أطرافها بعض المستقرات المتميزة لأسباب متشابهة تتعلق بتنوع النشاطات فيها، ويمكن رصد تجمع للمستقرات في الطرف الشمالي الشرقي لها، وتجمع آخر في الجزء الجنوبي، من أهم مستقراتهما ما يلي:

دوما: ويُعتقد أنها تعود لفترات تسبق وجود الآراميين في المنطقة، وأن الآراميين قد سكنوها بعد ذلك؛ وتشير بعض الروايات إلى وجود آثار لمعبد الشمس مكان جامع دوما الكبير، وأن المعبد كان ملجأ للنبي إلياس[75]، وتشير المراجع التاريخية إلى أنَّ العرب الوافدين[76] قد سكنوها خلال الفترة الرومانية، وأنَّ المعبد تحول لكنيسة ودير باسم: يونا، في بداية الفترة البزنطية، وترتبط دوما بالتاريخ مع مدينة دمشق؛ ويُعتقد أنَّ الاسم يعود في الأصل إلى اللغة الفينيقية، DUMAH، ومعنـاه: السكون والهدوء والراحة؛ والاحتمال الآخر حول تسمية دوما، قد يكون من اللاتينية، نسبة إلى اسم الملكة جوليا دومنا[77] ابنة حمص التي اشتهرت بجمالها، وكان والدها كاهناً للشمس ولمعبود أهل حمص، وقد يعود ذلك لارتباط هذه البلدة بالطريق التجارية المؤدية مباشرة إلى مملكة أبيها.

تقع على الجهة الشمالي الشرقية من أطراف الغوطة في موقع جغرافي متميز، يسهل الوصول إليه من الأرجاء، على تخوم البادية، وعلى مقربة من منطقة منين غرباً، وتبسط نفوذها على المستقرات الموجودة حولها مثل حرستا وجوبر ومسرابا وغيرها، تصلها القوافل عن الطريق القادمة من الشرق من منطقة حماد الضمير عن طريق عدرا؛ وهي من المستقرات الكبيرة وكانت مقصدا لما حولها، وتعد مركز الغوطة من جهة الشرق؛ ويشير تنوع الأديان ووجود نفوذ واضح لليهود فيها[78]، الذين كانوا يعتمدون على التجارة والإقراض في أعمالهم، إلى أنها كانت مُلتقىً تجارياً قوياً، يتم فيه استقبال القوافل وتزويدها بالمؤن والمياه، وكانت سوقاً للبدو؛ وغالباً ما كانت تتمتع باستقلالية نسبية من خلال توضعها الجغرافي، وكانت على علاقة جيدة مع السلطة في تدمر، وتتصل بشكل مباشر مع برزة، ومنها إلى دير مران.

داريا: بلدة تعود نشأتها إلى ما قبل الميلاد، وتشير تسميتها، إلى أنها تعود على الأقل للفترة الآرامية، والاسم مشتق من الجذر اللغوي: دار، وتعني تسميتها: الدور؛ وتقع داريا في الجزء الجنوبي الغربي من الغوطة، تبعد عن دمشق حوالي 8 كم، وهي من أكبر مدنها، ويُشار في تاريخها[28: 8] إلى أنَّها كانت عاصمة الغوطة الجنوبية، وكانت داريا سابقاً مركزاً  يستقطب جميع قرى وبلدات ومدن الغوطة الغربية مثل: ببيلا، يلدا، بيت سحم، السبينة، نجها، جمرايا، وغيرها؛ تتصل مع منطقة دير مران عن طريق المزة وتصل إلى دمشق المدينة عن طريق كفر سوسية، وتنفتح على الجنوب لتستقبل طريق القوافل القادم من بترا وشرقي الأردن وفلسطين وشبه الجزيرة العربية وسيناء، وهي المحطة الرئيسية للخروج من منطقة دمشق باتجاه الجنوب، وكانت على علاقة جيدة بالممالك التي تنفذ إليها قوافلها، وخصوصاً مع الأنباط الذين كانوا على اتصال شبه مباشر معها، ولا يوجد في محيطها ما ينافسها، وتقع على أرض زراعية منبسطة.

 المحاكاة الإجرائية لنشأة مدينة دمشق:

ولتأكيد نتائج الفقرات السابقة من خلال تحليل أجزاء المجال المكاني استناداً لنظريات نشأة المدن القديمة، نجده يستجيب ظاهرياً لجميع متطلبات نشأة مدينة كبيرة هامة في العديد من المواضع الموجودة فيه؛ وتتطابق تماماً مع نشأة المدن بتأثير نظرية “مواقع الانقطاع“[31: 58] بشقيها الطبيعي والحركي، على الشكل الآتي:

الانقطاع الطبيعي: وهو المكان الذي يحدث عنده تباين طبيعي، أو تغيير التشكيل الطبيعي كالعلاقة بين الماء واليابس، أو السهل والجبل، أو الصحراء والمناطق الزراعية؛ وهي مواقع متميزة تساعد على تكوين التجمعات العمرانية المقترنة بالعناصر الطبيعية، ويدخل ضمنها مواقع رؤوس الملاحة عند انقطاع المرور على اليابس وبدء الانتقال الملاحي؛ ومواقع المصبات عند انقطاع الملاحة النهرية وبدء الملاحة البحرية، أو عند مواقع ملتقى الأنهار، أو مواقع المعابر عندما يضيق النهر ويسهل عبوره، أو على أطراف البحيرات والمسطحات المائية؛ وتنطبق النظرية على مناطق إلتقاء المناطق الصحراوية القاحلة مع مناطق الواحات والمناطق الزراعية والمشجرة الغنية بالمياه، وتنطبق على نهاية كل الطرق المؤدية إلى المنطقة الجبلية لأنَّ الجبال تفرض الانقطاع الحركي لوعورتها، وتنشأ المدن عند أقدام الجبال، أو في مقدمة عنها وداخلها لتمثل نقاط تجمع عند انقطاع الحركة الأفقية وبدء الحركة الرأسية؛ وهناك مواقع المراحل الخاصة بالراحة والتموين والكشف الجمركي، مثل قيام المدن والقرى على حدودها عند الطريق البري الموصل بينها.[31: 61]

الانقطاع الحركي: ويشمل انقطاع مسار القوافل التجارية المقترن باختلاف الطرق وتعددها؛ وتتضح العلاقة بين التجمع والطريق من حركة الناس والبضائع لأنَّها أهم عوامل نشأة التجمع العمراني ونموه، وترتبط النشأة ارتباطاً قوياً بالطرق وأي تحول أو اندثار لأيٍّ منهما يؤدي إلى مصير مختلف؛ وبشكل عام، فإنَّ مواقعها تقترن بعدد من الانقطاعات، كأن ينقطع مسار طريق بري بظهور عائق جغرافي، أو عند تغيير الاتجاه مثل تلاقي الطرق أو عند تقاطعاتها، أو عند تباين في الإنتاج والمقومات الاقتصادية؛ ويمكن أن تنشأ المدن والبلدات في المواقع البينية على مراحل من الطريق مثل الاستراحات ومراكز التموين وتغيير وسائل النقل.[25: 93]

ويمكن التأكد من تحقق شروط كثيرة لنشأة مدينة في هذه المنطقة بشقيها الطبيعي والحركي، في العديد من المستقرات، إلا أن أهمها كانت برزة أو دير مران على سفح جبل قاسيون بسبب توضعهما الجغرافي المتميز على مناطق تماس الغوطة مع الجبل، ولأنهما على مفاصل الاتجاهات، ولإشرافهما المباشر على بدايات الطرق التجارية، ولسهولة الوصول إليهما، مع وجود إمكانية تحصين المدينة بشكل جيد، ولاستقلالهما المائي نسبياً، ولأنهما تُشرفان على منافذ المياه الداخلة على المجال المكاني بأكمله، وتتميز دير مران بقدر كبير لسيطرتها على توزيع كميات مياه نهر بردى، ولأنهما غير مُشيدتين على أراض زراعية، ولقربهما من أماكن توفر مواد البناء، ولوجود إمكانية لتوسعهما على السفوح الجرداء الصلبة، بعيداً عن استهلاك الأراضي الزراعية وصعوبة التأسيس عليها؛ وفي فترات سابقة على ظهور دمشق، استمرت كل منهما بتأدية دور مدينة مركزية ضمن نسقها الحضري بشكل رئيسي ومركز طرفي بالنسبة لكامل المجال؛ ويعزى عدم تولي إحداهما السيطرة على النظام الحضري في منطقة دمشق، إلى عدة أسباب منها ما يتعلق بالميثولوجيا القوية للمكان المقدس في دمشق، ومنها ما يتعلق بالنفوذ الخارجي على كل من المنطقتين اللتين كانتا على تنافس شديد بسبب اختلاف النفوذ المسيطر عليهما.

وتظهر في طرفي الغوطة كل من دوما وداريا كمستقرات مرشحة بدرجة أقل من برزة ودير مران، لتكون إحداهما مدينة مسيطرة على النسق الحضري في المجال المكاني لكامل المنطقة لأسباب عديدة ذكرت؛ ولا يظهر في المنطقة الشرقية أية مستقرة مهيئة لتكون مدينة مسيطرة.

ولا ينال موقع دمشق الكثير من النقاط أمام مواقع برزة ودير مران ودوما، وهذا ما يشير إلى أن اختيار موقع دمشق لم يكن يوماً اختياراً جغرافياً محققاً، ولم تغدُ بنموها لذلك؛ وتجدر الإشارة إلى أن المدن الأربعة كانت تتصل فيما بينها بطريق محيطية، دون الحاجة للمرور بموضع دمشق، يقع معظمه على جبل قاسيون؛ وبالرغم من أنَّ دمشق كانت في موضع مركزي من المدن الأربع، إلا أنَّ ذلك لا يثبت أنَّها كانت منافسة في السكان والنشاطات، بل على العكس، فإنَّ ذلك يؤكد أن دمشق كانت مركزاً مقدساً، فالموقع يقع ضمن اعتبارات الأماكن المقدسة، ومكاناً للعبادة وإجراء التبادلات التجارية لكامل التجمعات المنتشرة في محيطه، ويعتقد أن المكان كان بإشراف ممثلين عن هذه الأطراف المتعايشة، ويمكن أن يكون فيه مقار للكهنة التي تخدم الآلهات المتعددة الخاصة بكل طرف، وغالبا ما كانت حماية الحصن تتم بجهود مشتركة من المدن الأربع، أو أنها كانت بالتناوب، أو أنَّها كانت للأقوى بحسب أهميتها وسطوتها، وكان من المتعذر أن يبني أحد في هذا المكان لأنه يقع ضمن أملاك المعبد، فالإقامة فيه تعني أنه قد سيطر على المجال المكاني للمنطقة، وهذا ما يلاحظ خلال الفترات المتعاقبة من الآرامية إلى الرومانية.

