- info@damascus-heritage.org
يرى أفلاطون في مدينته الفاضلة أن جمال المدن يأتي من خلال الاهتمام بالإنسان وثقافته ومبادئه وعلاقاته طبقاً لمنظومة حِكم توزع المهام فيها حسب الدور الموكل لكل طبقة من المجتمع؛ ويرى فتروفيوس أن جمال المدينة يتحقق بإحكام النسب واستخدام المقاييس الإنسانية في العمران وإظهار قوتها وتحصينها وديمومتها على يد معماري أخلاقي؛ بينما يرى ابن خلدون أن جمال المدن يأتي من رقي التفاعل الإنساني في المكان والإدارة الرشيدة، استنتج وجودها من دراسة تاريخ العلاقة ما بين الناس والعمران، مؤسساً بذلك ما يسمى بعلم الاجتماع الحضري؛ أما مدينتنا الخالدة فكانت ينبوعاً إلهياً لكل الجمال الذي لا يحتاج إثباته أو قياسه لحِكَم وعلوم، فقد نسجت في إحادية الجمال كحالة استثنائية من متلازمات الثنائيات؛ لكن مع تقدمها في السن ووصولنا إليها، بات البحث عن الجمال أمراً مضنياً في أكوام القبح.
مقدمة لموضوع آخر:
توفرت الثنائيات كظاهرة في الطبيعة في مختلف العقائد، والفلسفات، والعلوم، والمظاهر، والمشاعر وغير ذلك، طبقاً للملكات الإدراكية لدى الإنسان؛ فكانت الحرارة والبرودة، الجفاف والرطوبة، وكان الغيب والوجود، السماء والأرض، الإيمان والإلحاد، الروح والجسد، التجريد والحس، الحياة والموت، الذم والمديح، الفرح والحزن، الجمال والقبح، المركز والمحيط، الليل والنهار، وغير ذلك. والمثاني ما ثنيّ وفق المفهوم السابق، وقد ذكرت المثاني في القرآن، {ولقد ءاتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم- الحجر:87}، وفسرت من البعض على أنها تشير إلى ثنائيات الإدراك التي تناولت: الخالق والمخلوق.
وقد ذكر صاحب (لسان العرب) أن الاثنين ضعف الواحد، والاثنين لا تثنى ولا تجمع لأنها صفة الواحد، وأن الاثنين من ثني أحدهما إلى صاحبه، وثنى الشيء ردَّه إلى بعضه وقوّاه، وأثنى: بمعنى افتعل منه أصله. وبعد الواحد، تفهم الحياة بثنائيات تفسر حدود التوازن المطلوب في المواقف، فالثنائية الواحدة يمكن لها أن تفسر تناقضاً أو توازناً أو أن تحقق رابطاً، أو أنها تساعد في فهم، ويمكن لها أن تضم كل ذلك وأكثر؛ وبدءاً من ثنائية آدم وحواء انتقالاً إلى تصنيف وصفهما ورصد تصرفاتهما ومشاعرهما وبيئتهما بثنائيات متقابلة، وصولاً إلى ثنائيات الكائنات والجماد وحتى الذرة الواحدة؛ نسجت مكونات التاريخ على مدى الزمن وفق متقابلات تتقاسم فيما بينها حدوداً محققة توازناً نوعياً لتشكل فهماً مبرراً لما يحصل في المكون الواحد.
كذلك فإن الميثولوجية السورية تؤمن بأن الرقم “واحد” هو أصل الأرقام والأعداد ومنشأها، وأنه تعبير عن فكرة الألوهية، فقد اعتمده السوريون القدماء للتعبير عن الوحدانية وأنه أب وأم الأعداد كلها؛ أما الرقم “اثنان” فكان لهم أول انفصال عن هذه الوحدانية، وكان متضمناً بأصول جميع الأعداد التي تقبل القسمة؛ ومنذ الألف الثامنة استخدموه في نسب تراثهم كتعبير عن فكرة الازدواج المتوفرة في الطبيعة، وبالتنسيق الثنائي لنظام الكون وضعوا فهمهم للـ”ماندالا[1]“، وابتكروا تعبيرهم الخاص بـ”السواستيكا”، من خلال ثنائية تعبيرية تفسر معنى الحركة المستمرة من الأزل إلى الأبد.
