- info@damascus-heritage.org
يَبني بعض الباحثين تصورهم عن نشأة مدينة دمشق، استناداً للتاريخ، بأنها كانت المنطقة المستقرة الحضرية الأولى في هذه المنطقة، وأنها كانت سابقة في نشأتها على باقي مكونات النسق الحضري، ولا يُذكر أن كان هناك مراكز حضرية منافسة لها في منطقتها؛ وغالباً ما تُذكر دمشق إلى جانب المدن المُبدعة؛ ويُراوغ التاريخ عندما يُراد معرفة باني دمشق، أكان فرداً، أم حضارة؛ وكان من الواضح بأن التاريخ قد تقصد إغفال دور السكان، ودوَّن سجلاً رصف فيه أحداث الأقوام الوافدة وما فعلوه بدمشق.
أما كتب الرحالة فكانت تتغزل بالغوطة على أنها هبة من القدير وجنته، وأن قاسيون جبل الأساطير الدينية، وكأن هناك إهمالاً تاماً للنسق الحضري الذي تتألف منه المنطقة، ذلك النسق الذي يُمثل حقيقة تفاعل السكان في المجال المكاني، فكان جسرَ الوصول إلى هذا القلب[1] المقدس، وخطاً دفاعياً عن المنطقة بكامله، ففي سبيلها كانوا يُقتلون ويُسبون وتُحرق أغلالهم، ودمشق لم تكن بهذه القدسية والمكانة التاريخية لولا هذا النسق في الجبل والغوطة.
ليس خروجاً عن النصّ، وإنما التوسع في تفسيره؛ فتحليل الأخبار ومقاطعتها مع أجزاء نظرية وتطبيقات عملية يمكن أن يُظهر جانباً آخر يبتعد إلى حدّ ما عن نظرية سيطرة دمشق، كمركز حضري، منذ بدايات الاستقرار في المنطقة؛ فالدلائل تشير إلى وجود عدد كبير من المستقرات في أرجاء الغوطة وعلى تخومها الصحراوية والجبلية، كان بعض منها مهيأً ليكون مركزاً حضرياً مسيطراً لتطابق جغرافيته مع القواعد النظرية للنشأة، إلا أن دمشق كانت قد ظهرت على قمة النسق الحضري دون منافسة، رغم أنها تجاوزت العديد من الشروط الواجب توفرها لنشأتها.
ولا بأس من تكرار أنَّ منطقة دمشق تخضع لتأثير مباشر من نهر بردى والغوطة وقاسيون لأهميته، إلا أنَّ شرح هذا التأثير يستدعي تناول عوامل جغرافية تتسع لتشمل محيط المنطقة، وأخرى تاريخية عديدة، ويفرض السياق العلمي للبحث التفريق مابين دمشق المعبد، ودمشق المدينة، ودمشق المنطقة؛ فدمشق المنطقة هي البقعة الجغرافية التي تضم أفرع نهر بردى حتى البحيرتين والغوطة وسفح جبل قاسيون، والتي كانت تضم مستوطنات السكان؛ ودمشق المعبد التي يمكن تناول نشأتها من التناص[2] الملحمي للأخبار العديدة الأولى قبل التاريخ المدون والتي تشكل صراع الأشخاص والأمم للدخول إلى ميثولوجيا[3] المكان المقدس الطاغي في تأثيره على نشأة المدينة؛ أما دمشق المدينة فهي تلك الحاضرة التي أورد التاريخ أخبارها بعد أن امتلأ محيطها بالقرى والبلدات والمدن قبل أن تولد، مصرحاً في سجلاته بأنَّها كانت إبداعات الأقوام الفاتحة حول المكان المقدس للسكان الأصليين، وأنها مقراً لحكمهم وسكنهم وتجارتهم؛ وبهذا يكون المجال المكاني للبحث يتضمن كل ماذكر.
ويمتد المجال الزمني من أول استقرار في المجال المكاني ليشمل الفترات المتعاقبة حتى ولادة المدينة الرومانية المسورة؛ ويقع البحث في مجال علمي تاريخي جغرافي معتمداً على نظريات تاريخ المدن القديمة في التوضع والنشأة والنمو.
وتأتي أهمية البحث في مخالفته النسبية للكتابات المألوفة عن نشأة دمشق، الأمر الذي يمكن أن يولد اهتماماً أكبر بالمحيط المهمل بالدراسة والتنقيب، والذي يمكن أن يقوِّم تاريخ مدينة دمشق بشكل سليم ودقيق، ويتيح للباحثين تجاوز المقولات التاريخية الثابتة لدى البعض رغم مخالفتها للنظريات العلمية، ويمكن للبحث أن ينال نوعاً من الأهمية العلمية من خلال الدمج المتواضع ما بين الاختصاصات المتعددة في الجغرافيا والتاريخ وتخطيط المدن.
وتتجلى إشكالية البحث في قصور التبريرات العلمية المتوفرة لنشأة مدينة دمشق بمعزل عن محيطهاالحضري، فقد ربط الباحثون نمو المدينة مع جمال الغوطة وشموخ قاسيون على أنهما معطيان جغرافيان، والقليل منهم من ربط المدينة بالتجمعات الحضرية فيهما، لذا كانت الإشكالية تتضح في صعوبة تقبل نتائج العديد من الدراسات حول نشأة دمشق، رغم معارضة موقعها للعديد من التوصيات التي فصلها المتخصصون القدامى عند اختيار مواضع المدن.
ويهدف البحث إلى بيان أهمية النسق الحضري الموجود في المجال المكاني، وأنه كان يسبق ظهور دمشق وترافق مع نشأتها، وأنَّ المنطقة تخضع لتأثيرات إقليمية كان لها تأثير على تميّز بعض المستقرات الحضرية، كما يهدف البحث إلى الكشف عن المواقع الجيدة التي يمكن أن تستجيب لشروط إنشاء مدينة مسيطرة على النسق الحضري، وتوضّح أنَّ موضع دمشق لم يكن منها، وبالتالي لم يكن سبباً في نشأتها.
ولإثبات ذلك، يستدعي البحث الاعتماد على المراجع التاريخية الكلاسيكية التي تتناول تاريخ مدينة دمشق وغوطتها، إضافة إلى كتب الجغرافيين، والمراجع الأساسية في نظريات تخطيط المدن وتاريخها، كما اعتمد البحث على عدد من الدراسات التخصصية الحديثة والمعاصرة، التي تتناول بالتحليل المجال المكاني تاريخياً وجغرافياً وأثرياً، وعدداً من تقارير التنقيبات، والأبحاث والمقالات والدراسات التخطيطية.
واعتمد البحث في متنه على النصوص التاريخية والقواعد الجغرافية والنظريات التخطيطية وتحليلها بتفكير أكثر من التسليم، من خلال تطبيق استخدامات مناهج علمية عديدة، فقد استخدم المنهج التاريخي في العديد من فقراته، واعتمد على المنهج التحليلي المقارن في الوصول المرحلي للنتائج، واستخدم المنهج النظري في عرض الثوابت العلمية، وتم استخدام المنهج الاستنتاجي للوصول إلى هدف البحث؛ وعرض في السياق عدد من الرسوم التوضيحية المركبة من النصوص التاريخية حول الاستقرار في المنطقة، وذلك بهدف الإشارة إلى المواضع التي تتناولها فقرات البحث، دون الاعتماد عليها كبيانات إحصائية أو إجرائية.
وحقيقة كان من الصعوبة بمكان ترتيب فقرات البحث لتداخلها، واختصار ما يمكن اعتباره بدهيات وألفباء منطقة دمشق؛ وقد أتى البحث بعد هذا التمهيد في مرحلتين؛ تبدأ الأولى في عرض تحليلي للموقع الجغرافي وبيان ثوابته المتوفرة من مكوناته الثلاثة: جبل قاسيون والغوطة والمنطقة شبه الجافة، ومن ثم بيان النفوذ الإقليمي الواصل إلية من محيطه والذي يقسم المجال المكاني إلى خمس مناطق: المنطقة الشرقية، المنطقة المفتوحة، المنطقة الشمالية، المنطقة الغربية، المنطقة الجنوبية؛ ثمَّ عرض تحليلي للسكان ونشاطهم في أجزاء المجال المكاني.
ويتجه البحث بعد ذلك إلى تناول تدرج ظهور النسق الحضري في المجال المكاني وفق مكوناته الجغرافية: النسق الحضري في منطقة جبل قاسيون، ثمَّ النسق في المنطقة الشرقية، ثمَّ الغوطة؛ باتجاه إعطاء تقييمٍ وافٍ للنسق الحضري في المجال المكاني، وتقويم ما يراه المخططون المنظرون في أسباب نشأة المدينة في موقعها، ومن خلال محاكاة إجرائية لنظريات النشأة، يصل البحث إلى تقييم نشأة دمشق ضمن النسق الحضري.
وينتهي البحث في خاتمة تشير نتائجها إلى أن دمشق كانت غائبة عن النسق الحضري إلا أنها كانت محوره الديني، وأن هناك أربعة مستقرات كانت مسيطرة على النسق الحضري قبل دمشق، وأن هناك مواقع أفضل من موضع دمشق، ولكن دمشق تميزت بثقلها الديني، ونشأت بتأثير قرارات سياسية.
الموقع الجغرافي والنفوذ الإقليمي:
يشير كل من استرابون[4]، وبتولوميه[5]، إلى أن الحضارة والاستقرار والسياسة ارتبطت بالجغرافيا، وكانت أسيرة المكونات الجغرافية في انتشارها، لذلك كانت الحضارات القديمة تهتم باختيار المواقع الجغرافية لإقامة حضارتها وإحداث مدنها ومسارات حركتها بعناية ودقة، تمكنها من بسط نفوذها وإجراء تحصينات لحمايتها وتأمين مواردها، كذلك كانت المحددات الجغرافية، كالجبال والأنهار والبحيرات والصحارى والبحار، تمثل حدوداً طبيعية يصعب اختراقها، ويستدعي تجاوزها قوة كافية وإمكانيات كبيرة؛ ومن هنا كان هناك ثوابت تتمثل في الموقع الجغرافي ومكونات المجال المكاني، ومتحولات تتمثل في السكان وتفاعلهم مع الثوابت ومقدرتهم على التكيف معها والتحكم بها؛ وبشكل عام، فإنَّ المواقع المتميزة جغرافياً تُعد مكاناً جاذباً لسكناها ولممارسة النشاطات المختلفة فيها، الأمر الذي يتطلب توفر تنوع متغير في مجالها المكاني، سواء أكانت في الجوانب الثقافية أو الدينية أو العرقية أو النشاطات الاقتصادية، والتي تنعكس بعلاقة طردية مع تميز الإستراتيجية الكلية للمجتمع القائم، ويستدعي تغيير تنظيم المكان إحداث تغييرات في هيكلية النظام الإداري الذي يدير شؤون المنطقة، وقد يأتي هذا التغيير من الداخل على شكل انتقال سلمي، أو من خلال ثورات داخلية، أو احتلال خارجي مباشر؛ أنتج هذا السجال المتعاقب تاريخياً في المجال المكاني نسقاً من أشكال الاستقرار يمكن ترتيبها لقراءة النشأة من زاوية جديدة يمكن أن تتوافق مع السرد التاريخي أو يمكن أن تقترب منه، ولهذا فإن البحث ينحى لعرض منطقة دمشق وفق هذا المفهوم على الشكل الآتي[14: 16]:
التفاعل في بيئة المجال المكاني:
تقع منطقة دمشق وسط الجهة الغربية لبلاد الشام على حافة الصحراء الشامية، في ظهر الحاجز المزدوج المكون من جبال لبنان، والذي يفصلها جغرافياً عن الشريط الساحلي؛ وينبع في هذه السلسلة من الجبال نهران يجريان شرقاً وهما: نهر إبانة أو بردى[6] ونهر فرفرة أو الأعوج[7] المذكوران في الكتاب المقدس[8]، واللذان كانا سبباً في نشأة الغوطة، يضاف إليهما مياه عين منين، انظر الشكل (1)؛ وتحمي شُعب الجبال، وأقربها جبل قاسيون، سهل دمشق من الشمال والغرب وبعض الجنوب؛ ويحمي جبل المانع المدينة من الجنوب بعض الحماية، ولكنها مكشوفة من الشرق، وتقع دمشق على ارتفاع نحو 2300 قدم فوق سطح البحر، تتمتع بمناخ عام معتدل، وتمتد على مساحة محصورة محددة لا يمكن زيادة رقعتها بسبب المحددات الجغرافية الطبيعية المحيطة بها.