ورغم تقريظ بعض الدراسات إمكانية استقراء نشأة مدينة كبيرة في موقع مدينة دمشق في فترات مبكرة معاصرة لنشأة المستقرات الأربع، إلا أن مزيداً من التحليل يمكن أن يوضح جوانب هامة كانت عائقاً كبيراً في نشأتها بموقعها الحالي تحديداً، فالمدن يمكن أن تنشأ بحالتين:

  • عفوية: أن تكون امتداداً لتجمع عمراني سابق، على افتراض أن تطور المؤثرات المختلفة تفرض تدرجاً مستمرًا بين ما هو قائم وما هو حاصل، وقد أرجع الباحثون نشأة المدينة في هذه الحالة إلى نظريات نشأة المدينة[36: 40] من الخطوة الأولى التي تبدأ بسكنى الكهوف، ثمَّ الأكواخ، فالمساكن وتشكل القرى، والمركز الظهير لعدة قرى، فالمدينة؛ والتي تسير جنباً إلى جنب مع نظرية التكون الاقتصادي المبنية على المصالح المشتركة وتبادل الخدمات وتوزيع الأدوار، وظهور مستقرات مسيطرة على النظام الحضري تجارياً وعسكرياً ودينياً؛ وبشكل عام تتمثل النشأة بنمو قرية متميزة بموقعها الجغرافي لتصبح مدينة؛ وهذا مالم يرصد بدمشق بنسبة كافية، كما ظهر في برزة ودير مران ودوما وداريا.
  • مبدعة: أن تكون إحداثاً مبدعاً نتيجة حدث تاريخي طارئ ومتميز وقرار سياسي مدعوم بالقوة العسكرية، استناداً لمفهوم المدينة الدولة؛ مدينة تبدأ بخطة يُختار لها موقع استراتيجي جديد، أو أن تكون في مكان بلدة أو قرية سابقة، وتكون ذات مواصفات تخطيطية مدروسة ومتميزة، تحمل في بداياتها هوية ثقافية محددة؛ تنشأ هذه المدن بعد فتوح البلدان، أو عند توسع الممالك على أراض جديدة وزيادة نفوذها، ويكون سكانها مختارين ويستوطنونها باختيارهم.

وهذا مالم يتوفر في دمشق، لأنَّها لم تكن مدينة خلال عصر دويلات المدن ضمن مفهوم: Policy، أو دولة المدينة City State التي تعني حكم مدينة لحيز مكاني محيطي يتراوح ما بين الريف المحيط، والسيطرة على عدة مدن، وصولاً إلى السيطرة على إمبراطورية مترامية؛[15: 78] ولم يذكر التاريخ أن دمشق كانت مقراً سياسياً أو حلفاً لعائلات يدير نوابها حكمها؛ كما عرف عن القدماء فصلهم بين المناطق الدينية التي ترتبط بمواسم العبادات والاحتفالات الدينية والمواكب ومراسمها، والمناطق الدنيوية التي يسكنونها ويمارسون فيها نشاطاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وهذا ما تؤكده الأخبار عن تميز موقع دمشق بالقدسية الدينية دون الدنيوية في مراحلها المبكرة.

ويجب التفريق بين المفهوم العام للمدينة: City الذي يعبّر عن توافر مجموعة من مكونات تجمع سكاني من أبنية وخدمات ومرافق وإدارة وغيرها من المقومات، وبين المدينة ضمن المفهوم الأوسع ويسجل التاريخ أمثلة كثيرة من حالات الدولة المدينة المفهوم في بلاد الشام، كانت صورتها في إطار منطقة مستقلة تتركز فيها الأنشطة السياسية والثقافية في مركز حضري واحد يحكمها قائد؛ والنموذج الأعم لهذا النموذج كناية عن دويلة نواتها المدينة المسيطرة، تتبعها المدن الصغيرة والقرى المجاورة لها، أو “أنها التنظيم السياسي والاجتماعي الموحد لإقليم محدد يمكن أن يشمل مدينة أو أكثر”[7: 81]. وأكثر الأمثلة دلالة على ذلك مدن الممالك العديدة المنتشرة في سورية منذ مطلع الألف الثالث  ق.م، أهمها ماري، وإيبلا، وأوغاريت، وكانا، وحلب يمحاض، وغيرها؛ وتجدر الإشارة إلى استمرار انتشار هذا المفهوم جغرافياً وتاريخياً على عموم المنطقة.

أضف إلى ذلك، أنَّ الموقع يخرج عن القواعد والشروط الأساسية لبديهيات اختيار مواقع المدن، التي يُفرد فيتروفيوس[79] فصلاً خاصاً عنها، جعل من أهمها: “أن يكون الموقع مرتفعاً، وأن يكون غير ضبابي أو متجمد ضمن مناخ معتدل لا بارد ولا حار؛ وألا توجد مستنقعات في ضواحي الموقع، لأن النسيم الصباحي المُحَّملُ بالضباب القادم منها يكون ممزوجاً بأنفاَس مخلوقات المستنقع، فيستنشقه السكان، فيجعل موقع المدينة فاسداً”، ويؤكد على المحيط “الذي يمكن أن يوفر الكثير من المواد الغذائية لبقاء حياة المجتمع, إضافةً للطرق الجيدة أو الأنهار الملائمة أو الموانئ البحرية التي تؤمن وسيلةً سهلةً للانتقال إلى المدينة”، ثم يجعل من موضوع التأسيس للأبراج والسور من أهم الإجراءات الواجب مراعاتها عند إحداث المدينة، يؤكد فيه على اختيار مواضع صلبة مناسبة لعملية البناء لأنها أمنع وأقل صعوبة وأقل كلفة.[32: 45]

   ويرى ابن خلدون[80] عند اختيار الموقع “وجوب أن يراعى فيه دفع المضارب بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق والمتطلبات المعينة”[1/ج2: 16]؛ على أساس توفر محددات طبيعية ومناخية واقتصادية، كأن يكون مكان وضع المدينة “في ممتنع من الأمكنة، إما على هضبة متوعرة من الجبل وإما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو”[1/ج2: 16]، “ومما يراعى في ذلك من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض….. والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب”[1/ج2: 16]؛ وأكد على أهمية وقوع المدن على طرق المواصلات والقوافل التجارية.[41: 17]

يرى ابن الأزرق[81] أن ما يجب مراعاته في أوضاع المدن “أصلان مهمان: دفع المضار، وجلب المنافع، ثم يذكر أن المضار نوعان: أرضية ودفعها بإدارة سياج السور على المدينة، ووضعها في مكان ممتنع، إما على هضبة متوعرة من الجبل، وإما باستدارة بحر أو نهر حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو، والنوع الثاني من المضار سماوي ودفعه باختيار المواضع طيبة الهواء لا ما خبث منه بركوده أو تعفن بمجاورته مياهاً فاسدة، أو منافع متعفنة أو مروجاً خبيثة يسرع المرض فيها للحيوان الكائن فيه لا محالة”[2: 538].

أشارت الدراسات الجغرافية حول نشأة مدينة دمشق إلى أن الغوطة كانت عامرة قبل دمشق بزمان، وتؤكد أنَّ الاستيطان فيها سابق لظهور دمشق، وتاريخ الزراعة في هذه المنطقة يرجع إلى عهود ما قبل التاريخ، وأنَّ المراكز الحضرية كانت لا تزيد حجماً عن بضعة مساكن أو عدة أكواخ، ولا يوجد ما يؤكد أقدمية دمشق عن غيرها[26: 127]، عدا المنطقة المقدسة التي تفوق قدماً باقي أجزاء المدينة والتي تبعد خمسمئة متراً عن نهر بردى؛ ومن خلال تحليل مسار نهر بردى وأفرعه وأنواع التربة وشكل التضاريس في كامل المنطقة، لم يُعثر على مبررات جغرافية أو ميزات في المصادر الطبيعية كانت سبباً في اختيار موقع مدينة دمشق، خصوصاً وأنَّ موقع دمشق بعيد عن مكان التحكم بتوزيع المياه وتحت رحمته أو خطره؛ إضافة إلى أنَّ المنطقة بأكملها تعتمد على الزراعة، وتقع تحت تأثير موضوع توزيع المياه الذي يتم من منطقة الربوة الواقعة على مسافة عشرة كيلومترات خارج مدينة دمشق، والذي كانت تتطلب إدارتها سلطة قادرة على فرض احترامها بين المستقرات المنتشرة في الغوطة، ويسجل التاريخ خلافات عديدة على توزيع كميات مياه بردى والتي كان من أثرها اندثار عدد كبير من المستقرات فيها؛[34: 64] كما أن التأسيس لمدينة في مركز المناطق الزراعية الخصبة كان من المحاذير الأساسية بهدف الحفاظ على تآكل الأراضي المحدودة التي يعتمد عليها معظم اقتصاد المنطقة، أما فيما يتعلق بالإعمار والبناء فأرض دمشق المدينة زراعية لحقية غير مستقرة تصعب فيها عملية التأسيس، وتتطلب العملية جهوداً مضاعفة عن التأسيس على الأراضي الصخرية والرسوبية، ولا يوجد فيها مصادر لمواد البناء، وكان أقرب موقع لهذه المواد يقع في جبل المزة، ويصعب فيها التخلص من الردميات والأنقاض الناتجة عن عملية البناء أو التجديد؛ وهذا ما يرجح أن المكان كان للتعبد وليس للإقامة والسكنى.