ومن هذا المنظور أرجع الفيثاغورثيون الاشياء والظواهر التي يضمها الكون إلى العدد، على أنه الصفة الوحيدة الشاملة لكل ما ينتظم الحياة، وهو جوهر الوجود وحقيقته ونسبة الاشياء إلى بعضها؛ إذ الاشياء من حيث كينونيتها إنما تتفرع عن الواحد، لانها مهما بلغت من الكثرة والضخامة في الجرم، إنما هي واحد متكرر، لذلك كان الواحد عندهم هو أصل الكون، وعنه صدر كل موجود وعللوا ظاهرة انشطار الكون إلى موجودات محددة وأخرى لا محددة، على أساس أن الاعداد فردي وزوجي، الفردي منها لا محدود والزوجي محدود، ثم وضعوا قائمة بعشرة أضداد هي عماد ثنائيات الكون: (فردي/ زوجي، محدود/ لا محدود، واحد/ كثير، يمين/ يسار، ذكر/ أنثى، مستقيم/ معوج، سكون/ حركة، نور/ ظلمة، خير/ شر، مربع/ مستطيل).
بداية، استدل الفلاسفة على معايير قياسية مجازيّة لرصد العلاقة بين ثنائية المكون الواحد، ووضعوها في شكل منمقات شعرية أسست لمفهوم الحِكمة عبر التاريخ، ومن بعدهم أتى الرياضيون فترجموا الحِكَمَ لموازين رقمية حسابية يمكن لها أن تقيس مكونات الطبيعة الفيزيائية وما وراءها بنفس دقة قياس المنتج الإنساني الفيزيائي والمعنوي من المشاعر والأحاسيس؛ ورغم وصولنا اليوم لتشعبات خيالية في الموضوع الواحد، إلا أن الأمور لا زالت تُفهم من خلال ثنائيات متقابلة مثبتة علمياً.
إن المفهوم الأوضح للثنائيات المتقابلة هو مصطلح العكس أو الضد، (فالضد يظهر حسنه الضد .. وبضدها تتبين الأشياء)، فعكس القوة هو الضعف، وعكس العدل هو الظلم، وعكس الجمال هو القبح، لكن يبقى تفسير الثنائيات قاصراً عند هذا المفهوم، ولشرح أحد طرفي الثنائية لا بد وأن نستعين بالطرف الآخر لتسهيل ملاحظة الفرق بين المعنيين المتقابلين؛ وفي عموم الثنائيات ينتفي مفهوم التناظر والتماثل، ولكن يتحقق نوع من التوازن النسبي الذي تم الاعتقاد به على أنه ضروري بالتسليم أو بالإثبات، فالحياة لا تساوي الموت، والرجل لا يماثل المرأة، والشر لا يمكن أن يكون متمماً للخير، والجمال ليس درجة من القبح، والسلم لا يكون كذلك من الحرب، ولا العلم من الجهل، والجوهر لا يتماثل مع الشكل، والسالب لا ينتج السكون بلقائه مع الموجب؛ ولكن بنفس الوقت، لا يمكن التخلي عن أحد طرفي ثنائية المكون، فلا توجد حياة بجنس واحد، ولا يوجد خير مطلق، ولا جمال دون أن يثانيه قبح؛ وعليه فإن القبح ليس نقيضاً للجمال بل هو طرف ثنائية نسبية لا بد من وجوده لشرح مضمون متكامل؛ فضرورة وجود القبح أنقذت الشيطان من الموت على يد كاهن رواية “جبران”[2].
والجمال عند العرب في الأصل للأفعال والأخلاق والأحوال، عملاً بالحديث الشريف: “إن اللّه لا ينظرُ إلى صورِكم وأموالَكم ولكنْ ينظرُ إلى قلوبكم وأعمالكم“، وبعدها استخدم للشكل؛ طبقاً لتفسير الحديث الشريف: “إنَّ الله جميلٌ يحبُ الجمالَ“، أي حسن الأفعال كامل الأوصاف الثابتة؛ أما القبيح عندهم فيطلق على ثلاثة أشياء، أولها: ما كان منافراً للطبع كالمرّ، والثاني: ما كان صنعة نقصان، والثالث: أطلق على شيء متعلق بالذم؛ ويبدو أن القبح عند العرب مسألة لا تخص علماً بعينه، ومنها: حديث قبيح بمعنى: “ضعيف”. والجمال بين العامة: المستحسن بالبصر؛ وأن الجمال “صفة” تلحظ وتبعث في النفس سروراً ورضاً.