وتقسم المنطقة مناخياً حسب مكوناتها الجغرافية، كما في الشكل رقم (2)، إلى ثلاث مناطق: قاسيون والغوطة وشبه الصحراوية، تتباين أحوال الطقس فيما بينها بوضوح سواء من حيث الحرارة والرطوبة والهواء، استقر الإنسان فيها، وكان لنهر بردى وأفرعه أثر كبير في الانتشار عليها؛ وحسب المصادر، فإنَّ الإنسان هبط من الجبل إلى السفوح فأطراف البحرتين، وأطراف الغوطة، ثمَّ أقام فيها، ويمكن وصفها على الشكل الآتي:
وقد تنوعت الآراء في أصل التسمية، فقيل: إنَّ تسميته جاءت من قساوة صخوره، وهناك من يقول: بإنَّه قسا على أن يأخذوا منه الأصنام؛[34: 28] وتشير إليه بعض المراجع الأجنبية باسم آسوس، أو كاسيوس، ويُعتقد بأنَّ هيكلاً كان يعلوه، بني إكراماً للإله المشتري، وكان يسمى: Jupiter Casius،[44: 751] وفي رواية أخرى[45: 269] أشير إلى وجود معبد لكبير آلهة دمشق وهو يحمل بيده اليمنى ثمرة الرمان دلالة على قدرته المتمثلة في حماية القشرة المدرعة لما بداخلها، وأنَّ الرومان عندما قدموا إلى المنطقة أطلقوا عليه التسمية السابقة نفسها.
ولجبهة قاسيون الشرقية سفحان يفصل بينهما نهر يزيد، فما كان على ضفته الشمالية فهو السفح الأعلى، وهو سفح كبير واسع خال من الماء، لم يكن يُنتفع فيه إلا بزرع شيء من الحنطة والشعير المسقيين بماء السماء، ولم يكن فيه شيء من البناء إلا محلة دير مران، وإلا بعض دور قليلة متفرقة في أنحائه وبعض المباني الدينية، ومغارة الدم ومغارة الجوع وكهف جبريل؛ أما السفح الأدنى ما كان على ضفة يزيد الجنوبية، وهو سفح مزدهر وافر المياه خصب الأرض يزرع طوال فصول السنة، وكان عامراً آهلاً بالسكان لسهولة العيش فيه.[35: 44]
وبحسب الميثولوجيا الدينية للمنطقة[35: 38]، فقد أحيط قاسيون بالأساطير ونقشت فيه الأماكن المقدسة، ففي سفحه الأدنى في بيت أبيات كان يسكن أبو البشر آدم، وفي شرقه التقى آدم بحواء، وفي أعلاه قتل قابيل أخاه هابيل، ففتح الجبل فاه لفظاعة هذا العمل يُريد أن يبتلع القاتل، وأخذ الجبل يبكي وتسيل دموعه حزناً على هابيل، وبقي لون الدم على صفحة الصخرة التي قتل عليها هابيل ظاهراً بادياً، وفي كهف جبريل جاءت الملائكة إلى آدم تعزيه بابنه هابيل؛ وفي شرقه كان مولد إبراهيم ومصلاه؛ ومن أتاه لا يعجز في الدعاء، وفيه احتمى إلياس من ملك قومه، وفيه صلى إبراهيم ولوط وموسى وأيوب، وفي غربيه الربوة التي آوى إليها المسيح وأمه، وقرب الربوة في النيرب كان مسكن حنة أم مريم جدة المسيح؛ وغير ذلك من الأخبار؛ وفيه عدد من المواضع والشواهد التي تظهر أهمية دور هذا الجبل في أسبقيته على الاستقرار فيه، مثل: كهف الأربعين[9] وكهف برزة[10]، ومغارة أهل الكهف أو آدم أو جبريل، ومغارة الجوع[11] ومغارة الدم[12]، ومغارة الشياح[13]، والكثير غير ذلك.
وتطلق تسمية “الغوطة” على الصقع المروي حول دمشق بين الجبل والبحيرتين[21]، وهي الكورة[22] التي فيها الحدائق والبساتين؛ وقد اصطلح على أن الغوطة هي: كل ما أحاط بدمشق من قرى، وكان من الأرض المطمئنة التي تروى من نهر بردى، وما اشتق منه من الجداول والأنهار الصغيرة أو القني، وعلى هذا فحدّ الغوطة يبدأ غرباً من فوهة وادي الربوة فالمزة فداريا، وينتهي بالجنوب عند صحنايا والأشرفية وسبينة وسبينات وحوش الريحانية ومن الشرق الريحان والشيفونية وحوش مباركة وحوش الأشعري وحوش المتبن وحوش خرابو والفضالية والنشابية وبيت نايم، وينتهي في الشمال بجبلي قاسيون وسنير[23]، ويشرف الجبل الأسود وجبل المانع من الجنوب، ومن الشرق أرض المرج[24].
وتأخذ الغوطة شكل مروحة فيضية، تقع أعلى نقاطها عند مخرج بردى من خانق الربوة، ويشتد الإنحدار من قمة المروحة الفيضية، وتبدو فيها خطوط الارتفاعات المتساوية على شكل موجات مركزية تنطلق من مخرج النهر عند خانق الربوة.[26: 420]
المنطقة شبه الجافة: وهي المنطقة المتناهية من الغوطة باتجاه الشرق والتي تضم منطقة بحيرتي العتيبة والهيجانة، تفصل الغوطة عن البادية، وهي منطقة تلال أثرية موغلة بالقدم، وهي تمثل منزلاً للمراحل الأولى للاستقرار في المنطقة التي كانت تعتمد على الصيد والمحاصيل البرية، وقد سُكنت لقربها من بحيرتي العتيبة والهيجانة؛ ثمّ أصبحت معقلاً لقبائل العرب ومدخلاً لهم على منطقة الغوطة، وهي منطقة مستوية تخلو من العوائق الطبيعية، يصعب فيها العيش إلا على الرعي، وتصعب حمايتها لامتدادها ولسيطرة البدو عليها؛ وقد نزلها الوافدون من البدو الرحل ومن ثمَّ استوطنوا بها، وهؤلاء هم في الواقع أنصاف البدو الذين أخذوا بأسباب الحياة المستقرة على أطرافها، ثم أسسوا قرى خاصة بهم أو أقاموا إلى جانب القرى القائمة في هذه المنطقة[10: 3].
النفوذ الإقليمي في محيط المجال المكاني:
يمثل موقع المجال المكاني بأكمله ميناء برياً هاماً يستقطب القوافل وتجارة شمال سورية والعراق وأرض الجزيرة وبلاد العرب وبابل، والبحر المتوسط ومصر، وأصبح في أوقات مركز هذه التجارة؛[8: 95] وهو يصل ما بين عقدتين أساسيتين لتوزيع القوافل هما تدمر في الشرق وبعلبك في الغرب، وكانت المنطقة محل أطماع الممالك القوية لما فيها من صناعات ومزروعات وأخشاب وماشية،[17: 133] وهي تتوضع وسط منطقة صراع بالغ العداء بين الإمبراطوريات المتنافسة للسيطرة على الطرق التجارية ليمنع كل منها وصول البضائع للأسواق الأخرى، ولتحصيل عوائد مرور البضائع عبرها.
وقد تجلّت أسباب حروب الحضارات أكثر ما تجلّت في صراعها على الطرق التجارية التي تمدها بالبضائع المختلفة من الحرير والنسيج والتوابل وتأمين الغذاء ومستلزمات الحياة والمواد الضرورية لبناء السفن وتصنيع السلاح ولتمنعها عن غيرها من أعدائها، وكانت عملية السيطرة على الطرق التجارية وتأمينها وحمايتها من الأمور التي تشغل حيزاً كبيراً من النشاط العسكري والسياسي لشعوب المناطق الموجودة على هذه الطرق، فالطرق التي تخرج عن السيطرة العسكرية كانت تضمنها الاتفاقيات السياسية، وكان يوضع على الطرقات العديد من المراكز للحماية والمراقبة الجمركية التي كانت تحصل ضرائب مرور القوافل، وكانت مناطق التبادل التجاري الواقعة على تقاطعات الطرق من أهم المواقع التي يجب الحفاظ عليها ضمن السيطرة؛ لذلك فإنَّ الموقع الجغرافي يأخذ أهميته الكبيرة خصوصاً عندما ترافقه ميزات تتعلق بتوفر موارد غنية تزيد من عملية الاستقطاب له.
وتشير المراجع التاريخية[29: 178] إلى أن الطرق التجارية التي تربط سورية مع بلاد الرافدين تمر عبر قطنا[25] وماري[26]، وأن أحد هذه الطرق يخترق الصحراء ماراً عبر تدمر ليصل سهول حمص، ومن ثمّ سواحل البحر المتوسط أو يتجه باتجاه سهل البقاع مع مسار نهر العاصي، ومن بعلبك إلى سهل الزبداني ووادي بردى فمنطقة دمشق؛ أو يخرج من تدمر باتجاه الجنوب الغربي نحو الضمير وعدرا ويصل منطقة دمشق من دوما، ثمَّ يتابع باتجاه فلسطين والبحر الأبيض المتوسط أو سيناء فمصر وشمال إفريقيا، وطريق آخر يسير جنوباً إلى بترا في شرق الأردن والجزيرة العربية التي تصلها البضائع من السواحل المحيطة بها من الهند والسند وبلاد العجم؛ وقد أصبحت دمشق بفضل هذا الموقع مركزاً هاماً منذ أقدم العصور؛[34: 358] وتشير المصادر التاريخية إلى انتشار محطات جباية الرسوم والجمارك على هذه الخطوط التجارية.
وأما المسافات بين المنطقة وما يجاورها، فمنها إلى بعلبك يومان، وإلى طرابلس ثلاثة أيام، وإلى بيروت ثلاثة أيام، وإلى صيدا ثلاثة أيام، وإلى أذرعات أربعة أيام، وإلى أقصى الغوطة يوم واحد، وإلى حوران والبَيَنِيَّة يومان، وإلى حمص خمسة أيام وإلى حماة ستة أيام، وإلى القدس ستة أيام، وإلى مصر ثمانية عشر يوماً، وإلى غزَّة ثمانية أيام، وإلى عكا أربعة أيام، وإلى صور أربعة أيام، وإلى حلب عشرة أيام؛[8: 22] وقد ازداد رواج المنطقة بعد سقوط تدمر إذ تحولت إليها تجارة الهند والعجم والعراق وقصدتها تجارة أوروبا، فعززت ثروتها وعلا شأنها؛[8: 63] ولم تصبح دمشق قصبة ولاية من الولايات أيام الرومان، ولعل من أسباب ذلك انجذابها نحو الصحراء، وقد ألحقت في التقسيم الإداري الروماني الذي تم بعد لبنان الفينيقية التي كانت قصبتها السياسية حمص؛ ونجد دمشق، وهي المدينة التي لم تخضع مباشرة لمشايخ العربان الذين كانوا يحكمون المناطق المجاورة، بل لم تخضع للغساسنة، ومع ذلك فقد كانوا يحكمون المناطق الملاصقة لدمشق؛ واستفادت دمشق لاحقاً من إعطائها صفة مقاطعة رومانية تحت قيادة الإمبراطور ديوقلسيان[8: 93]، وأصبحت مركزاً عسكرياً هاماً خلال حربها مع الفرس؛[8: 51] ازدهرت بعد ذلك كمركز تجاري تلتقي عندها القوافل الصحراوية، ووجه الرومان عناية خاصة لتقوية المدينة وذلك برصف الطرقات الموصلة إليها وبتسويرها.
ورغم الأهمية الموضحة للموقع ضمن شبكة خطوط القوافل- لما تتمتع به منطقة دمشق من إمكانية توفير الماء والغذاء وانجاز العمليات التجارية، ولدورها في تأمين الحماية، وتزويدها بالخدمات، وتوفير الأمان، بما يضمن استمرار سيرها لغايتها، ولأنَّ المرور عبرها يمكن أن يختصر المسافات والعديد من المشاكل التي يحتمل أن تتعرض لها القوافل فيما لو اختارت الطرقات الأبعد والأطول- إلا أن منطقة دمشق لم تكن يوماً سوقاً أو ممراً إلزامييين[26: 126]، خصوصاً في فترات الأزمات، فقد أشارت العديد من الأحداث التاريخية إلى فترات غابت فيها تجارة المنطقة، أو نشطت، بحسب الأحداث التي تعاقبت عليها، وتعود إمكانية تجاوز منطقة دمشق على خطوط القوافل لتوفر الطرق البديلة، من خلال دوران الطريق الصحراوي القادم من تدمر حول شرقها في منطقة البادية والاستمرار بالطريق نحو بترا، وهو طريق أطول ولكنه ممكن لتوفر محطات القوافل عليه؛ أو يمكن عدم المرور بالمنطقة أصلاً، واستخدام المعبر الشمالي من مملكة قطنا باتجاه سهل البقاع، والتوجه غرباً باتجاه الساحل، أو جنوباً باتجاه بترا، دون المرور بمنطقة دمشق.