ولعل المتمعن في طبيعة المنطقة التي قامت عليها دمشق وتأسست بداياتها فيها، يدرك تماماً أنه ليس بالموقع الملائم من الناحية الأمنية لإقامة المدن، فليس في تكوين الأرض المحيطة بالمدينة عقبة طبيعية واحدة جديرة بصد، أو إعاقة سير، جيشٍ غازٍ؛ أو مانعٍ يضمن للسكان الوقوف بموقف المدافع.[10: 6]

ومن جانب آخر، ترى الدراسة أنَّ حماية مدينة دمشق تتطلب انتشار فرق خيالة سريعة على قوس دائري يطوق الغوطة فيما وراء مستنقعات العتيبة والهيجانة، وهذا ما لم يذكره التاريخ إلا خلال الفترة الرومانية، وتتطلب تحقيق الإلفة بين المستقرات المنتشرة في الغوطة من جهة، وتحالف مع القبائل البدوية في البادية المتاخمة من جهة أخرى؛ وهذا ما يعني استحالة تمكن السلطة السياسية والإدارية والعسكرية من مدّ النظام الإداري إلى جميع الأطراف، ومن الدفاع عن دمشق وعن نفوذها في الغوطة بصورة مطلقة، ولن تستطيع فرض سلطتها على القبائل البدوية، وترى الدراسة أن السهوب الواسعة تساعد الغزاة على المرور بعيداً عن مراكز الحراسة والمراقبة. والأبراج والأسوار لا تحمي سوى الأراضي القريبة منها، وترى أن الدفاع عن المنطقة يتطلب قطع كامل الغوطة للخروج إلى المناطق الجرداء التي تكون مناسبة للمعارك.[26: 130]

كما لم يعرف عن مدينة قديمة أُنشأت وسط غابة، فجميع مخططي المدن القديمة كانوا يحذرون من إنشاء المدن وسط المناطق الزراعية والغابات والأراضي الرطبة، ويرونها مناطق غير صحية لأنها تنشر الأبخرة الضارة على السكان؛ عدا عن أنَّ عبورها من أطرافها يستغرق مسيرة يوماً كاملاً، وهذا انتظار غير مجدي ولا يمكن قبوله من قافلة متعبة من الطريق، وكان من غير المعقول دخول جميع القوافل إلى مركز الغوطة والخروج منها، ولم يرد أخبار عن طرقات قبل الفترة الرومانية.

دمشق في النسق الحضري:

أشار ما سبق إلى ظهور أربع مناطق كان كل منها مؤهلاً ليكون مدينة رئيسية قبل دمشق، أهمها ما يتوضع على سفوح جبل قاسيون القريبة من منافذ المياه، وأنَّ مواقع الأطراف كانت أكثر مناسبة من موضع دمشق لإنشاء مدينة كبيرة رئيسية في المجال المكاني، إلا أنَّها أخفقت جميعها بتأثير عوامل خارجية وداخلية قوية، وكان إخفاقها المستمر أمام تضخم تأثير الجانب الديني المقدس لدمشق أهم الأسباب في نشأتها لا حقاً.

وقد عمد البحث تجنب تناول دمشق ضمن النسق الحضري في فقرات عديدة لأنها لم تكن تمثل مستقرة سكنية، ولا يعني غيابها عدم وجود تأثيرها على كامل المنطقة، فموقع دمشق يتطابق مع شروط اختيار مواقع الهياكل مثل: ضرورة مشاهدته عن بعد في منطقة نفوذه، وسهولة الوصول إليه، والوسط البيئي الصحي، والإشراف على مصادر الرزق لمباركتها، وغير ذلك؛ وكان اختيار الموقع مرتبطاً ببيئة طبيعية خلابة، ولم تحتج المعابد إلى تحصينات وحمايات، لأنها كانت تُحترم وتُهاب حتى من الأعداء، وكانت ترتبط إلى حد كبير بالمكان أكثر من ارتباطها بالسكان؛ ولم تحتَج المعابد إلى أسوار إلا عندما كثُر عُبادها وقوي نفوذها وزاد غناها ومُورِست نشاطات اقتصادية وثقافية بقربها، وعندها يحتاج المعبد إلى حماية وإدارة، وتكون السلطة على منطقة نفوذ المعبد لمن يقوم بها؛[6: 149] وهذا يتفق مع تأخر ظهور دمشق كمستقرة للسكن إلى نهاية الفترة الآرامية، ويبرر تأسيسها لاحقاً على يد الرومان بعيداً عن شروط ومتطلبات الموقع الجغرافي.

فقد أشارت المراجع التاريخة إلى أخبار للفاتحين، وحددت مكان إقامتهم إلى جوار المنطقة المقدسة من دمشق، دون أي ذكر لملامح استقرار سابقة عليهم، وعليه يمكن رصد تفوق دمشق ضمن النسق الحضري خلال مقاطع زمنية محددة تم فيها بناء أجزاء دمشق على مراحل بقرارات من السلطة المهيمنة على كامل المجال المكاني لدمشق، ولم تخضع لشروط النشأة والمراحل التي مرت بها باقي المستقرات،

رغم أن الأخبار الملحمية ما قبل التاريخ أشارت إلى بناء دمشق من قبل عدد كبير من الشخصيات الهامة منذ بداية التاريخ، إلا أن تحليل هذه الأخبار يوصل إلى أن الاهتمام كان ينصب على المنطقة المقدسة تطبيقاً لميثولوجيتها الطاغية على من يقوم بإعمارها وتحصينها، وتعظيم قدسية المكان بإشادة بوابات عظيمة أو جدران دون أي ذكر لأبنية أخرى؛ ولا يمكن فهم فعل “البناء” على أنه بناء مدينة؛ بل كان المقصود جدران السور المربع الذي يميز أسوار المعابد عن أسوار المدن الدائرية أو الإهليلجية.

وكانت النصوص والرسائل القديمة تشير إلى المنطقة وليس إلى المدينة، ولم تتضمن المراسلات اسم حاكم لدمشق؛ ولا يُعتقد أن التاريخ أغفل ذكر مدينة دمشق قبل الآراميين، ولا توجد دلائل أثرية على الفترة الآرامية ولكن أخبارها تشير إلى بناء معبد عظيم مسور وحي سكني غير منظم للوافدين الجدد، ويشير صمود دمشق أمام أكثر من مئة هجمة آشورية خلال الفترة الآرامية إلى قوة المستقرات المنتشرة في الغوطة، ولا تنال دمشق من الأخبار خلال الحكم البابلي إلا مهاجمة نبوخذ نصر لغوطتها وحرقها وإبادتها؛ وتأتي المرحلة الثانية من تشكل مدينة دمشق خلال الفترة اليونانية، عندما أقاموا فيها حياً خاصاً بهم بصيغة مستوطنة عسكرية إلى جانب المعبد، اعتمد تخطيطه على ملامح مدنهم وربطوه مع المعبد، متجاهلين العمران القائم ولم يقوموا بتأسيس مدينة متكاملة؛ وتتوسع دمشق حياً آخر خلال حكم الأنباط، وتولد مدينة دمشق خلال الفترة الرومانية بعد تحسين المعبد وبناء أسواره وأسواقه، واختطاط الشوارع الرئيسية وبناء المسرح وتسوير المدينة وفتح قنوات جديدة لمياه الشرب والصرف.

وفي المراحل جميعها كانت دمشق حالة خاصة، فملامح المدينة كانت تتضح من قلعتها ومعبدها ومخازن غلالها وسورها، إضافة إلى جوانب اجتماعية تفرض أن يكون نصف سكانها من طبقات الجنسية الحاكمة، وسدسها من العبيد، والباقي ممن يعتبرون أجانب عنهم، وهذا ما لم يرصد في دمشق إلا بشكل متواضع في تواريخ متقدمة من الفترة الرومانية.

ولا يمكن اعتبار دمشق من المدن المشادة بالتأثير الديني، كما في المدن السومرية والبابلية التي كانت تشاد بقصد العبادة، والتي كانت تضع معبدها في مركزها بشكل مخطط ومسبق، فدمشق تجمعت أجزاء حول معبدها، وتاريخ نشأتها يوضح أنَّها كانت مكاناً لإقامة الفاتحين، تشكلت وفق تتاليهم، ولا يوجد ما يوضح أن دمشق كانت تمتلك مقومات مدينة قبل الرومان، ولا يوجد ما يشير إلى جهود السكان المحليين في إنشاء المدينة أو إحداثها أو توسيعها؛ بل كان من الجلي أن السكان الأقدم تواجدوا بقوة في المستقرات المنتشرة في المجال المكاني حولها؛ ولو استبعد التأثير الديني للمكان المقدس في دمشق لما كانت حاضرة المنطقة فيها، لأن المستقرات المحيطة كانت سابقة عليها في النشأة والتكوين، وكانت أفضل في الموقع الجغرافي، ولكنها فشلت في منافستها للثقل الديني من جهة ولاستقرار القوة الحاكمة فيها، يضاف إلى ذلك تبعية القوة الاقتصادية للجانبين الديني والسياسي.

ويمكن القول إنَّ دمشق لم تكن مدينة مبدعة بالشكل الكامل لأنَّ نشأتها لم ترتبط بحضارة معينة، ولا يمكن تصنيفها مع المدن العفوية، لأنَّها لم تتطور من قرية لبلدة فمدينة؛ هي حالة خاصة، خالفت معظم القواعد والنظريات العلمية لمواقع المدن ونظريات نشأتها؛ فرضت وجودها بتأثير قدسيتها؛ واستغرق ظهورها، حسب الروايات التاريخية، من بداية بنائها على يد الآراميين، إلى تسويرها أيام الرومان، وهذا ما لم تستغرقه مدينة بالتاريخ.