وافترض فيكتور هيجو أن للقبح ألف طراز وأن للجمال طرازاً واحداً، وبمعنى قريب نجد أن “أمبيرتو إيكو”[3] يؤيده عندما قال: هناك قابلية لا متناهية لصنع القبح، بينما هناك قدرة محدودة لصنع الجمال. وبالرغم من ارتباط الجمال بالكمال، والقبح بالنقص، إلا أن تدرج البحث عن ثنائية الجمال والقبح في جزئيات الشيء، كان من مبررات الخروج من قيود المثالية المتوفرة في المقياس الإلهي، فنقول: إن الشكل كمالي، والمضمون ضروري، أو العكس؛ وعندها نلجأ للنسبية فنعتقد المفاضلة بالملكات، أو بالحرفة، أو بالندرة، أو بالجنوح، أو بالحاجة، أو بالمعاصرة، أو بالتكرار، أو بالإلفة.
إن للجمال علماً مستقلاً يتأتى من مبادئ وأسس ومفاهيم وأساليب وطبائع وخصائص وعناصر ومعايير وقيم وتقييمات وحالات إبداعية وصور ومحاكاة، وله أفرع وميادين وانتماءات؛ لم نجد للقبح مثلها، ومما لا شك فيه أن القبح ليس درجة متدنية من الجمال، وهو مفهوم مستقل يظهر عندما يغيب الجمال، فالقبح حالة فراغ منه ولكن ليس من القيم الإنسانية؛ وما بين الجمال الكامل والقبح الشنيع مركز يتلاقى فيه طرفا الثنائية بحالة اندماج يتحقق فيها نوع من الاعتدال الذي يحقق التوازن النسبي، أطلق عليه أرسطو اسم “الفضيلة“، يقول في ذلك: “الفضيلة موقف متساوي البعد بين طرفين مرذولين هما: الإفراط والتفريط“، والفضيلة حسب ما يراها أفلاطون هي العقل والمنطق، وهذا ما ينطبق مع الفكر الوجداني في المواقف الفلسفية التوفيقية في الفكر العربي، وقد زاد عليه الفكر الإسلامي على أنه خير الأمور، لأنه يتضمن الواقع المعاش من وجهة نظر التواضع أمام صفات الله أولاً، ومراعاة الأدنى تالياً، وأخيراً تنبيه المختال بإمكانياته.
ولم يخرج الجاحظ في كتابه (المحاسن والأضداد) عن هذا عندما ربط الجمال والقبح بالعرف والعادة، وجعل من الاعتدال محوره، واعتبر الخطل زيادة عليه والعيّ ما قصر عنه، يقول: “إنما وقع النهي عن كل شيء جاوز المقدار، ووقع اسم العيّ على كل شيء قصر عن المقدار، فالعي مذموم، والخطل مذموم”، واعتمد في ذلك على الحديث الشريف: “خير الأمور أوسطها”، أساساً في تبيان موقفه من الاعتدال، واعتقد القبح في كل خروج عن هذا الحد في الخَلق أو الخُلق، وحتى في الدين والحكمة؛ وأكد على نسبية تحقق قيم أساسية ومحورية للجمال والقبح على أنهما طرفا نقيض؛ ونسب قيمة الجمال إلى الحامل والناظر، وفصل فيه مشيراً إلى مدلولات تجريدية أقرب ما يكون لما نعاصره. أما في كتابه (التربيع والتدوير) فيستند على الحديث الشريف: “إياكم وخضراء الدمن”، بمنهج جدلي مابين الاتجاه الذاتي والموضوعي دون ترجيح شرط توفرهما؛ واهتم بمطالعة دور اختلاف أذواق الناس على الأثر الجمالي الواحد، ووضع مقياساً على شكل شروط موضوعية أوجب توفرها في الموضوع الجميل. ويذكر من جوانب تناول الحد الفاصل للثنائية مفهوم “الولوج”، استناداً لقوله تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل- الحج:61}، ومفهوم “الخروج”، استناداً لقوله تعالى: {يخرج الحي من الميت ومخرج الميتِ من الحي- الأنعام:95}، وبالرغم من تعدد هذه الجوانب إلا أنها كانت تنهج ما يؤيد فضيلة أرسطو.