ولهذا كان هناك نوع من التنافس الخفي في النفوذ الإقليمي على منطقة دمشق لتأمين مرور قوافل الممالك والأقوام المتاخمة لها.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ منطقة دمشق كانت معزولة عن محيطها الإقليمي بحواجز جغرافية طبيعية سواء من الشمال والغرب- لوجود سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية التي يصعب الوصول إليها من البحر لوعورتها وثلوجها- أو من الشرق والجنوب لأن معظم تلك المناطق صحراوية لا ماء فيها، تجعل عابرها فريسة لسكان البادية الذين يتربصون هذه الغنيمة السهلة؛[9: 380] إلا أنها كانت تصل إلى جوارها من منافذ محددة على الجهات الأربع، ففي الغرب كان المعبر الوحيد هو خانق الربوة بين جبلي قاسيون والمزة أو عنتر، وفي الشمال كان المنفذ الرئيسي مضيق منين الفاصل بين قاسيون وجبل العتا من سلسلة جبال الحرمون، وفي الجنوب كانت جبال المانع تفصلها عن سهول حوران، وكانت الكسوة المنفذ الرئيسي بين جبلي معاني ومارا؛ وكانت مفتوحة شرقاً على البادية بشكل كبير إلا أنها كانت محددة بمنافذ استخدمتها القوافل طرقاً لعبور الفيافي عبر محطات استراحة وتزود بالمياه والمؤن؛ وفي ضوء المنافذ التي كانت تصل دمشق بمحيطها الجغرافي يمكن تقسيم المنطقة لجهات أساسية أربع على الشكل الآتي:
وتعد حماد الضمير من أهم المراحل المقطوعة للقوافل من تدمر[29] باتجاه منطقة دمشق عن طريق الضمير[30] وعدرا وصولاً إلى دوما، وغالباً ما كانت تقع الضمير، وما يليها باتجاه منطقة دمشق، تحت نفوذ حكم القوة الموجودة بمملكة تدمر، تؤمن لها الحماية والأمان من هجمات البدو؛ وغالباً ما كان يستدعي هذا التواصل وجود نوع من التوافق ما بين هذا الجزء من دمشق مع السلطة المهيمنة على الطريق التجاري للقوافل القادمة من الشرق، ونظراً للمصالح المتبادلة والفائدة المشتركة فإنَّ المنطقة الشرقية المتمثلة بدوما وما حولها غالباً ما تدين بالوفاء، إذا لم يكن نفوذ كامل، لقوة الحكم في تدمر، من خلال عملائها ومعاملاتها مع هذا الجزء من المجال المكاني؛ وتتميز دوما بعدد من المعطيات التي تظهرها على أنها من المواقع المناسبة لنشأة مدينة مسيطرة على وسطها الحضري، منها موقعها على الطرف الشمالي الشرقي للغوطة بالقرب من المنطقة المرتفعة، يسهل الدخول والخروج منها، وهي على مقربة من الخطر المستمر القادم من قبائل البادية.
وكان الرومان في هذه الديار يحاذرون، أبدا،ً عَادية الأعراب على المعمور من هذه الكورة وما تاخمها، فأقاموا لذلك على سيف البادية مخافر لتأمين نواحي الغوطة من عيث العائثين، وتكون خط الدفاع الأول عن دمشق الحاضرة من اعتداء المعتدين، ذلك أنَّ الأعراب من القديم، ولاسيما عرب شمال الجزيرة إذا أحسوا بأنَّ سماءهم شحَّت وأرضهم أقحطت، لا يرون أمامهم غير أرجاء الشام يتسللون إليها للانتجاع، فيفسدون زروعها، ويحتطبون المثمر وغير المثمر من أشجارها، ويروون أنعامهم من مياه غزيرة جمعها أهلها لشربهم وإرواء ماشيتهم.[40: 67]
وعلى هذا يُعتقد أن القرى الموجودة في محيط الغوطة المفتوح على منطقة الحماد هي لأقوام أقرب إلى البداوة[31]؛[11: 281] فيما تعود الآثار داخل الغوطة إلى المجموعات البشرية الأكثر تحضراً، والتي كانت تعتمد على الزراعة بشكل رئيسي؛ ولا يشترط وجود توافق اجتماعي ما بين المجموعتين، وأغلب الظن أن قرى الغوطة كانت عرضة للغزو لما فيها من خيرات على مدار السنة؛ ولخصوصية الموقع وتماسك منطقة الغوطة وتوزعها ما بين عدة قوى محلية تلتقي مناطق نفوذها في دمشق المعبد، كان ظهور تفوق لمدينة كبيرة في إحدى هذه المناطق الأربع أمراً صعباً جداً.
وعلى الرغم من وعورة هذا الطريق إلا أنَّه يعد من أهم الطرقات وأمنعها في المنطقة بسبب كثافة المستقرات فيه ولأهمية ربطه الجغرافي، فقد كانت تعبره القوافل المتجهة إلى سواحل البحر المتوسط أو القادمة منها، وتصل دمشق بمنطقة حصن معابد بعلبك التي تتميز بالأراضي الغنية بالثروات، والتي يتقاطع عندها طريق هام يصل الشمال بالجنوب ويتميز بالسهولة والخيرات الوفيرة.
وتعد هذه المنطقة من المناطق المناسبة لتكوين مجتمعات قوية متماسكة يصعب اقتحامها عسكرياً، وغالباً ما كانت المنطقة تخضع للممالك القائمة في سهل البقاع، إلا في حالات سيطرة القبائل عليها، وفي هذه الحالة كانت تغلق منافذها، وتضع مركزها في منطقة متوسطة على المحور الممتد من بعلبك حتى خانق الربوة، المطل مباشرة على دمشق، وتظهر الأهمية البالغة لهذا الخانق من خلال علاقته بتحكم توزيع المياه على كامل أجزاء منطقة دمشق؛ وعلى هذا فإن منطقة دمشق لا يمكن إلا أن تكون على علاقة جيدة منظمة نسبياً بالمتنفذين على هذا المحور، وهذا يعني امتداد النفوذ إلى الأجزاء المجاورة له، إلى جهة المزة، أو جهة منطقة دير مران التي كانت عامرة ومتصلة تماماً بمنطقة خانق الربوة، وكانت موصولة بطريق مباشر مع منطقة برزة، وبهذا فإن الجهة الغربية من منطقة دمشق كانت تدين بالولاء للسلطة المتنفذة على المحور الغربي باتجاه جبال لبنان؛ وتجدر الإشارة إلى أن منطقة دير مران مع الربوة من البقع الملائمة لإنشاء حاضرة تستند إلى جبل قاسيون وترتفع لتطل على كامل الغوطة وتتحكم بمصادر مياه المنطقة وتتمتع بميزات بيئية وجيولوجية عالية، وتتوفر فيها مواد البناء ومستلزماته.
وهذا ما يدل على أن طريق القوافل القادم من الجنوب كان ضمن نفوذ سلطة حكم الممالك القائمة بالجنوب في شرقي الاردن أو فلسطين، وكانت تتصل مع دمشق من خلال بعض القرى الواقعة في الجزء الجنوبي من غوطة دمشق والتي كان أوضحها بلدتي كفرسوسية وداريا؛ ويعد هذا الجزء الجنوبي من دمشق من الأجزاء التي تنال مياهاً وافرة من نهري بردى والأعوج، وهي منطقة سهلية يُعد مناخها وهواؤها من أفضل بقاع منطقة دمشق، تتمتع تربتها بالخصوبة المناسبة للتشجير والزراعة الموسمية، وهي على تخوم أراض غنية بالغلال والمحاصيل الغذائية، وتقع على طريق هام للقوافل المحملة ببضائع متعددة؛ وطبقاً للمصالح المشتركة في تأمين وفود القوافل وتنشيط عملية التبادلات التجارية، ونظراً للسهولة النسبية في الوصول إلى هذا الجزء من دمشق، فقد كانت داريا والمستقرات المحيطة بها على توافق كبير مع السلطة التي تحكم المنطقة الجنوبية الملاصقة لها وتدين لها بالوفاء وبعض النفوذ.
ويتضح من العرض السابق أن مصير المنطقة كان يتأثر بشكل كبير بالقبائل البدوية، وبالغزاة القادمين من الشرق أو من الشمال من بلاد الرافدين؛ أو بالغزاة الآتين من الجنوب أو الجنوب الغربي عبر الانهدام السوري الإفريقي من مصر؛ وتكون المنطقة ضمن نطاق صراع الإمبراطورية والممالك المحيطة بها.[9: 379]
يقول ابن عساكر: “إنَّ ظاهر دمشق كان مساكن القبائل، وكان قرى متصلة وأبنية متقاربة، فخرب ذلك كله في الفتن والحروب والحصارات، وباد أهلوه وتمادى عليه الخراب، وقل موضع حفر إلا وجد فيه أثر العمارة من الجهات الأربع من البلد، وكان معموراً بالمساكن والسكان، فباد وبادوا، فسبحان من لا يبيد ملكه”[2: 93]؛ وكان يصيب الخراب على الغالب الأقرب فالأقرب من القرى إلى دمشق، أو ما كان على طريق الفاتحين كالمزة في الغرب، والقابون في الشمال، فقد خربتا غير مرة.[40: 156] وكان الحاكم إذا غضب على أهل قرية يأمر بحرق أشجارها وتدمير عمارها، وكثيراً ما كان الفاتحون ينزلون الويلات بالغوطة، ويحرقون ما في ضاحية دمشق إذا أرادوا حصارها[40: 157].
يشير الشكل رقم (3) إلى الطرقات التجارية الموصلة إلى دمشق، ويوضح الشكل (4) مناطق نفوذ المستقرات المتلقية للطرق التجارية، والطرق الموصلة فيما بينها بشكل محيطي أو عبر الغوطة مروراً بالمنطقة المقدسة، إضافة للمنطقة الشرقية المهددة بهجمات قبائل البدو، وأن جميع المناطق تتقاطع في المركز.
وعلى هذا فإنَّ محيط دمشق يفرض نوعاً من النفوذ إلى عمق المنطقة من اتجاهات أربع، وكانت أجزاء المنطقة، في الأوقات المتأخرة، موزعة على نفوذ عدة جهات، وهذ أمر غير مستبعد لأنها كانت فريسة سهلة للبدو الغازين لها باستمرار، رغم تضامن المستقرات مع بعضها لحماية المنطقة، إلا أنَّ مهمة توفير الأمن والطمأنينة لسكان المستقرات كانت تأتي من التضامن مع طرف قوي له مصالح مشتركة في درء العدو المشترك الذي يغزوا قوافلها، وكان العمل والإنتاج ودفع الضرائب بالنسبة للسكان أفضل من الغزو والقتل؛ ولكن الأجزاء كانت تلتقي في المكان المقدس في دمشق الذي يشمل معتقدات سكان المنطقة وآلهة محيطها، ولم تكن دمشق في بداياتها محط قوافل، بل كانت مكان تعبد يجتمع فيه سكان أجزاء المنطقة لإجراء طقوس العبادات، وفصل النزاعات، وإتمام عمليات التبادل التجارية، ضمن سلطة معبد دمشق وعلى أملاكه؛ في شكل حصن محمي بسلطة دينية وقوة إلهية، تتناسب مع الدور السياسي الذي كانت تؤديه دمشق خلال الفترات التاريخية المتعاقبة؛ وكانت مراكز محطات القوافل تتوزع في أطراف غوطة دمشق في أربعة مراكز رئيسية على الأقل، حسب تفرق الطرق منها إلى الجهات المحيطة المذكورة آنفاً؛ ومن هنا نال موقع دمشق أهمية كبيرة في السعي للسيطرة عليه، على اعتقاد بأن من يفرض نفوذه على المكان المقدس يبسط نفوذه على كامل منطقة دمشق؛ ويعتقد أن هذا الولاء ظل مستمراً حتى خلال فترات الحكم القوية عندما تشكلت دمشق، وظلت هذه المناطق تتأرجح في ولائها لدمشق حتى فترة الفتح الإسلامي.