الخاتمة:

يقول إيكوشار: “إنَّ دمشق هبة نهر كريزورواس”؛[82] إلا أنَّ الأصح دمشق هبة ميثولوجيتها، والاستقرار في المنطقة بأكملها كان بتأثير مياهها الوفيرة وغوطتها الغنية وجبلها؛ ويمكن أن يُقال: إنَّ تاريخ مدينة دمشق لا يكفي لتبرير نشأتها، ولا بد من التعمق في التاريخ الموازي لمحيط دمشق، في قاسيون وجهات الغوطة الثلاث، فالجبل والغوطة لم يضفيا جمالاً ورونقاً على المدينة وحسب، بل هما الأساس في استقرار السكان وتشكل النسق الحضري في المجال المكاني، وهذا ما يتلاقى مع محتوى الإشكالية، وتتحقق أهداف البحث من خلال نتائجه الآتية:

  • يتألف المجال المكاني لمنطقة دمشق من ثلاث مكونات جغرافية واضحة، هي: جبل قاسيون، الغوطة، المنطقة شبه الجافة في الشرق؛ تمايزت فيما بينها مناخياً وطبوغرافياً، احتضنت المستقرات مرحلياً.
  • خضع المجال المكاني لتأثيرات محيطية إقليمية تعلق أغلبها بالسيطرة على طرق القوافل التجارية، أتاحت توليد نفوذ غير مباشر إلى داخل المجال المكاني بسبب المصالح المتبادلة، وجعلته منقسماً إلى أربعة أجزاء، تعلق ثلاثة منها بمنافذ الطرق الموصلة إليه؛ فالشمال الشرقي من تدمر إلى دوما، والغربي من بعلبك إلى دير مران والربوة، والجنوبي إلى داريا، أما الجهة الشرقية فكانت تحت تأثير القبائل البدوية، وكانت الأجزاء الأربعة تلتقي في تقديس دمشق المعبد.
  • تبوأ سكان المنطقة عمرانها، واشتغلوا بالزراعة وتربية المواشي بشكل أساسي، وتوزعوا مكانياً في ثلاث مجموعات: سكان الضواحي على الحدود الواقعة في المناطق شبه الصحراوية على تخوم الغوطة، وسكان المناطق الواقعة تماما على الحدود الفاصلة ما بين الغوطة والجبال أو الأراضي الجرداء؛ سكان منطقة الغوطة، داخل المناطق الزراعية على شكل تجمعات زراعية.
  • أظهر النسق الحضري في المجال المكاني أن بدايات السكن في المنطقة كانت في كهوف المرتفعات الجبلية المحيطة بالمجال المكاني، وخصوصاً جبل قاسيون، وبدأت المستقرات بالتشكل بعد النزول من المرتفعات إلى سفوح جبل قاسيون، وصولاً إلى جوار البحيرتين، وظهرت خلال هذه الفترة تجمعات هامة في برزة ودير مران مع الربوة، وتل أسود وتل الغريفة وغيرها من التلال الأثرية.
  • أظهر النسق الحضري تراجع سكن منطقة البحيرتين وتحول معظم سكانها إلى بدو رحل، مع استمرار الاستقرار في سفح جبل قاسيون ولانتقال بالتدريج إلى داخل الغوطة، وتظهر دوما مسيطرة في شمالها الشرقي، وداريا في جنوبها.
  • أشار النسق الحضري إلى ظهور أربعة مدن مهيأة لتكون إحداها مدينة مسيطرة على المجال المكاني؛ قبل تشكل مدينة دمشق.
  • أكد البحث أنَّ مواقع المدن الأربع، الموضحة في الشكل رقم (7)، كانت تتوافق بتمايز مع شروط ومحددات اختيار مواضع المدن القديمة، وكانت كل منها مرشحة لتعلو قمة هرم المستقرات الحضرية في المجال المكاني.
  • تظهر المحاكاة الإجرائية لنشأة دمشق ضمن النسق الحضري المتشكل على المكونات الجغرافية للمجال المكاني ما يلي:
  • كانت أفضل المناطق لنشأة مدينة مسيطرة هي سفح جبل قاسيون، الشكل رقم (7-1)، وقد تميزت فيها برزة ودير مران بسبب تحصنهما بالجبل، ومتانة الأرض وتوفر مواد البناء، وإمكانية السيطرة على منافذ المياه، والإطلالة المشرفة على المجال، والتحكم بمنفذ تجاري هام، وسهولة الوصول إلى أرجاء المجال المكاني.
  • أتت مواقع دوما وداريا بالدرجة التالية للاستجابة للشروط والمحددات الخاصة باختيار مواضع المدن، الشكلان (7-2) و(7-3)، ويعود سبب ذلك إلى موقعهما على المنافذ التجارية ولسهولة الوصول إليهما، وربطهما مع جبل قاسيون بطريق محيطي عليه، ولنوعية الأرض وقرب توفر مواد البناء.
  • لم يتم رصد أية ميزات جغرافية أو اقتصادية يمكن أن تبرر سبب اختيار موقع دمشق لتكون المدينة المسيطرة.
  • كانت دمشق مركز النسق الحضري بتأثير ديني مقدس، ولم تكن مركزاً حضرياً؛ ولم تكن مدينة بمفهوم دولة المدينة City State حتى العصر الأموي.
  • نشأت دمشق بتأثير ديني مقدس تفوَّق في نفوذه على المجال المكاني، فاستقطب الأمم والشعوب من خارج حدوده؛ وكانت السيطرة عليه تعني سقوط كامل المنطقة.
  • يشير الشكل رقم (8) إلى أن دمشق لم تبدأ بالظهور إلا في فترات متقدمة من تاريخ تشكل المستقرات الحضرية، ولم تكن في موقع منافسة حضرية ضمن النسق الحضري؛ ولم تكن من المدن المبدعة في نشأتها، وكانت عفوية في مراحل تشكلها من العهد الآرامي إلى اليوناني، والنبطي، فالروماني؛ حيث عمل الرومان على إبداع أحيائها كمدينة من خلال التنظيم وإنشاء المباني العامة وشق الطرق وتقديم الخدمات وتسوير المدينة.

يمكن قبول التدوينات التاريخية عن أخبار نشأة دمشق، في مرحلة لاحقة على البحث عن حقائق تتعلق في أسبقية السكان وعبقريتهم في صناعة مثيولوجيتهم الخاصة بالمكان المقدس، وأنَّهم كانوا على شكل وسطاء غير مرئيين ما بين الآلهة والأديان والإنسان، وأنهم زرعوا الغوطة وأنشاؤوا المستقرات الحضرية فيها، ولم يأخذوا الحضارة من غيرهم؛ وكانت الحضارات تأتي لتحتك بمعرفتهم، وتزاحمهم على آلهتهم لينهلوا قدسية منها.

ورغم أن النتائج في ظاهرها تتفق مع المضمون التاريخي للروايات، إلا أنه كان من الواجب التنويه بأهمية المحيط، خصوصاً وأنه مندثر المعالم، أو يكاد؛ ولا يصح عزل دمشق عن هذا المحيط واعتباره ظلاً غير مرئي، وأنَّه غير موجود ولا حتى على هامش الرواية.

 ونظراً لضيق المساحة المحددة للباحث في تناول الموضوع الواحد، يقترح البحث التعمق في دراسة محيط مدينة دمشق والتفتيش عن دور للسكان الأصليين فيه من خلال عدة أبحاث تالية، فلا يعقل قبول ذكر بناء دمشق منسوباً إلى فترات استعمارية.

وعلى هذا، يوصي البحث بدراسة المناطق المنوه عنها حسب أهميتها، خصوصاً منطقة دير مران والربوة والطريق الواصل إلى بعلبك، على اعتباره مساراً مقدساً يصل بين بارثينون دمشق، وهليوبوليس بعلبك؛ وتأتي بعد ذلك منطقة برزة والمحور الواصل إلى حمص؛ ومنطقة دوما والمحور الواصل إلى تدمر.، .