تُترجم ثنائية الجمال والقبح من تقدير الفن في صنعة المنتج، على اعتبار أنَّ الفن هو تجسيد لانفعال وجداني، والمنتج إما أن يكون طبيعياً بصنعة منسوبة للإله، أو بشرية مستخرجة أصلاً من الطبيعة، وهي غالباً ماتقارن بصفات الكمال والجمال والثبات الإلهي من خلال موادها الأولية والمنهجية التي صنعت بها والفكر الذي تتضمنه؛ وفي هذا الخصوص أشار التوحيدي صاحب (الإمتاع والمؤانسة) إلى “أن الأمور موجودة على ضربين: ضرب له الوجود الحق، وضرب له الوجود، ولكن ليس الوجود الحق، فالأمور الموجودة بالحق قد أعطت الباقية نسباً من جهة الوجود، وارتجت منها حقيقة ذلك، في غاية لا يجوز أن يكون فيها وفي درجتها شيء من المستحسنات، لأنها سبب كل حسن، وهي تفيض على غيرها، إذا كانت معدنه ومبدأه. وإنما نالت الأشياء كلها الحسن والجمال والبهاء منها وبها“. ويتابع بقوله: “الإلهام مفتاح الأمور الإلهية“، ويرى أن “مراتب العلم ثلاث، تظهر في أنفس ثلاثة: أحدهم مُلهم فيتعلم ويعمل، وواحد يتعلم ولا يُلهم، وواحد يتعلم و– من ثم- يُلهم“، وصنف الملهم على أنه في مرتبة أسمى النفوس وأعلاها وأطلق عليه لقب المبدع، وربط حالة الإبداع بأصحاب المواهب الفنية وفرق بينهم على تباين استناداً للمخزون المعرفي والتجريبي.
وبمعنى مشابه في كتاب (الحكمة الخالدة) يقول أبو علي مسكويه[4]: “إن الطبيعة فوق الصناعة، وإن الصناعة دون الطبيعة، وإن الصناعة تتشبه بالطبيعة ولا تكتمل، والطبيعة تتشبه بالصناعة وتكتمل، وأن الطبيعة قوة إلهية سارية في الأشياء واصلة إليها، عاملة فيها بقدر ما للأشياء من القبول والاستحالة والإنفعال والمواتاة، إما على التمام، وإما على النقص”. وهذا ما ذهب إليه هيجل بقوله: “الفن يكشف عن الإلهي، عن الإهتمامات الأكثر سحراً للإنسان، عن الحقائق الأكثر جوهرية للروح“.
من وجهة نظر صوفية، يرى العطار[5] صاحب (منطق الطير) حتمية تلازم الجمال والقبح في ثنائية تكوين الإنسان من أصل الخلق، يقول: “إن الله سبحانه وتعالى أحال التراب طيناً مدة أربعين يوماً، وبعد ذلك أودع في الطين الروح، وما أن سرت الروح في الجسد وأصبح الجسد بها حياً، منحه الله العقل ليكون الإنسان به مبصراً”، ثم يتابع: “وعندما هبطت الروح إلى الجسد صار الجزء كلاً؛ والروح تتصف بالطهارة أما الجسد فصفته الذلة والمهانة، وسرعان ما أن اتحد السمو بالخسة حتى كان آدم أعجوبة الأسرار”؛ فالإنسان عنده مكون من جسد ينزع إلى الشهوات والقبح والعودة إلى الأصل الخسيس، ومن روح نزاعة إلى الطهر والجمال والعودة إلى أصلها الرفيع والرقي إلى واهبها، وكذا فآدم خليط من ثنائية: الروح= الجميل، الجسد= القبيح. وهو ما يتطابق إلى حد بعيد مع ما ذهب إليه فيثاغورث عندما دعا مريديه إلى: “الإصلاح ومكارم الاخلاق وطهارة النفس وسموها عن طريق الانصراف إلى الحكمة والعلم والترفع عن الدنيا وعدم الاهتمام بالجسد الذي هو عنده غِلّ الروح البشرية، فليس للروح ان تترفع إلى ما يلزمها ويناسبها من سمو إلا بتدمير الجسد وتجاوز مطالبه وشهواته التي تبعد به عن العقل ومطالبه وعن الحكمة وإشراقاتها”.