السكان والنشاط في المجال المكاني:
يصعب تعقب أصول سكان منطقة دمشق، إلا أنَّه ساد اعتقاد[19: 101] بأنَّ أصل شعوب المنطقة من أقوام الجزيرة العربية[40]، فتعدد الهجرات العربية واستمرارها إلى بلاد الشام عبر قرون عديدة، قبل التاريخ وبعده، يؤكد ترسخ فكرة أنها أرض الخلاص المليئة بالحضارة والخير والمياه العذبة، وأنها الملاذ الأهم بالنسبة لهم في سبيل تجنب حياة القلّة والتقشف والترحال التي كان يعيشها العرب في شبه الجزيرة العربية نتيجة الظروف البيئية والطبيعية؛ فهاجروا إليها تباعاً بعد انتشار أخبارها وصفاتها ومميزاتها عن طريق القوافل التجارية؛ وتؤكد المراجع التاريخية أن المراحل الأخيرة من الألف الثالث ق.م وبدايات مرحلة الألفية الثانية ق.م كانت قد شهدت توالي هجرة جماعات من عرب شبه الجزيرة العربية إلى الشام؛ وترجح الدراسات[20: 78] أنَّ عدداً من القبائل العربية[41] الوافدة على سورية مثل الأنباط والتدمريين والإيتوريين والآراميين والكنعانيين والفينيقيين والعمونيين والموآبيين والأدوميين، أصبحوا منذ العصر السلوقي[42] النواة الثابتة والأكثرية الغالبة من السكان[24: 219].
إلا أن هذا الاعتقاد يضعف عند إثباتات أبحاث الأحفوريات ودراسات تاريخ علم الإنسان القديم[21: 74]، التي تشير إلى أنَّ هذه المناطق من أولى الأماكن التي سكنت منذ بدايات التاريخ، وما انفكت؛ والعديد من السِّيَر الدينية توضح أنها مهبط الأديان ومنبع الرسل، ومعقل الآلهات والعبادات المختلفة؛ وفي تجاهل دور سكان المنطقة، والتعامل مع المنطقة وكأنها كانت خاوية من السكان، وأنَّ شبه الجزيرة العربية هي المنبع الوحيد للهجرات البشرية لهذه المناطق، إجحاف من قبل الباحثين، وإغفال لدور السكان في صناعة تاريخ البلاد؛ وكان أولى بهذه الأقوام أن تنجز حضارتها في منطقتها وما كان من داعٍ لأن تفجر عبقريتها البدوية في بلاد الشام؛ ولا يفهم تماماً المقصود من إفراغ محتوى السكان من المنطقة، وربط الشعوب بشبه الجزيرة إلا للتأكيد على عروبية السكان، ومن ثمَّ المنطقة، ورغم جلالة الموضوع وأهميته، كان من الواجب الإقرار بأنَّ التاريخ قد أغفل تماماً دور السكان في صناعة حضارتهم.
وفي جميع الأحوال سكان المنطقة يؤلفون ثلاث تشكيلات الأولى تضم سكان المنطقة، والثانية العرب العاربة، والثالثة الفاتحين؛ ويمكن تصنيف إشغال المنطقة بالمستقرات البشرية على ثلاثة أنواع، كما يلي:
وطبقاً لهذا التوزيع فإنَّ التخصص الوظيفي لهذه التجمعات كان نشاط سكان كل منطقة من هذه المناطق يتميز بالاستقلالية اللازمة لتشكيل مجتمعه الخاص به وفق الموارد المتاحة، دون لحظ أية عملية دمج في الوظائف ما بين المجتمعات؛ وكان سكان الضواحي ذوي مجتمعات إقامتها شبه مؤقتة إلى حد ما؛ تعمل على تغيير أماكنها في نطاق واسع محدد من الأراضي خلال فصول السنة، تتصف هذه المجتمعات بالبدائية، وتعتمد على الرعي والقنص، وكانت تمارس دور المرشد للقوافل التجارية، أو دور الحامي أو الغازي لها، وكان لها دور كبير في مجريات أحداث فتح المنطقة.
ولا يعتقد بأن البدو الرحل سكنوا دمشق بأيٍّ من العهود، وما كانت ضمن عاداتهم وحياتهم السكنى إلا في الأطراف القريبة من الصحراء التي تعودوا على الحياة فيها، وكانوا غالباً ما يختارون أقرب مكان يشعرهم بالصحراء التي تبقي للبدوي نداء في الأعماق وحنينا مستمراً،[9: 381] وعلى هذا فإن البدو بحسب انتمائهم للصحراء ماكانوا إلا ليعودوا إليها في مواسم الخير ومواسم القوافل التجارية التي كانوا يعيشون على هديها أو غزوها؛ وكان لهم شأن كبير في ترجيح غلبة الأمم المتناحرة على المكان.
أما الغوطة فكانت تحدد بالوظيفة الزراعية لوفرة المياه والطقس المناسب للزراعة على مدار السنة، وعلى هذا فقد توزع فيها عدد كبير من المحلات الريفية الثابتة في ضوء نوع العمل الذى يمارسه سكانها وأساليب الزراعة والطريقة التى تستغل بها التربة، وترتبط نشأة هذه المستقرات الثابتة بمجموعة من العوامل الجغرافية أهمها تزايد السكان، وتوفير البيئة الصالحة لانتاج الغذاء بدرجة كافية، وتحقق الأمن الجماعي من خلال السكن وفق روابط دم تؤلف مجموعات أسرية أو قبلية[39: 123]؛ وكانت المستقرات تتراوح ما بين نواة ريفية صغيرة، وضيعة أو قرية صغيرة، أو قرية كبيرة، وكانت القرية تتأثر في نشأتها بعدد من العوامل بعضها جغرافي مثل الموقع، وبعضها تاريخي مثل الحاجة المبكرة للدفاع مثل تلة الصالحية، وبعضها اقتصادي مثل نظم الزراعة، وقد نمت القرى في الغوطة نمواً طبيعياً عشوائياً مبعثراً، على شكل مساكن مفردة أو مجموعة صغيرة من المساكن، والتي تظهر فى النهاية على شكل نسيج معقد من القرى الصغيرة والمزارع، وغالبا ما يدل هذا التبعثر على علاقة قوية للغاية بين مكان المسكن ومكان العمل حيث يوجد كل مسكن وسط الحقول أو المزرعة الخاصة بصاحبها، ولم تنشأ على أساس تخطيطي.
وتظهر في المنطقة عوامل تركز عمراني لمستقرات أقرب للمدن في مناطق الحدود الفاصلة ما بين الغوطة والجبال أو الأراضي الجرداء، في أماكن مشتركة مخلخلة تمثل مفاصل لتلاقي البيئات الجغرافية المختلفة، على شكل مستقرات أكبر حجماً في محيطها، ولها ميزات وتقدم خدمات أوسع لا توجد في المستقرات الصغيرة المبعثرة في الغوطة، وكانت تتميز بكثافتها المرتفعة وتنوع ثقافة سكانها، وتكامل النشاط السائد فيها، وكان بعضها يقدم نوعاً من الخدمات اللازمة للقوافل التجارية ويشتغل سكانها بالزراعة إلى جانب بعض الصناعات اليدوية والحرفية البسيطة، ويقوم اقتصادها على المبادلات التجارية بشكل رئيسي، وكانت هذه المستقرات تنمو بشكل متنافس لتكون مدينة رئيسية للمنطقة بأكملها، فيما لو استمر نموها دون مؤثرات كالغزو المتكرر أو انتقال النشاطات إلى مدينة قريبة منها في المنطقة نفسها، أو تحويل مياه الري عنها، أو غير ذلك من الأسباب، ومما لا شك فيه أن هذه المستقرات قد مرت بفترات ازدهار وتقهقر عمراني وفق هذه المؤثرات، إلا أنَّ استمرار العديد منها دليل على أهمية موقعها ودورها الواضح في تاريخ المنطقة؛ من أهم هذه المستقرات برزة وبيت لاهيا ودوما وحرستا وجوبر والقابون ومحلة دير مران في المنطقة الفاصلة عند جبل قاسيون، وكفرسوسية وداريا في السهول الممتدة باتجاه حوران؛ ونظراً للدور الذي كانت تؤديه هذه البلدات على شكل موانئ للقوافل وتمارس نفوذاً على محيطها، فقد تراجعت روابط الدم والقرابة ليحل محلها نوع من التنظيم الإداري المدعوم بنوع من القوة الدفاعية التي يمكن أن تدعم محلياً أو خارجياً، أو أن تكون شبه مستقلة بذاتها.
النسق الحضري في المجال المكاني:
قدمت نظريات التخطيط[6: 146] المختلفة العديد من وجهات النظر حول بدايات تشكل النسق الحضري التي تضع تصورها وفق مفهوم “من الكهف إلى المدينة”، وكانت تجمع على أن السكن بدأ بالكهوف الواقعة في المرتفعات، وهبط منها بالتدريج إلى الأكواخ والمساكن الفردية في السفوح والسهول، لتظهر بداية تجمعات القرية، فالبلدة، ثمَّ المدينة؛ بشكل مترافق مع تطور النشاط من الصيد والمحاصيل البرية، إلى الزراعة وتربية الحيونات، فالمبادلات التجارية، وهذا ما ينطبق مع نتائج الأبحاث حول نشأة المستقرات في مدينة دمشق.
فقد أكدت إحدى الدراسات التاريخية[9: 61] أهمية استقراء تطور سكنى المنطقة من خلال دراسة المراحل التاريخية لتفرعات الأنهار عن بردى، والتي تبدأ من مرحلة نهر بردى، حيث يصب النهر، اعتباراً من خانق الربوة، في بحيرة كبيرة كانت تغطي منطقة دمشق، رافقها الإنسان الحجري بكهوفه، والتي جفت على فترات طويلة إلى أن انقسمت إلى بحيرتي العتيبة والهيجانة، وتظهر خلال هذه الفترة منطقة جبل قاسيون وبرزة تحديداً على أنَّها بداية استقرار في المنطقة، ويظهر خط واضح متصل من برزة باتجاه الشرق نحو صيدنايا ومعلولا، وباتجاه الغرب نحو دمر وسوق وادي بردى؛ ويمتد عصر بردى بطيئاً وفيه ينتشر سكن الناس في المنطقة المحيطة بالغوطة، ثمَّ سكنت الغوطة على مراحل، حيث كانت الزراعة هي النشاط السائد؛ وتأتي مرحلة قناة بانياس التي يُعتقد أنَّها تؤرخ للعهد الأموري والكنعاني، والتي يعتقد أنها خصصت لمدينة دمشق؛ يليها عصر قناة ثورا التي تعود للفترة الآرامية، تم خلال هذه الفترة توسعة المدينة، ثمَّ عهد قناة القنوات التي يُعتقد أنَّها تعود للعهد الروماني، وعهد قناة يزيد التي تعود إلى الحكم الأموي.[37: 8]
وعلى الرغم من أن الدراسة قد أشارت إلى أن قناة يزيد قديمة وقد تمت توسعتها، إلا أنَّها لم توضح أهميتها التاريخية التي تتعلق بتزويد محلة دير مران بالمياه وما يليها من مستقرات باتجاه الشرق على سفح جبل قاسيون خلال فترات قد تعود إلى ما قبل العهد الأموري.
إلا أنَّ هذا التصور قد يكون ضعيفاً في ترتيب المراحل التاريخية بأكمله استناداً لإحداث أفرع نهر بردى، وخير دليل توسعة نهر يزيد؛ يضاف إلى ذلك أنَّ دراسة تخصصية أخرى[23: 242] أشارت إلى نبوغ السكان المحليين واهتمامهم بأنظمة الري منذ العصور المبكرة؛ وتستشهد على ذلك بأنَّ اختصاص هندسة الري كان واسع الانتشار في حضارات ماقبل التاريخ[43]؛ وتؤكد على أن النظام المائي لريّ الغوطة كان قبل العصور التاريخية المنوه عنها في تاريخ المنطقة وتطور خلالها، وهذا ما يتناسب مع ما تؤكده الكتب التاريخية على أن الغوطة كانت من أسباب استمرار الاستقرار في المنطقة؛ وكانت الغوطة بكاملها مغطاة بشبكة ري على شكل مدينة، يقابل البستان فيها المنزل، ظهرت فيها بعض التجمعات التي تميزت نتيجة توضعها الجغرافي والعديد من العوامل المتداخلة.