[1]  القلب: كما سماها المهندس إيكوشار في:  إيكوشار، مقدمة واستعراض المدينة القديمة من خلال المخططات التنظيمية المختلفة، فرع دمشق، نقابة المهندسين السوريين، ندوة دمشق القديمة، 12 و13/ نيسان/ 1982. ص: 331.
[2]  التناص: مصطلح نقدي في الدراسات اللسانية، ويعني التفاعل النصّي في الاستشهاد والاستعارة والنص الموازي والنص الجامع. عن ميخائيل باختين، فلسفة اللغة.
[3]  الميثولوجيا: علم الأساطير، تشير إلى مجموعة من الروايات الفلكلورية الخاصة بالثقافات التي يعتقد أنها صحيحة وخارقة، تستخدم لتفسير الأحداث الطبيعية وشرح الطبيعة والإنسانية؛ تشير أيضا إلى فرع من العلوم التي تتناول جمع الأساطير ودراستها وتفسيرها.
[4]  استرابون: strabon، جغرافي يوناني ولد في أمازيا عام 58 ق.م وتوفي عام 25م وألف كتابه الهام: “الذكريات التاريخية للجغرافيا الثمينة”. عن الجغرافيا السياسية، ص: 15.
[5]  بتولوميه: كلود بطليموس أو كلاوديوس، المعروف باسم بطليموس أو بطولوميس، وله التسمية الجنسية “الروماني كلاوديوس”؛ Claude Ptolémée، (90- 168)م. عالم يوناني فلكي له العديد من الدراسات العلمية تأثر بالعلوم الغربية والشرقية عاش في الإسكندرية وضع مؤلفاً هاماً بالجغرافيا، احتوى على مناقشة متعمقة حول المعارف الجغرافية في العالم اليوناني الروماني.  Ptolémée – Wikipédia.
[6]  نهر بردى: ينبع نهر بردى من الجنوب الغربي لوهدة الزبداني، من نبع فوكلوزي غزير عند أقدام جبل الشير منصور، على ارتفاع يزيد على 1100م. يسير بعدها متعرجاً بضعة كيلو مترات حتى مزرعة التكية، حيث يدخل في وادٍ عميق سمي باسمه؛ ويتابع سيره حتى يدخل مدينة دمشق عند الربوة، بعد أن تكون تفرعت منه ستة فروع. عن يساره: يزيد وثورا، وعن يمينه: المزاوي، والديراني، وقنوات، وبانياس، مرتبة من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى في الجريان، حيث تعبر هذه الأقنية خانق الربوة على مناسيب مختلفة، ثم تتباعد على شكل مروحة تغطي جميع أحياء مدينة دمشق، وبعد خروجها من دمشق تنتشر في جميع مناطق غوطة دمشق مشكلة بهذه الشريانات شبكة ري الغوطة. وفي مجرى النهر عند وادي بردى، يتلقى النهر عدة ينابيع أهمها نبع عين الفيجة الذي يضاعف من غزارة مياه بردى وحجمها. ويخترق المجرى الأصلي لبردى، دمشق والغوطة في اتجاه الشرق والشمال الشرقي، حتى يصل إلى سبخة العتيبة، بعد أن يكون النهر قد قطع بين منبعه ومصبه مسافة 71كم. عن: رضا مرتضى.
[7]  نهر الأعوج: يحتل هذا النهر المركز الثاني من حيث الأهمية، كمصدر مائي في حوض دمشق؛ إلا أنه لا يقارن بما يقدمه نهر بردى من خيرات للحوض وساكنيه. ويتكون هذا النهر من عدد كبير من العيون والينابيع الصغيرة دائمة الجريان، تتمركز في حوض عرنة وأعالي وادي بيت جن، ضمن المنحدرات الشرقية لجبل الشيخ، وعلى مناسيب مختلفة تتراوح بين 1900 – 1300 متر فوق مستوى سطح البحر، ثم تتجمع قنوات هذه العيون عند بلدة سعسع التي تكوّن نهاية مجرى النهر الأعلى، ويسير بعدها النهر الموحد متعرجاً في مجراه الأوسط (ومن هنا جاءت التسمية) ثم يتوزع إلى فرعين رئيسين: الأول وهو الأغزر  يتجه نحو داريا، والغوطة الجنوبية الغربية. والثاني إلى الكسوة، حيث يتوزع في غوطتها، و يتابع مجراه الأصلي السير حتى  يصل سبخة الهيجانة، قاطعاً نحو 88كم بين منابعه ومصبه. عن: أحمد فرزت طرقجي.
[8]  أَلَيْسَ أَبَانَةُ وَفَرْفَرُ نَهْرَا دِمَشْقَ أَحْسَنَ مِنْ جَمِيعِ مِيَاهِ إِسْرَائِيلَ؟ أَمَا كُنْتُ أَغْتَسِلُ بِهِمَا فَأَطْهُرَ؟» وَرَجَعَ وَمَضَى بِغَيْظٍ. {سفر الملوك الثاني 5: 12}.
[9]  كهف الأربعين أو أهل الكهف: والمقصود بها أنَّها مقر للأربعين الأبدال الذين يحمون منطقة دمشق، وهم من أهل الله الواصلين، ويطلق عليها لقب أهل الكهف نسبة إلى الكهف الذي آوى إليه الفتية المذكورون في القرآن، كما تنسب إلى آدم أبو البشرية، ويذكرها ابن جبير الأندلسي بقوله: ” أعلى الجبل كهف منسوب لآدم وعليه بناء وهو موضع مبارك”. عن: مدينة دمشق عند الجغرافيين والرحالة المسلمين. ص: 125.
[10]  كهف برزة: ورد ذكره لدى الجغرافيين كافة وجميع الرحالة العرب، وورد في الميثولوجيا الدينية، وفي الكتاب المقدس؛ يصفها ابن جبير برحلته: “ومولد إبراهيم بسفح جبل قاسيون عند قرية تعرف ببرزة، وهي أجمل القرى، وهذا الجبل معروف بالبركة في القديم لأنه مصعد الأنبياء ومطلعهم، وهوفي الجهة الشمالية من البلد وعلى مقدار فرسخ، وهذا (المولد المبارك) غار مستطيل ضيق، وقد بني عليه مسجد كبير مرتفع مقسم على مساجد كثيرة كالغرف المطلة، وعليه صومعة عالية، ومن ذلك الغار رأى إبراهيم الكوكب ثمَّ القمر ثمَّ الشمس، حسبما ذكره الله تعالى في كتابه عز وجل، وفي ظهر الغار مقامه الذي يخرج إليه”.
[11]  مغارة الجوع: تقع على سفح جبل قاسيون في منطقة الصالحية، كان بها أربعون رجلاً صالحاً، أو نبياً، وقد أخذهم الجوع كل مأخذ، وكان لديهم رغيف واحد، راح كل منهم يؤثر صاحبه، وأخذ الرغيف يدور حول ساكني المغارة حتى ماتوا جميعاً وبقي الرغيف. عن: كتاب الإشارات لمعرفة الزيارات. ص: 11.
[12]  مغارة الدم: بجبل قاسيون لجهة الغرب، على مقدار ميل أو أزيد من المولد المبارك، مغارة تعرف بمغارة الدم،لأن فوقها في الجبل دم هابيل قتيل أخيه قابيل ابني آدم، ويقال: إنَّ في تلك المغارة صلى إبراهيم وموسى ولوط وأيوب، وعليها مسجد أتقن بناؤه، ويصعد إليه على درج، وهو كالغرفة المستديرة،وعليها أعواد مشرجبة مطيفة بها، وبه بيوت ومرافق للسكن. عن: دمشق عند الجغرافيين والرحالة المسلمين. ص: 123.
[13]  مغارة الشياح: في باب الريح من جبل قاسيون، بجوار وادي الشياح، بين مغارة الدم وكهف جبريل. معجمقتيبة الشهابي، ص: 2/310.
[14]  يقدر طول الغوطة بنحو عشرين كيلو متراً، وعرضها يختلف بين 10 و15 كيلو متراً تقريباً، وتبلغ مساحتها 30000 هكتاراً- مع مساحة دمشق.
[15]  المقدسي: أبو عبد الله محمد بن أحمد المقدسي (336- 380 هـ) من الرحالة العرب، وهو من بلاد الشام. رأى أن المملكة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لم توصف وصفاً كافياً من الناحية الجغرافية، لذلك جرّد نفسه لهذا، وطاف أكثر البلاد الإسلامية، وكتب كتابه “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”، وكان فيه من أصدق الرحالين ملاحظة، وأدقهم نظراً، وأحسنهم لموضوعه ترتيباً؛ وقد عمل كل حيلة والتحق بكل صناعة، وتحمل كل مشقة، وأنفق فوق عشرة آلاف درهم، وعرّض نفسه لكل خطر في سبيل الحصول على المعرفة، وجاءته فكرة “الخرائط” الملونة.
[16]  المرحلة: مسيرة يوم على الراكب بالسير المعتدل.
[17]  القزويني: أبو عبد الله بن زكريا بن محمد القزويني(605- 682هـ)، ينتهي نسبه إلى عالم المدينة أنس بن مالك؛ اشتغل بالقضاء وألف العديد من كتب الجغرافيا والتاريخ الطبيعي، وشغف بعلوم الطبيعة، وكانت أعظم أعماله هي نظرياته في علم الرصد الجوي. من أشهر مؤلفاته: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، آثار البلاد وأخبار العباد.
[18]  ياقوت: شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي (574 – 626 هـ) أديب ومؤلف موسوعي وخطّاط من أصل رومي، اشتغل بالعلم وأكثر من دراسة الأدب، وقد سمى نفسه (عبد الرحمن). أهم مؤلفاته: معجم البلدان.
[19]  الميل: مئة ألف إصبع إلا أربعة آلاف إصبع.
[20]  شيخ الربوة: (1256- 1327)م، هو شمس الدين أبو عبد الله بت محمد بن أبي طالب الأنصاري، الصوفي، الدمشقي، مشهود له بحدة الذكاء وغزارة المعلومات، ألف كتياً عديدة في الجغرافية الأطعمة والفراسة والسياسة والفلاحة، من أشهر كتبه: السياسة في علم الفراسة، ونخبة الدهر في عجائب البر والبحر. عرف في أول أمره بلقب شيخ حطين حيث كان يعمل هناك، وعندما انتقل إلى دمشق، وتولى مشيخة الربوة من قبل الأفرم والي دمشق، أطلق عليه لقب شيخ الربوة. عن: الموسوعة العربية.
[21]  جبل قاسيون، وبحيرة المرج، وبحيرة الهيجانة. عن: كرد علي. ص: 12
[22]  الكورة: كلمة فارسية، وهي كل صقع يشتمل على عدة قرى، ولابد لها من قصبة أو مدينة أو نهر يجمع اسمها. عن كرد علي. ص: 107.
[23]  جبل سنير: جبل القلمون، ويسمى بجبل الحلو، وهو فرع من فروع جبل لبنان الشرقي. عن: كرد علي. ص: 13.
[24]  أرض المرج: تبلغ مساحته ثلاثة أضعاف مساحة الغوطة، وهو في نجد منخفض من الأرض وبه أشجار قليلة، وخصّ بزراعة الحبوب في الشتاء والذرة في الصيف.
[25]  قطنا: مملكة تعود إلى عصر البرونز 2700 ق.م؛ هي “المشرفة” حالياً، تقع بالقرب من مدينة حمص في سورية، كانت مملكة محلية على مناطق حدودية يتنافس عليها النفوذ العسكري والسياسي المصري والميتاني والحيثي؛ فيها قصر ملكي يعد ثاني أضخم قصر في سورية بعد قصر مدينة ماري.