وتشير إحدى الدراسات[22: 16] الجيولوجية والأثرية[44] إلى أن منطقة دمشق كانت في الزمن الجيولوجي الرابع[45] بحيرة كبيرة، أقام الإنسان الأول على شواطئها، وقد ازداد هذا الاستيطان كثافة وانتشاراً مع تقدم الزمن وانحسار البحيرة الكبيرة إلى ما هي عليه العتيبة والهيجانة، وتشير الدراسة نفسها إلى أن التنقيبات دلت على وجود مستقرات سكانية حول منطقة الغوطة منذ الألف الثامنة ق.م، ويُعد تل أسود[46] الواقع بين بحيرتي العتيبة والهيجانة إلى الشرق من منطقة الغوطة من أقدم المستوطنات المكتشفة وأهمها، وقد دلت التحليلات إلى أن هذه المستوطنة كانت مزدهرة خلال الألف الثامن ق.م، وأنها كانت تمارس النشاط الزراعي وتدجين الحيوانات والصيد بأنواعه بأدوات متطورة نسبياً، وأنَّها كانت على قدر من المعرفة والإيديولوجيا والثقافة والفن، وتشهد المنطقة توسعاً في الاستيطان، وتشير التنقيبات[45: 38] إلى الحلقة الثانية في المستقرات السكانية في نموذج مستوطنة تل الغربفة[47] الواقعة إلى الشمال من تل أسود، كما يُستدل على انتشار المستوطنات بشكل كبير خلال الفترة نفسها اكتشاف تل الرماد[48] الواقع في وسط جغرافي جديد ضمن السفوح الجبلية قرب قطنا جنوب غرب دمشق، والذي يعود إلى الفترة الواقعة في النصف الثاني للألف السابع ق.م والنصف الأول من الألف السادس ق.م، وقد لوحظ في المرحلة الأخيرة من حياة مستوطنة تل الرماد، تبدل اقتصادي واجتماعي مهم في حياة السكان الذين تحولوا من مجتمع مستقر يعتمد على الزراعة إلى مجتمع رعوي متنقل اعتمد على تربية الحيوانات، يتكاملون مع المجتمعات المستقرة، ويتعايشون جنباً إلى جنب مع المزارعين في محيط قراهم بشكل موسمي.
وتشير مكتتشفات[49] تل الخزامي،[50] إلى الشمال من تل أسود، وتل البحارية[51] إلى استمرار الحياة في المنطقة المحيطة بالغوطة على امتداد الألفين الخامس والرابع ق.م؛ ويستمر الاستقرار خلال الألف الثالثة ق.م، وتدخل أكثر في المنطقة وتزداد حجما وتطوراً، وتشير منطقة دير خبية[52] غرب دمشق، وتل الصالحية[53] وتل سكا[54] وتل الصوان[55] وتلال الريحان، وأرض التلول في حزة[56]، وتل الغزلانية[57] والتلة في زبدين وغيرها، إلى أنها كانت مستوطنات مهمة ومسوَّرة؛ وتستشهد الدراسة على أهمية هذه التلال كمستقرات من خلال الوثائق الكتابية والمراسلات المكتشفة، والتي تؤرخ لأحداث الألف الثاني ق.م الأحداث التي مرت بها المنطقة نتيجة الصراعات عليها ما بين الميتانيين في الشمال والمصريين في الجنوب، ثمّ ما بين المصريين والحثيين[58]، حيث أشير إلى المنطقة بعدة أسماء أظهرها كان اسم أوبي أو يوبي Upi، أو آبوم[47: 546]، ويعتقد أنَّها كانت مملكة قائمة في الألف الثاني ق.م، تمتد على المنطقة الخضراء من الغوطة إلى كوميدي.[45: 74] أو أنها مدينة مسوّرة في تلة الصالحية، كانت تمثل مركزاً لمحيطها من المستقرات، تمتاز بموقعها الاستطلاعي على طرق القوافل.
ومع تقرير مضمون الدراسة، إلا أنَّه لا يمكن رصد وجود واضح لدمشق خلال هذه الفترة، وكان من الممكن تلمس ظهور تأثير الثقل الديني لدمشق كمنطقة مقدسة، ولم يمرّ ذكرها صراحة مع مدن مبدعة عظيمة مثل: إيبلا وماري ويمحاض وقطنا وقادش وبابل، التي خُططت ونُظمت مسبقاً، وتم بناؤها دفعة واحدة؛ ويوضح الشكل رقم (5) نماذج خاصة لمدن مُبدعة يُعتقد أنها كانت معاصرة لمدينة دمشق.
وعموماً، فقد أشارت الدراسات السابقة إلى أنَّ الاستقرار بدأ بكهوف قاسيون، ثم سفوحه، وانتقل بعد ذلك إلى المنطقة الشرقية بجانب البحيرتين معتمداً على الصيد والمحاصيل البرية، ومع تطور الزراعة تم الاستقرار بالغوطة على شكل قرى منتشرة في أرجائها، ثم بدأت البلدات بالتشكل لتمثل نمواً حضرياً يستدعي ظهور مدينة مسيطرة على كامل النسق الحضري؛ وهذا ما يدل على تحقق كبير لنظريات نشأة المستقرات في المجال المكاني لدمشق؛ ويوضح الشكل رقم (6) مراحل نمو النسق الحضري استناداً للنصوص التاريخية وفق تسلسل نشأتها. |
ولسهولة استيعاب تشكل المستقرات يمكن عرض تطور المستقرات وتحولها في المكان حسب المكون الجغرافي الواحد، على الشكل الآتي:
النسق الحضري في منطقة جبل قاسيون:
كان لقاسيون شأن كبير في بداية نشأة التجمعات السكانية في المنطقة؛ فقد كان بردى يخرج من منتهى الوادي غرباً باتجاه السهل الفسيح شرقاً، وبدأ تجمع السكان في سفحه شمالاً يزرعون مبتعدين قليلاً عن مضيق الوادي ليأمنوا على أنفسهم ومزروعاتهم ومواشيهم تيارات السيول والفيضانات.[35: 38]
وكان إنسان هذه الفترة محتاجاً لأن يحمي نفسه وماشيته، ومحتاجاً إلى بيت يأوي إليه ويعتصم فيه، فكان أقرب موضع يصلح لذلك هو جبل قاسيون حيث تسيل المياه تحت قدميه، ويبدو سفحه قليل الإنحدار فيسهل تسلقه والإقامة به، حيث يراقب المقيم به كل شاردة وواردة في السهل المنبسط أمامه شرقاً وغرباً وجنوباً، فسكن الجبل والتجأ إلى ما فيه من كهوف ومغاور.[35: 38]
ويشير استقراء النسق الحضري حسب الدراسات السابقة إلى أن الاستقرار في الجبل كان سابقاً على منطقتي البحيرات والغوطة، وعلى الرغم من محدودية حجم هذا الجزء إلا أنه شهد تحولات كبيرة في السكن خصوصاً في سفوحه، التي يظهر فيها نسيج كثيف من المستقرات الحضرية على مدى تاريخ المنطقة، آخذاً بالارتفاع تارة، وهابطاً في فترة لاحقة، إلا أنه استمر مرافقاً لتدفق المرور في سفحه عبر الطريق الواصلة ما بين برزة ودير مران، وتظهر برزة في الجهة الشرقية كمركز مهيمن لما يحيط بها من مستقرات، ولا يصعب تمييز منطقة دير مران في غربه إذا ما ألحقت بالتجمع الحضري الموجود في منطقة الربوة، ويمكن عرض أهم المستقرات التاريخية كما يلي:
دير مران: محلة غربي جبل قاسيون، كانت عامرة بالسكان، تقع في سفح أسفل قبة سيَّار وأعلى بستان الدواسة، يُطل منها على الربوة، تحتها مروج ومياه حسنة، سميت على اسم دير موجود على تلة عالية فيها، بناؤه بالجص الأبيض وأكثر فرشه بالبلاط الملون، وكان في هيكله صورة عجيبة دقيقة المعاني، وفلاليه دائرة به، وأشجاره متراكمة، وماؤه يتدفق؛ وأغلب الظن أن أصل الدير معبد، كان في هذه المنطقة المرتفعة المتقدمة على منطقة الربوة، كان يمارس سكان الربوة طقوسهم الدينية به، وهو في نهاية الطريق الواصل من برزة في الشرق، ويمثل نقطة بداية نفوذ سكان منطقة الربوة على الجزء الغربي من غوطة دمشق؛ وكانت المنطقة تتزود بالمياه من نهر يزيد الذي يتابع سيره لمنطقة النيربين.
الربوة[59]: عدّها المتقدمون من قاسيون مع أنَّها واد وليست بجبل لأن الحد الطبيعي لهذا الجبل من الجنوب هو نهر بردى، وهي أول منفسح الوادي الغربي الآخذ إلى دمشق، ومنها يتفرع بردى إلى سبعة أنهار، وقد سميت الربوة لإطلالتها على الغوطة وهي عبارة عن مقسم لتوزيع المياه على كامل المنطقة؛ وقد كانت الربوة مأهولة عند فتح العرب لدمشق، وهي عبارة عن جرفين قائمين يمتدان من خانق الربوة حتى دمر على شكل حصن طبيعي لا يمكن اختراقه، في بدايته صخرة المنشار على شكل بوابة من الصخور الحادة القاسية، ونهايته بوابة على الشكل نفسه، وتمثل هذه المنطقة بداية طريق مباشر إلى بعلبك وإلى الساحل السوري غرباً، ومن بعلبك شمالاً إلى قطنا فماري والمناطق الشمالية من سورية، وهي طريق رئيسية محمية غنية بالمياه والخيرات والمجتمعات السكانية؛ وغالباً ما كانت هذه المنطقة تقع ضمن نفوذ الآقوام التي يصلها الطريق من دمشق، ومن المؤكد أنَّها كانت خلال فترات طويلة ضمن نفوذ الحكم في البقاع، باستثناء الفترات التي استولى عليها الأيتوريون[60].
النيرب: محلة كانت آهلة بالسكان تلي الربوة ومنطقة دير مران من جهة دمشق على الطريق الواصلة حتى برزة، والنيرب كلمة آرامية يعتقد أنها مشتقة من اسم إله آرامي يدعى: بيربا، وكان له في هذه المنطقة معبد[5: 526]، أو أنَّها سريانية بمعنى الوادي، ويراد بها هنا سفح قاسيون مما يلي الربوة، ويقال النيربان: الأعلى منهما هو الواقع بين نهري يزيد وثورى، والأسفل هو ما بين ثورى وبردى؛ وهي منطقة زراعية غنية بالمياه الوافرة، وأغلب الظن أنها كانت عبارة عن محطة سهلة لنزول القوافل تتضمن سوقاً للتجارة وبعض الاستراحات التي تتطلبها القوافل للاستعداد للرحيل.
برزة: وهي موضع في السفح الشرقي لجبل قاسيون، اشتهر في جبل قاسيون بمغارته، ويعتقد أن الاسم مشتق من الجذر: “برز” في الآرامية، بمعنى: حفر ونقب، وهذا ما ينطبق تماماً على طبيعة الموضع؛ ويذكر المؤرخ فلافيوس[61] برزة باسم: مقام إبراهيم،[62] وتشير المراجع التاريخية إلى أنها حاضرة سكنها إبراهيم وبها متعبده بسفح الجبل ينسب إليه، وكانت دمشق عامرة إذ ذاك.[18: 21] وقد ورد ذكرها بالتوراة في عصر إبراهيم[63]، وتؤكد وثائق المكتبة الملكية لحضارة إيبلا، أنَّ راعياً اسمه إبراهيم وزوجته هاجرا مع خدمهم وأنعامهم، قد مروا بهذه المنطقة.[23: 244]
ويُعتقد أن برزة هي أم دمشق، حيث دلت المكتشفات [16: 15] على أنها كانت حاضرة تستقطب ماحولها، تقدر نشأتها منذ مطلع الألف السابعة؛ وهي على اتصال شعاعي بجهاتها كافة، حرستا ودوما والقابون والتل ومنين، وأنها على اتصال وثيق مع الجهة الغربية من خلال طريق مباشر يصلها بدير مران[64].
وتتميز منطقة برزة باستقلاليتها من حيث المياه عن نهر بردى فهي كانت تتزود من مياه عين منين عبر مساره في الوادي، وهي ذات تحصين طبيعي حيث يكتنفها جبل قاسيون، أضف إلى ذلك أنها قريبة من مصادر مواد البناء، وتقع على أطراف الأراضي الزراعية، وتتمتع بأرض صلبة جيدة للبناء والتأسيس، ولها موقع استراتيجي مطل على المنطقة بأكملها، وهي على اتصال مباشر بالمنطقة الغربية عبر الطريق المستقيم الممتد على سفح جبل قاسيون والذي يصل حتى منطقة الربوة، كما أنها على مقربة من دوما ومنطقة البادية.