[26]  ماري: عاصمة مملكة مزدهرة أنارت بتطورها وقوانينها وتجارتها العالم القديم؛ قامت في سورية حوالي عام 2900 ق.م، تأسست عن طريق سلطة اجتماعية وسياسية ملكية، كان لها حضور قوي وموقع دعم في المنطقة على نهر الفرات؛ كان لمدينة ماري دور هام في الطريق التجاري الذي يتبع مسلك الفرات في سورية الداخلية. ويعتقد أن الخارطة الجغرافية المتغيرة للمنطقة آنذاك حفزت نشوء كثير من المدن الجديدة.
[27]  البادية: أو الصحراء، هو القسم الغامر البائر الواقع في شرقي المعمورة المذكورة الخلاء القواء القليل الكلأ والماء غير الصالح إلا لرعي الماشية، الممعن في الامتداد والبعد حتى العراق الأسفل. عن: عشائر الشام لأحمد وصفي زكريا. ص: 18.
[28]  الحماد: القفار الموحشة المعطشة التي تمتد من جنوبي تدمر حتى النفوذ، ومن الغريب ألا يرد الحماد في معجم البلدان لياقوت ولا غيره من الكتب الجغرافية والمعاجم اللغوية العربية، ويُعتقد أنَّه أطلق لمحمدة أرضه بالنظر إلى أنَّ أدنى مطر يسقط عليه ينبت كلأ وافراً ترعاه ماشية الأعراب. عن: عشائر الشام لأحمد وصفي زكريا. ص: 28.
[29]  تدمر: من أقدم المدن التاريخية في العالم، نافست عاصمة الإمبراطورية روما أيام مجدها وأصبحت عاصمة لأهم ممالك الشرق مملكة تدمر. تقع تدمر بين نهر الفرات والبحر الأبيض المتوسط، كانت محطة تجارية في غاية الأهمية بين آسيا وأوروبا؛ ازدهرت في النصف الثاني من القرن الأول ق.م، وكانت تحمل طابع المدن الإغريقية الرومانية بأبنيتها.
[30]  الضمير: التسمية من اللغة الآرامية وتعني الحرارة، يعود أصل إعمارها إلى عام 245 ق.م، تعاقبت عليها حضارات عديدة منذ عهد الآراميين حتى الآن وكان اسمها في العهد الروماني أدمرا أو أدميرا؛ تحمل تاريخاً عريقاً وفيها شواهد وصروح وآثار أهمها معبد جوبيتير؛ وتقع الضمير في الشمال الشرقي للعاصمة دمشق عند بدء سلسلة الجبال التدمرية على أطراف بادية الشام، وتعتبر البوابة الشرقية لدمشق وبها تبدأ البادية الشاسعة وصولاً إلى العراق، وكانت مفترق طرق للجيوش الغازية والتجارة.
[31]  لما جاء خالد بن الوليد مدداً لجيش الشام من العراق غزا بني غسان في الغوطة يوم فصحهم، أي أنَّهم كانوا سكانها أو معظم سكانها يومئذ. قال اليعقوبي: “إنَّ أهل كورة الغوطة غسان وبطون من قيس وبها قوم من ربيعة، ومن كلب بأرض الغوطة عامر بن الحصين بن عليم وابن رباب المقلي”.
[32]  يمحاض: مملكة في شمال غرب سورية أزدهرت من القرن التاسع عشر ق.م وحتى النصف الثاني من القرن السابع عشر ق.م، وكانت من أهم المناطق التجارية؛ وقد امتدت لتشمل الجزيرة السورية وشمال الهلال الخصيب، وحتى بدايات البادية السورية جنوباً، وكانت صلة الوصل بين شرق الهلال الخصيب والبحر الأبيض المتوسط، حيث كانت تمر عبرها القوافل والنواد التجارية؛ كانت حلب عاصمة مملكة يمحاض مركزاً دينياً هاماً لعبادة إله العاصفة أو اله العواصف، كما كانت مركزاً تجارياً ذو شأن وأهمية كبيرة، ظهرت لتراجع دور إيبلا المملكة السورية القريبة منها.
[33]  إيبلا: حاضرة ومملكة عريقة وقوية، ازدهرت في شمال غرب سورية في منتصف الألف الثالث ق.م، بسطت نفوذها على المناطق الواقعة بين هضبة الأناضول شمالًا وشبه جزيرة سيناء جنوباً، ووادي الفرات شرقاً وساحل المتوسط غرباً، وأقامت علاقات تجارية ودبلوماسية وثيقة مع دول المنطقة والممالك السورية ومصر وبلاد الرافدين.
[34]  حلبون: تقع وسط سلسلة الجبال شمال غرب دمشق يحدها من الشمال بلدة رنكوس ومن الشمال الشرقي بلدة تلفيتا ومدينة صيدنايا ومن الجنوب الشرقي منين ومن الجنوب قرية الدريج ومن الجنوب الغربي بسيمة ومن الغرب افرة ومن الشمال الغربي قرية هريرة، تبعد عن مدينة دمشق حوالي 27 كم؛ من أقدم المناطق المأهولة بالسكان منذ فجر التاريخ وقد ذكرت في الكتب المقدسة وفي الكثير من المراجع التاريخية حيث أنها تتسم بالصفات التي يحتاجها الإنسان في موطن سكناه، كما تعد حلبون حصنا طبيعيا لرد المعتدين لموقعها بين الجبال الشاهقة المرتفعة. ورد اسم حلبون في الكتابات القديمة ذكرها استرابون باسم (شاليبون) وكانت من أسماء الأماكن التي حددها بطليموس في خارطته وقد ذكرت التوراة أن خمورها كانت تحمل إلى صور. ذكرها بطليموس في كتابة الشهير باسم حلبون حيث تتحدث الآيات أن إبراهيم قد تحارب مع خمسة ملوك وتبعهم حتى حلبون شمال دمشق.
[35]  يبعد خانق الربوة عن مدينة دمشق القديمة عشرة كيلو مترات غرباً.
[36]  كوميدي: كامداللوز، تقع في قضاء البقاع الغربي، تنبع أهمية كوميدي من الموقع الإستراتيجي الذي تحتله، في الوادي، بحيث كانت النقطة الوسطى بين الإمبراطورية الحثية في الشمال، والإمبراطورية المصرية في الجنوب، وإمبراطوريات بلاد ما بين النهرين في الشرق. دلت بواكير اكتشافات البعثة الألمانية على أنها كانت تخضع للنفوذ المصري في إحدى الحقب التاريخية، خاصة بعد طرد الهكسوس من مصر، وقد امتد هذا النفوذ من بداية القرن السابع عشر حتى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ولاسيما أثناء فترة حكم تحوتمس الثالث وإخناتون، ويعتقد بعض المؤرخين أنها كانت مقرا للحاكم المصري على هذه البلاد، بحيث دام هذا الحكم إلى ما بعد معركة قادش بين المصريين والحثيين في أواخر القرن الرابع عشر وبداية القرن الثالث عشر ق.م.
[37]  القبائل السامية: لفظة أطلقها أوغست لوديـك شـلوزر على مجموع شعوب منطقة الشرق الأدنى القديم، من واقع دراسة قام بها للغات المنطقة، حيث نتـج عن دراسته وجود وحدة عنصرية مشتركة تجمع شعوب المنطقة بلغة واحدة أطلق عليها اللغة السامية، ومنها سمي شعوب المنطقة بالساميين، وعرفوا أيضاً بــ “الرس السامي” و”الجنس السامي” أو “السامية- Semites”، ويرى كثير من الباحثين أنَّ هذه اللفظة اتخذت من التوراة التي سَمَّتْ أحد أبناء نوح عليه السلام، يقول الإصحاح 10 من سفر التكوين: “وهؤلاء مواليد بني نوح سام و حام ويافث والذين منهم تفرقت الأمم”؛ تواجه هذه النظرية انتقادات عدة، فهي لا تتعدى كونها اصطلاحاً مجرداً للتعبير عن الروابط الظاهرة لتلك الشعوب والتي تتعلق بالنواحي الثقافية وهناك من يرى أنها مبنية على خرافة يهودية لخدمة مصالحهم العنصرية، حيث قسموا شعوب العالم إلى عناصر ثلاثة سامي وهو عنصر الخير، وحامي وهو عنصر الشر، ويافثي وهو عنصر بالنسبة لهم غير معروف.
[38]  الأنباط: يقول ابن القرية: “والنبط إنما سموا نبطاً لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين”، ويقول الخطيب البغدادي: “إنّ النبط هم الذين استنبطوا الأرض وعمروا السواد وحفروا الأنهار العظام فيه”. والأنباط شعب عربي قديم سكنوا منطقة جنوب الشام وشمال جزيرة العرب وشبه جزيرة سيناء، اشتغلوا بالتجارة، وفي عصرهم الذهبي كانت عاصمتهم البتراء مدينة مزدهرة. اعتمد اقتصاد الأنباط على تجارة القوافل التي كانت تحمل التجارة ما بين أقاليم المنطقة، الشام ومصر وشبه جزيرة العرب واليمن، وسادوا منطقة خليج العقبة وميناءه أيلة، ويظهر ذلك في النقوش التي خلفها التجار الأنباط في الأماكن التي وصلوا إليها. عبد الأنباط الآلهة العربية المعروفة: ذا الشرى إله الشمس، الذي مثلوه على هيئة حجر أسود، بالإضافة إلى اللات، والعزى، ومناة، وهبل، وفي القرن الرابع ميلادي اعتنقوا الديانة المسيحية.
[39]  البتراء: حاضرة الأنباط الكبرى، تقع في الأردن. اسمها القديم “سلع” أي “الشَّق”، بسبب تصميمها المخفي في الوديان الصخرية العميقة التي لا يمكن الدخول إليها إلا لمن يعرف دروبها. سماها الرومان Petra التي تعني في اللغة اللاتينية “الصخرة”، كما أسموا الإقليم الذي ضم المنطقة Arabia Petra أي “بلاد العرب الصخرية”، ويبدو أن الأنباط قد عرفوا المدينة باسم “الرقيم” بسبب كثرة النقوش على جدران وديانها وعماراتها. ازدهرت في القرن الأول ق.م. في عهد ملكها الحارث الثالث.احتلها الرومان وأسموا الأراضي التي قامت عليها مملكة الأنباط “بالولاية العربية” وظلت مزدهرة حتى القرن 3 م.تضم آثارا عمرانية منحوتة في الصخر نادرة المثال.
[40]  يصنف توافدهم بتسلسل زمني يبدأ من الأقوام العربية البائدة التي انطلقت من شبه جزيرة العرب منذ الألف الرابع ق.م، وهي سابقة للسومريين؛ ثمَّ الأقوام العربية القديمة: الآكاديين والكيشيين والماريين والإبليين والأموريين والكنعانيين والآراميين، وهم يتكلمون لهجات قريبة جداً من اللغة العربية؛ يضاف إليهم عرب الجنوب: وهم عرب معين وسبأ وحمير؛ وتجدر الإشارة إلى وفود عدة قبائل إلى بادية الشام خلال الفترة البيزنطية مثل قضاعة وفروعها بُليَ وجهينة وكلب وبهراء، ومثل الغساسنة من الأزد اليمنية، وقبيلة كلب بن وَبَرة وغيرهم.