بيت أبيات: وهي قرية شرقي جبل قاسيون في سفحه، أسفل حي الأكراد، يقال إنَّها كانت مسكن آدم أبي البشر، وصارت بعد ذلك تدعى بالصالحية العتيقة، وهي من المناطق التي كانت تتميز بشروط جيدة لإقامة حاضرة كبيرة، وهذا ما تم لاحقاً عند تأسيس الصالحية.
الميطور: وهي قرية دارسة تحت حي الأكراد بسفح جبل قاسيون شرق قرية مقري وفي جوارها،[33: 324] وتقع على الطريق الممتد ما بين برزة ومنطقة دير مران، وهي من المواضع المتميزة على سفح قاسيون ومطلة بشكل جيد على الغوطة ومشرفة على الأراضي الزراعية جنوبها، وكانت منطقة آهلة بالسكان والنشاط.
النسق الحضري في المنطقة الشرقية:
أخذت هذه المنطقة أهميتها خلال المرحلة الثانية من الاستيطان، حيث استقر السكان فيها حول البحيرتين معتمدين على صيد الاسماك والقنص وتربية الحيوانات، وتشير التلال الأثرية المذكورة إلى استقرار واضح فيها، ويشير إسقاط المستقرات المدرجة في المراجع التاريخية والأثرية إلى وجود ضعف شديد في النسق الحضري لهذه المنطقة، فقد لوحظ تراجع الاستقرار فيها عقب فترات الجفاف التي أصابتها، وتحول معظم السكان لبدو رحل يعتمدون على نشاط الرعي، ودخول جزء آخر إلى داخل الغوطة بحثاً عن مصادر جديدة للماء والغذاء، وتبدأ الغوطة باستيعاب كبير للمستقرات؛ ولا يظهر على القوس الشرقي للمجال المكاني أي استقرار ثابت بعد ذلك لضعف الموارد الطبيعية في هذه المنطقة، ولعدم قدوم قوافل تجارية عبرها بسبب انخفاض عوامل الأمان أمام غزوات القبائل ومباغتاتها المحتملة؛ وفي الفترات المستقرة سياسياً، كانت هذه المنطقة تمثل المحطة الأولى لتحول البدو إلى مزارعين مستقرين في أطراف الغوطة، ولا تظهر في هذه المنطقة مدينة مركزية، ولا حتى في الأعماق التي تليها باتجاه دمشق، لتأثير القبائل البدوية الذي كان يقوِّض أي نمو حضري يختلف عن الزراعة والرعي، ولأنَّ متطلبات السوق تعتمد على التبادل البسيط ما بين البدو والمزارعين؛ ويظهر النسق الحضري بشكل تجمع بسيط لبعض المستقرات الحضرية الريفية على القوس الشرقية، يليه تراجع واضح في المستقرات باتجاه الغوطة، ولا تظهر المستقرات بعد ذلك إلا ضمن النسيج الحضري الموجود على الجهة الوسطى والغربية.
النسق الحضري في منطقة الغوطة:
أجمع من وصفوا الغوطة على الأيام أنَّها قرى شجراء، وأنَّ فيها قرى كالمدن، وأنَّ أهلها كأهل الحاضرة بعاداتهم وأزيائهم، يقول شيخ الربوة: “إنَّ العمارة المبثوثة فيها لو جمعت لكانت مدينة عظيمة، …، وإنَّ هذا لا يوجد بغيرها أصلاً، ولولا الغوطة ما كانت دمشق من أجمل بقاع العالم”.[40: 33] ويوجد في إقليم[65] الغوطة ثلاثمئة قرية ونيفاً، وبها مدن صغار وبلدان تشابه المدن،[40: 16] وهذا يدل على أن الغوطة كانت عامرة جداً؛ ولكن أصابها الخراب في معظم قراها، وابذعَرَّ[66] سكانها واضمحل عمرانها، وما يشاهد من الدمن[67] والتلال في أرجائها أصدق شاهد.
وتعود تسمية العديد من قرى الغوطة إلى فترات تاريخية موغلة بالقدم، وقد أرجع الباحثون أسماء العديد من القرى إلى الفترة الآرامية[68] وما قبلها؛ وهناك العديد من التسميات الفارسية واليونانية، والرومانية،[69] والعربية[70].
وعلى الرغم من العدد الكبير من القرى والبلدات الموجودة في الغوطة حالياً، يورد محمد كرد علي في كتابه “غوطة دمشق” عدداً هائلاً إضافياً من القرى الداثرة، كانت في القرون الخالية قائمة عامرة، ولم يبق منها إلا اسماؤها، تدل أطلالها على مواضعها، يبلغ عددها 168 موضعاً ما بين قرية وبلدة وشبه مدينة حاضرة، بعض منها بقيت أطلاله، ومنها ما أشيد مكانها، أو وزعت أراضيها على بلدات مجاورة؛ وهذا يدل على أن الغوطة كانت عامرة بالبنيان والسكان أكثر مما كان في دمشق؛ وإنَّ تقارب القرى من بعضها برهان على اكتظاظ أرض الغوطة قديماً بالقرى والمزارع والقصور؛ فقد “تبدلت معالم الغوطة مرات، وما زال القوم كلما حفروا في الحقول البعيدة عن مراكز القرى يعثرون على دمن، تدل على عمران ضخم، وعلى ثروة وحضارة”[40: 134]؛ وتشير دراسته التاريخية إلى أن الغوطة لا تحتوي على تلال طبيعية، وجميع تلالها[71] صناعية ناتجة عن ركام بلدة أو قرية كانت قائمة[40: 161]، وهي عديدة وموزعة في أرجاء الغوطة، وكان في الغوطة عدة قرى تبدأ بـ”بيت”، والمقصود بها “القصر”، ومنها ما يزال قائماً[72]؛ والكثير منها مندثر[73]؛ وفيها خرائب كثيرة[74]؛ ولا يُعتقد أنَّ قرية واحدة اكتفت بسكانها، بل كانوا مزيجاً من أهل الشرق والغرب، وفي قرية واحدة تجد جاليات متعددة، نزلوها في أدوار مختلفة وامتزجوا بأهلها حتى صاروا مثلهم؛ وكان بعض أهل جوبر يهوداً، وكان لهم كنيس مقدس يزورونه ويقيمون فيه صلواتهم[40: 28].
وفي محاولة إسقاط النسق الحضري للمستقرات في منطقة الغوطة استناداً للمراجع التاريخية، يلاحظ وجود كثافة كبيرة للمستقرات مما يؤكد على أنَّ زراعتها كانت مورداً أساسياً لسكانها، ولا يظهر في وسطها نمو متميز غير مدينة دمشق، وتظهر على أطرافها بعض المستقرات المتميزة لأسباب متشابهة تتعلق بتنوع النشاطات فيها، ويمكن رصد تجمع للمستقرات في الطرف الشمالي الشرقي لها، وتجمع آخر في الجزء الجنوبي، من أهم مستقراتهما ما يلي:
دوما: ويُعتقد أنها تعود لفترات تسبق وجود الآراميين في المنطقة، وأن الآراميين قد سكنوها بعد ذلك؛ وتشير بعض الروايات إلى وجود آثار لمعبد الشمس مكان جامع دوما الكبير، وأن المعبد كان ملجأ للنبي إلياس[75]، وتشير المراجع التاريخية إلى أنَّ العرب الوافدين[76] قد سكنوها خلال الفترة الرومانية، وأنَّ المعبد تحول لكنيسة ودير باسم: يونا، في بداية الفترة البزنطية، وترتبط دوما بالتاريخ مع مدينة دمشق؛ ويُعتقد أنَّ الاسم يعود في الأصل إلى اللغة الفينيقية، DUMAH، ومعنـاه: السكون والهدوء والراحة؛ والاحتمال الآخر حول تسمية دوما، قد يكون من اللاتينية، نسبة إلى اسم الملكة جوليا دومنا[77] ابنة حمص التي اشتهرت بجمالها، وكان والدها كاهناً للشمس ولمعبود أهل حمص، وقد يعود ذلك لارتباط هذه البلدة بالطريق التجارية المؤدية مباشرة إلى مملكة أبيها.
تقع على الجهة الشمالي الشرقية من أطراف الغوطة في موقع جغرافي متميز، يسهل الوصول إليه من الأرجاء، على تخوم البادية، وعلى مقربة من منطقة منين غرباً، وتبسط نفوذها على المستقرات الموجودة حولها مثل حرستا وجوبر ومسرابا وغيرها، تصلها القوافل عن الطريق القادمة من الشرق من منطقة حماد الضمير عن طريق عدرا؛ وهي من المستقرات الكبيرة وكانت مقصدا لما حولها، وتعد مركز الغوطة من جهة الشرق؛ ويشير تنوع الأديان ووجود نفوذ واضح لليهود فيها[78]، الذين كانوا يعتمدون على التجارة والإقراض في أعمالهم، إلى أنها كانت مُلتقىً تجارياً قوياً، يتم فيه استقبال القوافل وتزويدها بالمؤن والمياه، وكانت سوقاً للبدو؛ وغالباً ما كانت تتمتع باستقلالية نسبية من خلال توضعها الجغرافي، وكانت على علاقة جيدة مع السلطة في تدمر، وتتصل بشكل مباشر مع برزة، ومنها إلى دير مران.
داريا: بلدة تعود نشأتها إلى ما قبل الميلاد، وتشير تسميتها، إلى أنها تعود على الأقل للفترة الآرامية، والاسم مشتق من الجذر اللغوي: دار، وتعني تسميتها: الدور؛ وتقع داريا في الجزء الجنوبي الغربي من الغوطة، تبعد عن دمشق حوالي 8 كم، وهي من أكبر مدنها، ويُشار في تاريخها[28: 8] إلى أنَّها كانت عاصمة الغوطة الجنوبية، وكانت داريا سابقاً مركزاً يستقطب جميع قرى وبلدات ومدن الغوطة الغربية مثل: ببيلا، يلدا، بيت سحم، السبينة، نجها، جمرايا، وغيرها؛ تتصل مع منطقة دير مران عن طريق المزة وتصل إلى دمشق المدينة عن طريق كفر سوسية، وتنفتح على الجنوب لتستقبل طريق القوافل القادم من بترا وشرقي الأردن وفلسطين وشبه الجزيرة العربية وسيناء، وهي المحطة الرئيسية للخروج من منطقة دمشق باتجاه الجنوب، وكانت على علاقة جيدة بالممالك التي تنفذ إليها قوافلها، وخصوصاً مع الأنباط الذين كانوا على اتصال شبه مباشر معها، ولا يوجد في محيطها ما ينافسها، وتقع على أرض زراعية منبسطة.