[41]  ذكرت العرب في النصوص الآشورية على أنَّهم عرب بادية الشام والشمال والأنباط والأيتورييون والثموديون والصفائيون واللحيانيون والحضريون والتدمريون، ثمّ المناذرة والغساسنة.
[42]  السلوقيون (312 ق.م.، 64 ق.م.)، سلالة هلنستية ترجع تسميتها إلى مؤسس الأسرة الحاكمة للدولة السلوقية، سلوقس الأول نياكتور أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر، شكلت هذه الدولة إحدى دول القادة الخلفاء (Diadochi)، التي نشأت بعد موت الإسكندر ، حكمت منطقة غرب آسيا، كان لها دور كبير في تفاعل الحضارتين الإغريقية والشرقية. يرد ذكرهم كأعداء لروما، خلال ما عرف بالحروب الرومية السورية (Roman-Syrian War) في القترة ما بين (192- 188) ق.م بقيادة أنطيوخوس الثالث الكبير (Antiochus III the Great).
[43]  كانت حضارة ماري تحتفظ بألفي مهندس ري، وكان شعارها:” المياه هي الحياة السرمدية”. عن شبلي الشامي. ص: 245.
[44]  تشير دراسات أجريت عام 1930 إلى العثور على بقايا عظام وظران تعود إلى العصر الآشولي في موقعي وادي شركس والأشرفية. كما عثر على أدوات حجرية في حوض نهر بردى وفي برزة حول دمشق، وهي تعود إلى هذا العصر. كما عثر على أدوات تعود إلى العصر اللافالوازي والموستري في المزة والهامة، وهي عصور حجرية قديمة تعود إلى آلاف السنين؛ ولكن البحث اعتمد الفترات المتقدمة نظراً لتأثيرها المباشر نسبياً على تشكل المستقرات في منطقة دمشق.
[45]  بدأ العصر الحجري القديم منذ مليون عام تقريباً، وانتهى تقريباً في 12000ق.م؛ ويقسم إلى ثلاثة أقسام: القديم الأدنى: من 1000000ق.م إلى 100000ق.م، والقديم الأوسط: من 100000ق.م إلى 35000ق.م، والقديم الأعلى: 35000ق.م إلى 12000ق.م.
[46]  تل أسود: يقع على أطراف غوطة دمشق في منطقة تكثر فيها المستنقعات الواقعة بين بحيرتي العتيبة والهيجانة، والتل قرية مؤلفة من أكواخ صغيرة الحجم ومستديرة الشكل تتلاصق بكثافة بعضها مع بعض ومملوءة بالتراب حتى منتصفها، وقد استخدم الطين في صنع اللبن الذي كانت تفرش فيه أرضية المسكن أو لبناء مصطبات منخفضة، أما البنيان العلوي للكوخ فإن معظم عناصره مؤلفة من مواد نباتية خفيفة، وتبلغ أبعاد هذا التل(225-270)  متراً وارتفاعه عن سطح الأرض نحو خمسة أمتار، وقد جرت فيه عدة تنقيبات أثرية. وبناء على تحليل الكربون المشع ثبت أن عمر الاستقرار البشري في هذا الموقع يعود إلى الفترة الواقعة بين 7790 و6690 ق.م أي ما يعرف بالعصر الحجري الحديث الأول؛ وعثرت البعثة الأثرية في تل أسود على دلائل مادية تؤكد على تطور الاستقرار البشري واتساعه، وقد أضيف إلى زراعة القمح النشوي زراعة أنواع جديدة من الحبوب كالقمح الوحيد الحبة والقمح الصلب والشعير. عن: علي القيم، سوريا الآن.
[47]  تل الغريفة: يقع بالقرب من تل أسود وبحيرة العتيبة وقد عثر على بيئة مشابهة لتل أسود في الطبقة السفلى من الموقع والتي تعود إلى الفترة الواقعة بين 6900 و6300 ق.م والتي تظهر نمطاً حياتياً مماثلاً لتل أسود “الطبقة الثانية”؛ أما الطبقة العليا الممتدة من 6300 و6000 ق.م فنمط العيش فيها يشبه إلى حد ما الطبقة الأولى من تل الرماد المعاصر، وهناك مايثبت أن دور الزراعة في هذه المنطقة قد تدنى لصالح الصيد بسبب الجفاف الذي طرأ على هذه الفترة الزمنية؛ وقد توقفت الحياة في هذا الموقع منذ ذلك الحين إلى أن جرى تحويله إلى مقبرة في الفترة الرومانية  البيزنطية. عن: علي القيم، سوريا الآن.
[48]  تل الرماد: يقع على بعد 20 كم جنوب شرقي دمشق قرب بلدة قطنا، على ضفة واد يجري بين قطنا وعرطوز؛ وكان يعرف “تل قطنا” وفي سنة 1960 أعيد اكتشافه على يد فان لير الذي أطلق عليه أسم تل الرماد نسبة إلى تكوينه، ومن سنة 1963 إلى سنة 1973 قامت بعثة فرنسية سورية بإجراء عدة مواسم تنقيبية فيه أسفرت عن وجود ثلاث طبقات أثرية فيه، الطبقة الأولى 6000-6250 ق.م، الطبقة الثانية 5500-6000 ق.م، الطبقة الثالثة 5000-5500 ق.م. عن: علي القيم، سوريا الآن.
[49] أجرىدوكنتسونأسبارًامحدودةفيتلالخزاميونشرهافي:
Contenson H. de 1968، Rapport Préliminaire sur les Fouilles à Tell el Khazami en 1967، AAAS.
[50]  تل الخزامى: يقع في المكان الذي أنشئ فيه مطار دمشق الدولي الجديد ويعود تاريخ الآثار التي اكتشفت فيه إلى النصف الثاني من الألف الخامس قبل الميلاد، وكان يضم في بقاياه بعض المساكن المتعددة الغرف المستطيلة الشكل من مادة اللبن المقولب، وقد عثر فيه على كميات من الخزف الفاتح اللون المغلف بطلاء أحمر المزين بزخارف محرزة، ويشبه من حيث النوعية الخزف المكتشف في مناطق عديدة من فلسطين وجبيل؛ أما الأدوات الصوانية فقد كانت نادرة، وهي عبارة عن نصلات مقفاة مستطيلة الشكل كانت بمثابة المناجل وهناك التماثيل الطينية المشوية “حيوانية وإنسانية” على شكل بيادق صغيرة. عن: علي القيم، سوريا الآن.
[51]  تل بحارية: يقع على بعد 5كم إلى الشمال الشرقي من بلدة النشابية، في منطقة سهلية تحيط بها الأراضي الزراعية، في قرية تحمل نفس الاسم على أرض منبسطة شمال مجرى نهر بردى. شكل التل متموج ويبلغ ارتفاعه نحو خمسة أمتار، وتبلغ مساحته نحو 250م باتجاه شمال – جنوب، ونحو 350م باتجاه غرب  شرق، ويرتفع التل عن سطح البحر 617.7 م، وفيه آثار لمبان ضخمة وتحصينات يعود تاريخها إلى 4500 ق.م، ووفيه آثار لبيوت دائرية معروفة بنموذج تولوي والتي يعود تاريخها إلى الألف السادس ق.م، ويتضح النشاط الزراعي ولا سيما القمح والزيتون وبعض الأشجار المثمرة وكذلك تربية الحيوانات مثل الخنزير البري والبقر والغنم والماعز. كما تشير التقيبات على أنها كانت محلاً للتبادل التجاري ما بين المنطقتين الشمالية والجنوبية، وفيها ثلاث سويات أثرية متتالية تاريخيا، فصلت الطبقات عن بعضها بواسطة الرماد والردميات ولا سيما في مرحلة الاستيطان الأخيرة التي تمت في مطلع الألف الرابع قبل الميلاد. عن: غادة سليمان، البعثة التنقيبية الوطنية العاملة في تل بحارية.
[52]  الدير خبية: بلدة تقع في أقصى الشمال الشرقي لناحية الكسوة بالقرب من الخط الوهمي الراسم لحدود المنطقة الإدارية التابعة لمدينة قطنا؛ تحيط بدير خبية القرى والبلدات التالية: المقيلبية، مرانة، كوكب، البويضة، خان الشيح؛ وترتوي من قنوات نهر الأعوج ثاني أهم مجرى مائي في حوض دمشق.
[53]  تل الصالحية: يقع في غوطة دمشق على الضفة الشمالية لنهر بردى، وعلى بعد 15 كم شرق دمشق، قرب بلدة النشابية، وفيه آثار من العصر الحجرى القديم؛ يعود إلى الألف الثالث ق.م ظل مأهولاً حتى العصر الروماني، وهو موقع محصن مسور، تم العثور فيه على آثار أسوار محيطة تعود إلى منتصف عصر البرونز، ترتفع أكثر من ثلاثة أمتار وهي مبنية من الطين؛ وقد أقام العالم الأثري فون دار اوستن في منزل قريب من تل الصالحية، بهدف متابعة التنقيبات بشكل مباشر، ومنذ أن بدأ حفرياته في تل الصالحية استطاع أن يعثر على آثار من الحجر والخزف والفخار وأدوات من المعادن وعلى قبر العاشقين الكنعانيين.  Van der Osten 1950.
[54]  بدأت عمليات التنقيب في موقع “تل سكا” منذ العام /1989/، وهو موقع يبعد عن “دمشق” قرابة 20كم إلى الجنوب الشرقي، ويرجع إلى فترة عصر البرونز الوسيط الثاني 1800 ـ 1500 قبل الميلاد.
[55]  الصوان: بلدة واقعة بالقرب من منطقة عدرا الصناعية، أصبحت قرية منذ 50 سنة، ويبلغ عدد سكانها 1000 نسمة، وهي قرية مهملة.
[56]  حزة: من مناطق غوطة دمشق الشرقية اسمها سرياني يعني حفر، وهي قديمة قدم التاريخ، ويذكر أن بها مكاناً يقال له أرض التلول يوجد به بقايا أبنية قديمة تعود لعصور قديمة مضت.
[57]  تل الغزلانية: تل أثري جنوب بلدة الغزلانية بمرج غوطة دمشق الشرقية من منطقة دوما؛ كان عامراً في العصر الآرامي في الألف الأول قبل الميلاد، واستمر مأهولاً في العصرين الهيلنستي والروماني.
[58]  الحثيون: شعب قديم بآسيا الصغرى (تركيا) وشمال سورية، سكنوا سورية منذ الألف الثالثة ق.م. بنفس الفترة التي سكن أبناء عمومتهم السومريون بلاد الرافدين، وهم من قبائل الأناضول تعرف باسم ختى. حكم الحيثيون أمبراطورية كان مركزها كابدوكية، واستطاع ملكهم مرشلش الأول أن ينهب مدينة بابل، فتغلب بذلك على أسرة حمورابي، ومن 1400 ق.م كانت الأمبراطورية الحيثية هي مركز القوة في آسيا.