المحاكاة الإجرائية لنشأة مدينة دمشق:
ولتأكيد نتائج الفقرات السابقة من خلال تحليل أجزاء المجال المكاني استناداً لنظريات نشأة المدن القديمة، نجده يستجيب ظاهرياً لجميع متطلبات نشأة مدينة كبيرة هامة في العديد من المواضع الموجودة فيه؛ وتتطابق تماماً مع نشأة المدن بتأثير نظرية “مواقع الانقطاع“[31: 58] بشقيها الطبيعي والحركي، على الشكل الآتي:
الانقطاع الطبيعي: وهو المكان الذي يحدث عنده تباين طبيعي، أو تغيير التشكيل الطبيعي كالعلاقة بين الماء واليابس، أو السهل والجبل، أو الصحراء والمناطق الزراعية؛ وهي مواقع متميزة تساعد على تكوين التجمعات العمرانية المقترنة بالعناصر الطبيعية، ويدخل ضمنها مواقع رؤوس الملاحة عند انقطاع المرور على اليابس وبدء الانتقال الملاحي؛ ومواقع المصبات عند انقطاع الملاحة النهرية وبدء الملاحة البحرية، أو عند مواقع ملتقى الأنهار، أو مواقع المعابر عندما يضيق النهر ويسهل عبوره، أو على أطراف البحيرات والمسطحات المائية؛ وتنطبق النظرية على مناطق إلتقاء المناطق الصحراوية القاحلة مع مناطق الواحات والمناطق الزراعية والمشجرة الغنية بالمياه، وتنطبق على نهاية كل الطرق المؤدية إلى المنطقة الجبلية لأنَّ الجبال تفرض الانقطاع الحركي لوعورتها، وتنشأ المدن عند أقدام الجبال، أو في مقدمة عنها وداخلها لتمثل نقاط تجمع عند انقطاع الحركة الأفقية وبدء الحركة الرأسية؛ وهناك مواقع المراحل الخاصة بالراحة والتموين والكشف الجمركي، مثل قيام المدن والقرى على حدودها عند الطريق البري الموصل بينها.[31: 61]
الانقطاع الحركي: ويشمل انقطاع مسار القوافل التجارية المقترن باختلاف الطرق وتعددها؛ وتتضح العلاقة بين التجمع والطريق من حركة الناس والبضائع لأنَّها أهم عوامل نشأة التجمع العمراني ونموه، وترتبط النشأة ارتباطاً قوياً بالطرق وأي تحول أو اندثار لأيٍّ منهما يؤدي إلى مصير مختلف؛ وبشكل عام، فإنَّ مواقعها تقترن بعدد من الانقطاعات، كأن ينقطع مسار طريق بري بظهور عائق جغرافي، أو عند تغيير الاتجاه مثل تلاقي الطرق أو عند تقاطعاتها، أو عند تباين في الإنتاج والمقومات الاقتصادية؛ ويمكن أن تنشأ المدن والبلدات في المواقع البينية على مراحل من الطريق مثل الاستراحات ومراكز التموين وتغيير وسائل النقل.[25: 93]
ويمكن التأكد من تحقق شروط كثيرة لنشأة مدينة في هذه المنطقة بشقيها الطبيعي والحركي، في العديد من المستقرات، إلا أن أهمها كانت برزة أو دير مران على سفح جبل قاسيون بسبب توضعهما الجغرافي المتميز على مناطق تماس الغوطة مع الجبل، ولأنهما على مفاصل الاتجاهات، ولإشرافهما المباشر على بدايات الطرق التجارية، ولسهولة الوصول إليهما، مع وجود إمكانية تحصين المدينة بشكل جيد، ولاستقلالهما المائي نسبياً، ولأنهما تُشرفان على منافذ المياه الداخلة على المجال المكاني بأكمله، وتتميز دير مران بقدر كبير لسيطرتها على توزيع كميات مياه نهر بردى، ولأنهما غير مُشيدتين على أراض زراعية، ولقربهما من أماكن توفر مواد البناء، ولوجود إمكانية لتوسعهما على السفوح الجرداء الصلبة، بعيداً عن استهلاك الأراضي الزراعية وصعوبة التأسيس عليها؛ وفي فترات سابقة على ظهور دمشق، استمرت كل منهما بتأدية دور مدينة مركزية ضمن نسقها الحضري بشكل رئيسي ومركز طرفي بالنسبة لكامل المجال؛ ويعزى عدم تولي إحداهما السيطرة على النظام الحضري في منطقة دمشق، إلى عدة أسباب منها ما يتعلق بالميثولوجيا القوية للمكان المقدس في دمشق، ومنها ما يتعلق بالنفوذ الخارجي على كل من المنطقتين اللتين كانتا على تنافس شديد بسبب اختلاف النفوذ المسيطر عليهما.
وتظهر في طرفي الغوطة كل من دوما وداريا كمستقرات مرشحة بدرجة أقل من برزة ودير مران، لتكون إحداهما مدينة مسيطرة على النسق الحضري في المجال المكاني لكامل المنطقة لأسباب عديدة ذكرت؛ ولا يظهر في المنطقة الشرقية أية مستقرة مهيئة لتكون مدينة مسيطرة.
ولا ينال موقع دمشق الكثير من النقاط أمام مواقع برزة ودير مران ودوما، وهذا ما يشير إلى أن اختيار موقع دمشق لم يكن يوماً اختياراً جغرافياً محققاً، ولم تغدُ بنموها لذلك؛ وتجدر الإشارة إلى أن المدن الأربعة كانت تتصل فيما بينها بطريق محيطية، دون الحاجة للمرور بموضع دمشق، يقع معظمه على جبل قاسيون؛ وبالرغم من أنَّ دمشق كانت في موضع مركزي من المدن الأربع، إلا أنَّ ذلك لا يثبت أنَّها كانت منافسة في السكان والنشاطات، بل على العكس، فإنَّ ذلك يؤكد أن دمشق كانت مركزاً مقدساً، فالموقع يقع ضمن اعتبارات الأماكن المقدسة، ومكاناً للعبادة وإجراء التبادلات التجارية لكامل التجمعات المنتشرة في محيطه، ويعتقد أن المكان كان بإشراف ممثلين عن هذه الأطراف المتعايشة، ويمكن أن يكون فيه مقار للكهنة التي تخدم الآلهات المتعددة الخاصة بكل طرف، وغالبا ما كانت حماية الحصن تتم بجهود مشتركة من المدن الأربع، أو أنها كانت بالتناوب، أو أنَّها كانت للأقوى بحسب أهميتها وسطوتها، وكان من المتعذر أن يبني أحد في هذا المكان لأنه يقع ضمن أملاك المعبد، فالإقامة فيه تعني أنه قد سيطر على المجال المكاني للمنطقة، وهذا ما يلاحظ خلال الفترات المتعاقبة من الآرامية إلى الرومانية.
ورغم تقريظ بعض الدراسات إمكانية استقراء نشأة مدينة كبيرة في موقع مدينة دمشق في فترات مبكرة معاصرة لنشأة المستقرات الأربع، إلا أن مزيداً من التحليل يمكن أن يوضح جوانب هامة كانت عائقاً كبيراً في نشأتها بموقعها الحالي تحديداً، فالمدن يمكن أن تنشأ بحالتين:
وهذا مالم يتوفر في دمشق، لأنَّها لم تكن مدينة خلال عصر دويلات المدن ضمن مفهوم: Policy، أو دولة المدينة City State التي تعني حكم مدينة لحيز مكاني محيطي يتراوح ما بين الريف المحيط، والسيطرة على عدة مدن، وصولاً إلى السيطرة على إمبراطورية مترامية؛[15: 78] ولم يذكر التاريخ أن دمشق كانت مقراً سياسياً أو حلفاً لعائلات يدير نوابها حكمها؛ كما عرف عن القدماء فصلهم بين المناطق الدينية التي ترتبط بمواسم العبادات والاحتفالات الدينية والمواكب ومراسمها، والمناطق الدنيوية التي يسكنونها ويمارسون فيها نشاطاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وهذا ما تؤكده الأخبار عن تميز موقع دمشق بالقدسية الدينية دون الدنيوية في مراحلها المبكرة.
ويجب التفريق بين المفهوم العام للمدينة: City الذي يعبّر عن توافر مجموعة من مكونات تجمع سكاني من أبنية وخدمات ومرافق وإدارة وغيرها من المقومات، وبين المدينة ضمن المفهوم الأوسع ويسجل التاريخ أمثلة كثيرة من حالات الدولة المدينة المفهوم في بلاد الشام، كانت صورتها في إطار منطقة مستقلة تتركز فيها الأنشطة السياسية والثقافية في مركز حضري واحد يحكمها قائد؛ والنموذج الأعم لهذا النموذج كناية عن دويلة نواتها المدينة المسيطرة، تتبعها المدن الصغيرة والقرى المجاورة لها، أو “أنها التنظيم السياسي والاجتماعي الموحد لإقليم محدد يمكن أن يشمل مدينة أو أكثر”[7: 81]. وأكثر الأمثلة دلالة على ذلك مدن الممالك العديدة المنتشرة في سورية منذ مطلع الألف الثالث ق.م، أهمها ماري، وإيبلا، وأوغاريت، وكانا، وحلب يمحاض، وغيرها؛ وتجدر الإشارة إلى استمرار انتشار هذا المفهوم جغرافياً وتاريخياً على عموم المنطقة.
أضف إلى ذلك، أنَّ الموقع يخرج عن القواعد والشروط الأساسية لبديهيات اختيار مواقع المدن، التي يُفرد فيتروفيوس[79] فصلاً خاصاً عنها، جعل من أهمها: “أن يكون الموقع مرتفعاً، وأن يكون غير ضبابي أو متجمد ضمن مناخ معتدل لا بارد ولا حار؛ وألا توجد مستنقعات في ضواحي الموقع، لأن النسيم الصباحي المُحَّملُ بالضباب القادم منها يكون ممزوجاً بأنفاَس مخلوقات المستنقع، فيستنشقه السكان، فيجعل موقع المدينة فاسداً”، ويؤكد على المحيط “الذي يمكن أن يوفر الكثير من المواد الغذائية لبقاء حياة المجتمع, إضافةً للطرق الجيدة أو الأنهار الملائمة أو الموانئ البحرية التي تؤمن وسيلةً سهلةً للانتقال إلى المدينة”، ثم يجعل من موضوع التأسيس للأبراج والسور من أهم الإجراءات الواجب مراعاتها عند إحداث المدينة، يؤكد فيه على اختيار مواضع صلبة مناسبة لعملية البناء لأنها أمنع وأقل صعوبة وأقل كلفة.[32: 45]
ويرى ابن خلدون[80] عند اختيار الموقع “وجوب أن يراعى فيه دفع المضارب بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق والمتطلبات المعينة”[1/ج2: 16]؛ على أساس توفر محددات طبيعية ومناخية واقتصادية، كأن يكون مكان وضع المدينة “في ممتنع من الأمكنة، إما على هضبة متوعرة من الجبل وإما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو”[1/ج2: 16]، “ومما يراعى في ذلك من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض….. والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب”[1/ج2: 16]؛ وأكد على أهمية وقوع المدن على طرق المواصلات والقوافل التجارية.[41: 17]
يرى ابن الأزرق[81] أن ما يجب مراعاته في أوضاع المدن “أصلان مهمان: دفع المضار، وجلب المنافع، ثم يذكر أن المضار نوعان: أرضية ودفعها بإدارة سياج السور على المدينة، ووضعها في مكان ممتنع، إما على هضبة متوعرة من الجبل، وإما باستدارة بحر أو نهر حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو، والنوع الثاني من المضار سماوي ودفعه باختيار المواضع طيبة الهواء لا ما خبث منه بركوده أو تعفن بمجاورته مياهاً فاسدة، أو منافع متعفنة أو مروجاً خبيثة يسرع المرض فيها للحيوان الكائن فيه لا محالة”[2: 538].
أشارت الدراسات الجغرافية حول نشأة مدينة دمشق إلى أن الغوطة كانت عامرة قبل دمشق بزمان، وتؤكد أنَّ الاستيطان فيها سابق لظهور دمشق، وتاريخ الزراعة في هذه المنطقة يرجع إلى عهود ما قبل التاريخ، وأنَّ المراكز الحضرية كانت لا تزيد حجماً عن بضعة مساكن أو عدة أكواخ، ولا يوجد ما يؤكد أقدمية دمشق عن غيرها[26: 127]، عدا المنطقة المقدسة التي تفوق قدماً باقي أجزاء المدينة والتي تبعد خمسمئة متراً عن نهر بردى؛ ومن خلال تحليل مسار نهر بردى وأفرعه وأنواع التربة وشكل التضاريس في كامل المنطقة، لم يُعثر على مبررات جغرافية أو ميزات في المصادر الطبيعية كانت سبباً في اختيار موقع مدينة دمشق، خصوصاً وأنَّ موقع دمشق بعيد عن مكان التحكم بتوزيع المياه وتحت رحمته أو خطره؛ إضافة إلى أنَّ المنطقة بأكملها تعتمد على الزراعة، وتقع تحت تأثير موضوع توزيع المياه الذي يتم من منطقة الربوة الواقعة على مسافة عشرة كيلومترات خارج مدينة دمشق، والذي كانت تتطلب إدارتها سلطة قادرة على فرض احترامها بين المستقرات المنتشرة في الغوطة، ويسجل التاريخ خلافات عديدة على توزيع كميات مياه بردى والتي كان من أثرها اندثار عدد كبير من المستقرات فيها؛[34: 64] كما أن التأسيس لمدينة في مركز المناطق الزراعية الخصبة كان من المحاذير الأساسية بهدف الحفاظ على تآكل الأراضي المحدودة التي يعتمد عليها معظم اقتصاد المنطقة، أما فيما يتعلق بالإعمار والبناء فأرض دمشق المدينة زراعية لحقية غير مستقرة تصعب فيها عملية التأسيس، وتتطلب العملية جهوداً مضاعفة عن التأسيس على الأراضي الصخرية والرسوبية، ولا يوجد فيها مصادر لمواد البناء، وكان أقرب موقع لهذه المواد يقع في جبل المزة، ويصعب فيها التخلص من الردميات والأنقاض الناتجة عن عملية البناء أو التجديد؛ وهذا ما يرجح أن المكان كان للتعبد وليس للإقامة والسكنى.