[59]  هي الربوة المباركة التي كانت مأوى المسيح وأمّه، وهي من أبدع مناظر الدنيا حسناً وجمالاً وإشراقاً، واتقان بناء واحتفال تشييد، وشرف موضع، وهي كالقصر المشيد ويصعد إليها على أدراج، وهي كالبيت الصغير؛ وبإزائها بيت يقال: إنَّه مصلى الخضر، فيبادر الناس للصلاة بهذين الموضعين المباركين، ولا سيما المأوى المبارك، وله باب حديد صغير يغلق دونه، والمسجد يطيف به وله شوارع دائرة، وفيها سقاية حسنة قد سيق إليه الماء من علو. عن: الصالحية لابن طولون. ص: 52
[60]  الأيتوريون: أو الأيطوريون، أو اليطوريون، شعب بدوي من العرب البائدة، قبيلة تتكلم الآرامية سكنت بين اللجاة والجليل، وترجع التوراة نسبھم إلى يطور بن إسماعيل بن إبراھيم الخليل، كما أشارت التوراة إلى حربھم بني إسرائيل أيام الملك شاؤول، ويذكر يوسيفيوس المؤرخ أنھم عاشوا في البقاع والجليل شمال فلسطين في القرن الثاني قبل الميلاد، غزاھم الملك اليھودي أرسطوبولوس الأول عام 104 ق.م وأرغم بعضھم على اعتناق اليھودية، امتاز اليطوريون بالرماية وتأثروا بالحضارة الھلينية، وأنشأ منھم ماركوس أنطونيوس حرساً خاصاً كي يحتويھم، لكنھم تحرروا فقتل ملكھم.
[61]  فلافيوس بلوندوس: Flavius Blondus، فلافيو بيوندو بالإيطالية، (1392- 1463) مؤرخ في النهضة الإيطالية، وهو أحد المؤرخين الذين قسموا التاريخ إلى فترات ثلاث (القديمة والقرون الوسطى والحديثة) وهو معروف كأحد علماء الآثار، ولد في مدينة فورلي، وبعد إقامة قصيرة في ميلانو، انتقل إلى روما في 1433 حيث بدأ العمل في كتابة التاريخ؛ عين الأمين العام لكانسيليريا، ومن ثمَّ نفي إلى فيرارا وفلورنسا.
[62]  يقول الكاتب الدمشقي نيقولاس: “إنَّ إبراهيم أقام بها مدة وجيزة بعد خروجه من أرض حاران، وقبل دخوله أرض الميعاد، وقيل: إنَّه استقر فيها عشرين سنة بعدأن تبلغ دعوته، وأنها كانت محطته الأولى بعد تركه موطنه، وتوجه منها إلى بيت المقدس وعاد إليها، ثمَّ توجه إلى مصر، وعاد إليها، ثم خرج ومعه هاجر وإسماعيل إلى مكة، وتركهما بواد غير ذي زرع، ثم عاد إليها؛ وكان اسم إبراهيم مشهوراً في منطقة دمشق في أيامه، والدمشقيون يقولون إنَّه يسكن قرية قريبة من المدينة باسمه، فلوا ملك عليها لسكنها”. عن: أحمد غسان سبانو، دمشق في دوائر المعارف العربية والعالمية. ص: 65.
[63]  “{سفر التكوين 14: 15}، {سفر التكوين 15: 2}.
[64]  تمثل هذه الرقعة مجتمعاً محصناً يصعب دخوله، وهي عبارة عن ممر هام وأساسي للوصول إلى منطقة دمشق من شمال سورية وغربها مروراً بسهل البقاع وبعلبك عن طريق سهل الزبداني وسرغايا.
[65]  الإقليم: لفظة يونانية، يراد بها كل ناحية مشتملة على عدة مدن وقرى، وقد سميت الغوطة إقليماً تارة وكورة أخرى. عن: كرد علي، ص: 107.
[66]  ابذعرّ: تفرّق وفرّ. القاموس “بذعر”.
[67]  الدمن: الآثار المهترئة بشكل سيِّئٍ.
[68]  هناك الكثير من الأسماء الآرامية أو السريانية مثل: (برزة: بيت الأرز، جرمانا: عظمى، جسرين: جسور، حجيرة: عرج، حرستا: خشنة، حزة: حُفَر، داريا: دور، زملكا: سلاح الملك، سبينة: مبتاعون، سقبا: شيخ، عربيل: غربال، قابون: عامود، كفر بطنا: قرية الجنين، كفرسوسية: قرية الفرس، مديرة: طبقات البناء، مسرابا: مشرب، يلدا: ولد). كما تبدأ بعض أسماء قرى الغوطة بـ”كفر”، والكفر: القرية بالسريانية، منها: كفر سوسة، وكفر بطنا.
[69]  هناك العديد من الأسماء التي تعود إلى العهود القديمة، مثل: مقرا: سميت من مكر: المستطيل باليونانية، المزة: بمعنى التل باليونانية، جوبر: مسيل النهر بالفارسية. وبيت ماراس: بالقرب من نهر جسرين عثر على حجر رقمت عليه كتابة باليونانية: “عهد ذيوقلطيانوس ومكسيمميانوس أغسطس وقسطيطينوس، بوضع حجر تحدد به قرية بيت ماراس وقرية أناكاس”. كرد، ص: 165.
[70]  من الأسماء العربية: المنيحة، المحمدية، القدم، عين ثرماء، الحديثة، الأشرفية، الخيارة، البلاط
[71]  من هذه التلال: أرض التلول، التل: بأرض القدم، التل الأحمر بأرض القدم، تل الحفارة: قرب قرية الحديثة، تل سوجق: بأرض القدم، تل القردود: في أقصى حدود الشرق من أرض المحمدية، تل هجون: بالقرب من الكسوة، تلة الباب الشرقي: بالقرب من الباب الشرقي، تلة البيرة: أرض المنيحة، أرض التل: في عين ثرماء، أرض التلول: في أرض حزة، كان محلها قرية، فأطلق على خرائبها التلول؛ أرض التلة: في زبدين تبعدعنها مسير ربع ساعة. عن: كرد علي. ص: 166.
[72]  قائم مثل: بيت سوا، وبيت سحم.
[73]  المندثر مثل: بيت أبيات: غربي الصالحية، بيت الآبار: كانت حاضرة هامة، وهي تلة شرقي جرمانا، بيت رانس: أو أرانس على طريق عقربا، بيت سابا: أو سابر قرية قرب جرمانا، بيت قوفا: جنوب جرمانا، بيت لهيا: أو ألاهية، بلدة كبيرة، على طريق شارع بغداد القديم، يقوم عليها المستشفى الإنكليزي في القصاع؛ بيت ماراس: بالقرب من نهر جسرين؛ بيت والي: شرق جنوب دوما؛ بيت وانة: جنوبي دوما.
[74]  منها، الأرجام: خرائب عظيمة تقع شمالل حرستا البصل، على بعد مسير ساعة عنها باتجاه الجبل، والرجم: القبر، والغالب أن الأرجام كانت مقبرة قرية كبيرة كانت إلى جانبها.
[75]  إلياس: نبي (إيليا) 853 ق م من أنبياء بني إسرائيل، حارب العبادات الوثنية في بعلبك، فنفي إلى صيدا في لبنان، ثم نزح إلى دمشق وسكن جوبر، وكانت قرية جوبر مركزاً لليهودية، وكان كنيسها مقراً للنبي إلياس وتلميذه النبي اليشاع.
[76]  كانت قرية دوما آنئذ مركزاً لبني تغلب القيسيي،ن وهم من بني ربيعة بن تميم، يؤيد هذا ما ورد في كتاب تهذيب ابن عساكر  للعلامة عبد القادر بدران، حيث قال: “قرية بني تغلب ابنة وائل يقال لها دومة”.
[77]  جوليا دومنا: أو يوليا دومنا سورية من مدينة حمص زوجة القيصر الروماني سيبتيموس سيفيروس (139- 211)م، ووالدة القيصر كاراكلا (211- 217)م وگيتا، فارقت الحياة في أنطاكية عام 217م، يرجح أنَّ ولادتها كانت في العام 166م أو 170م، في مدينة حمص في سورية، لعائلة من الاسياد في المدينة تتوارث كهنوت عبادة الإله إل الجبل (أيل الجبل) حيث كان والدها، يوليوس باسيان، الكاهن الأعظم لهذه العبادة في حمص وفي الإمبراطورية الرومانية.
[78]  أقام اليهود مجتمعهم في قرية جوبر الملاصقة لمدينة دوما، وظلوا فيها إلى ما بعد القرون الوسطى، وبقي بعضهم الى القرن الثامن عشر، فانتقلوا إلى دمشق؛ وصف الفرنسي جان تيفنو جوبر في “مذكرات رحلته إلى الشرق” (1655-1668م)، قائلاً: “ويجدر بالمرء أيضا الذهاب إلى قرية تسمى جوبر تبعد عن المدينة نصف فرسخ وهي ليست مأهولة إلا باليهود وفيها لهم كنيس تشاهد بأقصاه مغارة إلى الجانب الأيمن تبلغ مساحتها أربعة أقدام مربعة والداخل إليها ينزل عبر فتحة في سبع درجات منحوتة في الصخر. ويقال: إن هذا المكان هو الذي اختبأ فيه النبي إيليا هارباً من مطاردة الملكة إيزابل له؛ ويشاهد في المغارة أيضاً الثقب الذي كانت الغربان تمد إيليا منه بقوته خلال أربعين يوماً”. عن: شمس الدين العجلاني، يهود دمشق الشام.
[79]  فيتروفيوس: هو ماركوس فيتروفيوس باليو “Marcus Vitruvius Pallio“، مهندس معماري روماني، ولد ما بين 80 و70 ق.م وتوفي عام 23م، عمل مهندساً حربياً تحت إمرة القيصر في أفريقية، وشارك في فتح اسبانيا وبريطانيا، في عهد “أوغسطس”؛ واعتزل العمل الرسمي في شيخوخته ليضع أصول أعظم الفنون الرومانية بكتابه المسمى: “الكتب العشرة في العمارة”.
[80]  ابن خلدون: ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون الحضرمي، مؤرخ وفيلسوف اجتماعي عربي ينتهي نسبة إلي وائل بن حجر من عرب اليمن، ولد بتونس 732هـ/ 1332م؛ ونشأ في إشبيلية، ودرس على مشاهير علماء عصره القرآن وعلومه والتفسير والحديث والفقه والأصول، كما درس علم المنطق والفلسفة والرياضيات؛ توفي في مصر سنة808 هـ الموافق 1406م. صاحب كتاب (العِبَرِ وديوانَ المبتدَأ والخبرِ في أيامِ العربِ والعجمِ والبربرِ ومن عاصرهُمْ من ذوي السُّلطان الأكبرِ).
[81]  ابن الأزرق: محمد بن علي بن محمد بن علي بن قاسم بن الأزرق الأصبحي في (832- 896)هـ، ولد بمالَقة بالأندلس، استَظهَر القرآن ووعى تفسيرَه، وحفظ كثيرًا من أشعار العرب، وتفقَّه في النحو والمنطق والفقه، وزاد تفقُّهه في الفقه المالكي ودرس الأدب؛ عُيِّن قاضِيًا لغرب مالَقة، وظَلَّ ينتَقِل في عمله القَضائي ويرتَقِي فيه حتى وصَل إلى قاضي القُضاة بغَرناطَة، ومكَث في القَضاء بالأندلس، ثم تولِّي قَضاء المالكيَّة بالقُدس الشَّريف؛ هو أول من تناول مقدمة ابن خلدون بالدراسة والشرح.
[82]  كريزورواس: أحد أسماء نهر بردى، أورده إيكوشار في: مقدمة واستعراض المدينة القديمة من خلال المخططات التنظيمية المختلفة، فرع دمشق، نقابة المهندسين السوريين، ندوة دمشق القديمة، 12 و13/ نيسان/ 1982. ص: 331.