ولعل المتمعن في طبيعة المنطقة التي قامت عليها دمشق وتأسست بداياتها فيها، يدرك تماماً أنه ليس بالموقع الملائم من الناحية الأمنية لإقامة المدن، فليس في تكوين الأرض المحيطة بالمدينة عقبة طبيعية واحدة جديرة بصد، أو إعاقة سير، جيشٍ غازٍ؛ أو مانعٍ يضمن للسكان الوقوف بموقف المدافع.[10: 6]
ومن جانب آخر، ترى الدراسة أنَّ حماية مدينة دمشق تتطلب انتشار فرق خيالة سريعة على قوس دائري يطوق الغوطة فيما وراء مستنقعات العتيبة والهيجانة، وهذا ما لم يذكره التاريخ إلا خلال الفترة الرومانية، وتتطلب تحقيق الإلفة بين المستقرات المنتشرة في الغوطة من جهة، وتحالف مع القبائل البدوية في البادية المتاخمة من جهة أخرى؛ وهذا ما يعني استحالة تمكن السلطة السياسية والإدارية والعسكرية من مدّ النظام الإداري إلى جميع الأطراف، ومن الدفاع عن دمشق وعن نفوذها في الغوطة بصورة مطلقة، ولن تستطيع فرض سلطتها على القبائل البدوية، وترى الدراسة أن السهوب الواسعة تساعد الغزاة على المرور بعيداً عن مراكز الحراسة والمراقبة. والأبراج والأسوار لا تحمي سوى الأراضي القريبة منها، وترى أن الدفاع عن المنطقة يتطلب قطع كامل الغوطة للخروج إلى المناطق الجرداء التي تكون مناسبة للمعارك.[26: 130]
كما لم يعرف عن مدينة قديمة أُنشأت وسط غابة، فجميع مخططي المدن القديمة كانوا يحذرون من إنشاء المدن وسط المناطق الزراعية والغابات والأراضي الرطبة، ويرونها مناطق غير صحية لأنها تنشر الأبخرة الضارة على السكان؛ عدا عن أنَّ عبورها من أطرافها يستغرق مسيرة يوماً كاملاً، وهذا انتظار غير مجدي ولا يمكن قبوله من قافلة متعبة من الطريق، وكان من غير المعقول دخول جميع القوافل إلى مركز الغوطة والخروج منها، ولم يرد أخبار عن طرقات قبل الفترة الرومانية.
دمشق في النسق الحضري:
أشار ما سبق إلى ظهور أربع مناطق كان كل منها مؤهلاً ليكون مدينة رئيسية قبل دمشق، أهمها ما يتوضع على سفوح جبل قاسيون القريبة من منافذ المياه، وأنَّ مواقع الأطراف كانت أكثر مناسبة من موضع دمشق لإنشاء مدينة كبيرة رئيسية في المجال المكاني، إلا أنَّها أخفقت جميعها بتأثير عوامل خارجية وداخلية قوية، وكان إخفاقها المستمر أمام تضخم تأثير الجانب الديني المقدس لدمشق أهم الأسباب في نشأتها لا حقاً.
وقد عمد البحث تجنب تناول دمشق ضمن النسق الحضري في فقرات عديدة لأنها لم تكن تمثل مستقرة سكنية، ولا يعني غيابها عدم وجود تأثيرها على كامل المنطقة، فموقع دمشق يتطابق مع شروط اختيار مواقع الهياكل مثل: ضرورة مشاهدته عن بعد في منطقة نفوذه، وسهولة الوصول إليه، والوسط البيئي الصحي، والإشراف على مصادر الرزق لمباركتها، وغير ذلك؛ وكان اختيار الموقع مرتبطاً ببيئة طبيعية خلابة، ولم تحتج المعابد إلى تحصينات وحمايات، لأنها كانت تُحترم وتُهاب حتى من الأعداء، وكانت ترتبط إلى حد كبير بالمكان أكثر من ارتباطها بالسكان؛ ولم تحتَج المعابد إلى أسوار إلا عندما كثُر عُبادها وقوي نفوذها وزاد غناها ومُورِست نشاطات اقتصادية وثقافية بقربها، وعندها يحتاج المعبد إلى حماية وإدارة، وتكون السلطة على منطقة نفوذ المعبد لمن يقوم بها؛[6: 149] وهذا يتفق مع تأخر ظهور دمشق كمستقرة للسكن إلى نهاية الفترة الآرامية، ويبرر تأسيسها لاحقاً على يد الرومان بعيداً عن شروط ومتطلبات الموقع الجغرافي.
فقد أشارت المراجع التاريخة إلى أخبار للفاتحين، وحددت مكان إقامتهم إلى جوار المنطقة المقدسة من دمشق، دون أي ذكر لملامح استقرار سابقة عليهم، وعليه يمكن رصد تفوق دمشق ضمن النسق الحضري خلال مقاطع زمنية محددة تم فيها بناء أجزاء دمشق على مراحل بقرارات من السلطة المهيمنة على كامل المجال المكاني لدمشق، ولم تخضع لشروط النشأة والمراحل التي مرت بها باقي المستقرات،
رغم أن الأخبار الملحمية ما قبل التاريخ أشارت إلى بناء دمشق من قبل عدد كبير من الشخصيات الهامة منذ بداية التاريخ، إلا أن تحليل هذه الأخبار يوصل إلى أن الاهتمام كان ينصب على المنطقة المقدسة تطبيقاً لميثولوجيتها الطاغية على من يقوم بإعمارها وتحصينها، وتعظيم قدسية المكان بإشادة بوابات عظيمة أو جدران دون أي ذكر لأبنية أخرى؛ ولا يمكن فهم فعل “البناء” على أنه بناء مدينة؛ بل كان المقصود جدران السور المربع الذي يميز أسوار المعابد عن أسوار المدن الدائرية أو الإهليلجية.
وكانت النصوص والرسائل القديمة تشير إلى المنطقة وليس إلى المدينة، ولم تتضمن المراسلات اسم حاكم لدمشق؛ ولا يُعتقد أن التاريخ أغفل ذكر مدينة دمشق قبل الآراميين، ولا توجد دلائل أثرية على الفترة الآرامية ولكن أخبارها تشير إلى بناء معبد عظيم مسور وحي سكني غير منظم للوافدين الجدد، ويشير صمود دمشق أمام أكثر من مئة هجمة آشورية خلال الفترة الآرامية إلى قوة المستقرات المنتشرة في الغوطة، ولا تنال دمشق من الأخبار خلال الحكم البابلي إلا مهاجمة نبوخذ نصر لغوطتها وحرقها وإبادتها؛ وتأتي المرحلة الثانية من تشكل مدينة دمشق خلال الفترة اليونانية، عندما أقاموا فيها حياً خاصاً بهم بصيغة مستوطنة عسكرية إلى جانب المعبد، اعتمد تخطيطه على ملامح مدنهم وربطوه مع المعبد، متجاهلين العمران القائم ولم يقوموا بتأسيس مدينة متكاملة؛ وتتوسع دمشق حياً آخر خلال حكم الأنباط، وتولد مدينة دمشق خلال الفترة الرومانية بعد تحسين المعبد وبناء أسواره وأسواقه، واختطاط الشوارع الرئيسية وبناء المسرح وتسوير المدينة وفتح قنوات جديدة لمياه الشرب والصرف.
وفي المراحل جميعها كانت دمشق حالة خاصة، فملامح المدينة كانت تتضح من قلعتها ومعبدها ومخازن غلالها وسورها، إضافة إلى جوانب اجتماعية تفرض أن يكون نصف سكانها من طبقات الجنسية الحاكمة، وسدسها من العبيد، والباقي ممن يعتبرون أجانب عنهم، وهذا ما لم يرصد في دمشق إلا بشكل متواضع في تواريخ متقدمة من الفترة الرومانية.
ولا يمكن اعتبار دمشق من المدن المشادة بالتأثير الديني، كما في المدن السومرية والبابلية التي كانت تشاد بقصد العبادة، والتي كانت تضع معبدها في مركزها بشكل مخطط ومسبق، فدمشق تجمعت أجزاء حول معبدها، وتاريخ نشأتها يوضح أنَّها كانت مكاناً لإقامة الفاتحين، تشكلت وفق تتاليهم، ولا يوجد ما يوضح أن دمشق كانت تمتلك مقومات مدينة قبل الرومان، ولا يوجد ما يشير إلى جهود السكان المحليين في إنشاء المدينة أو إحداثها أو توسيعها؛ بل كان من الجلي أن السكان الأقدم تواجدوا بقوة في المستقرات المنتشرة في المجال المكاني حولها؛ ولو استبعد التأثير الديني للمكان المقدس في دمشق لما كانت حاضرة المنطقة فيها، لأن المستقرات المحيطة كانت سابقة عليها في النشأة والتكوين، وكانت أفضل في الموقع الجغرافي، ولكنها فشلت في منافستها للثقل الديني من جهة ولاستقرار القوة الحاكمة فيها، يضاف إلى ذلك تبعية القوة الاقتصادية للجانبين الديني والسياسي.
ويمكن القول إنَّ دمشق لم تكن مدينة مبدعة بالشكل الكامل لأنَّ نشأتها لم ترتبط بحضارة معينة، ولا يمكن تصنيفها مع المدن العفوية، لأنَّها لم تتطور من قرية لبلدة فمدينة؛ هي حالة خاصة، خالفت معظم القواعد والنظريات العلمية لمواقع المدن ونظريات نشأتها؛ فرضت وجودها بتأثير قدسيتها؛ واستغرق ظهورها، حسب الروايات التاريخية، من بداية بنائها على يد الآراميين، إلى تسويرها أيام الرومان، وهذا ما لم تستغرقه مدينة بالتاريخ.
الخاتمة:
يقول إيكوشار: “إنَّ دمشق هبة نهر كريزورواس”؛[82] إلا أنَّ الأصح دمشق هبة ميثولوجيتها، والاستقرار في المنطقة بأكملها كان بتأثير مياهها الوفيرة وغوطتها الغنية وجبلها؛ ويمكن أن يُقال: إنَّ تاريخ مدينة دمشق لا يكفي لتبرير نشأتها، ولا بد من التعمق في التاريخ الموازي لمحيط دمشق، في قاسيون وجهات الغوطة الثلاث، فالجبل والغوطة لم يضفيا جمالاً ورونقاً على المدينة وحسب، بل هما الأساس في استقرار السكان وتشكل النسق الحضري في المجال المكاني، وهذا ما يتلاقى مع محتوى الإشكالية، وتتحقق أهداف البحث من خلال نتائجه الآتية:
يمكن قبول التدوينات التاريخية عن أخبار نشأة دمشق، في مرحلة لاحقة على البحث عن حقائق تتعلق في أسبقية السكان وعبقريتهم في صناعة مثيولوجيتهم الخاصة بالمكان المقدس، وأنَّهم كانوا على شكل وسطاء غير مرئيين ما بين الآلهة والأديان والإنسان، وأنهم زرعوا الغوطة وأنشاؤوا المستقرات الحضرية فيها، ولم يأخذوا الحضارة من غيرهم؛ وكانت الحضارات تأتي لتحتك بمعرفتهم، وتزاحمهم على آلهتهم لينهلوا قدسية منها.
ورغم أن النتائج في ظاهرها تتفق مع المضمون التاريخي للروايات، إلا أنه كان من الواجب التنويه بأهمية المحيط، خصوصاً وأنه مندثر المعالم، أو يكاد؛ ولا يصح عزل دمشق عن هذا المحيط واعتباره ظلاً غير مرئي، وأنَّه غير موجود ولا حتى على هامش الرواية.
ونظراً لضيق المساحة المحددة للباحث في تناول الموضوع الواحد، يقترح البحث التعمق في دراسة محيط مدينة دمشق والتفتيش عن دور للسكان الأصليين فيه من خلال عدة أبحاث تالية، فلا يعقل قبول ذكر بناء دمشق منسوباً إلى فترات استعمارية.
وعلى هذا، يوصي البحث بدراسة المناطق المنوه عنها حسب أهميتها، خصوصاً منطقة دير مران والربوة والطريق الواصل إلى بعلبك، على اعتباره مساراً مقدساً يصل بين بارثينون دمشق، وهليوبوليس بعلبك؛ وتأتي بعد ذلك منطقة برزة والمحور الواصل إلى حمص؛ ومنطقة دوما والمحور الواصل إلى تدمر.، .