وباعتماد مفهوم الكمال والجمال والثبات الإلهي كنموذج محاكاة لما دونه، فإن الجمال والقبح ثنائية ذات معيار له قرائن كنماذج متوفرة، أو وصفية تعتمد على مقارنات ذهنية استناداً لأسس ومفاهيم الجمال والكمال والثبات الإلهي. ولكن عندما تخرج ثنائية الجمال والقبح عن محاكاة هذا المضمون، يحتاج أصحاب الصنعة إلى وضع هالة نظرية فلسفية على شكل مذاهب ومدارس لتفسير الخروج عن المعيار الطبيعي في ضوء بيئة اجتماعية/ اقتصادية، وفي ظل الحاجة التي أنتجته؛ وبهذا تنتقل مفاهيم التحليل والتنظير من دراسة علم الجمال إلى مناقشة فلسفة الفن، والفن هنا هو تنهيج الواقع، وترقي الوجود، وإبداع الأشكال والصور بجهد كائن واع لأوضاعه الاجتماعية/ الاقتصادية/ البيئية، ويعبر انحدار الفن وغيابه عن انحطاط وتخلف، والعكس صحيح. وفي هذا السياق أوضح “أمبيرتو إيكو”: أن تفسيرات الجمال والقبح لا تعود في الغالب إلى معايير علمية، بل تعود إلى متعلقات اجتماعية وسياسية واقتصادية خاصة بكل عصر، مع التركيز على قدرة المال على إضفاء الجمال.
وقد أشار الخازن[6] في كتابه (ميزان الحكمة) إلى أن الميزان الذي يتعامل به الناس، تعرف به حقائق الأشياء سواء في المعاملة أو في طبيعة النفس البشرية، ومهما كان الأمر، فإن هذا المتغير يرد إلى أصله الثابت وهو الميزان الإلهي، أي إلى الواحد المطلق وفق معيار نموذجي إلهي؛ وبعد هذا الميزان، يرى بإمكانية استخدام موازين بصيغ وضعية على أساس أن الميزان آلة لتوضيح المقادير وتقويم الأعمال، فالميزان يعطي إشارة واضحة وعلامة ظاهرة تسمح بمعرفة الأشياء والأفكار ويمكن من الحكم عليها؛ وعنده، قد تكون الإشارة باطنة يكشف عنها بالملاحظة والتجربة أو بالنظر والتأمل، وعلى هذا فإن الأفكار توزن في إطار ميزان الإدراك العقلي وتتعلق بالحكمة والوعي، وهذا ما يؤيد ابن خلدون فاعليته بقوله: “إن العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها”؛ وقد تأتي الإشارة بالملاحظة والتجربة من الواقع، وعندها يرى الخازن بوجوب وزنها بميزان درجة العلم المُتمكن منه.
وفي الكتاب نفسه، بين الخازن أهمية العلوم الرياضية في صناعة ميزان الحكمة حتى يؤدي غرضه على أكمل وجه من حيث تحويل الكيفيات إلى كميات على أساس أن الأشياء بالنسبة له تكون في حالة الكيف والميزان ينقلها إلى الكم الرقمي، وهذا ما بنى عليه مفكرون عدة كالإغريقي بوليكيشي، والروماني فيتروفيوس؛ وبعده الكثيرون.
وقد ربط أفلاطون بين الجمال والهندسة والتناسب، وآمن بأنه لا يمكن لكائن أو شيء مؤلف من أجزاء عدة، أن يكون جميلاً، إلا بقدر ما تكون أجزاؤه متسقة وفقاً لنظام ما. ويمكن تأكيد وجهة النظر السابقة من فلسفة أرسطو.
وفق المفهوم السابق، وضع جيورجي دوكزي[7] كتابه (THE POWER OF LIMITS) متضمناً أسساً جمالية للنسبة الذهبية التي أثبت توفرها في الطبيعة والجميل من الفن والعمارة، واعتبر أن الجمال تعبير مجازي عن صورة متناسقة من العلاقات المنسجمة في إطار قانون وحيد يرسم حدود المفهوم- بل المفاهيم الجمالية؛ ولو ذهبنا مع فرضية تعدد القوانين، فإن الجوهر يبقى واحداً، فلو اختلف الجوهر لانتفت إمكانية الصلة بين الموضوعات وبين الموضوع وتفرعاته ومكوناته، واستحال إنشاء العلاقات واستنتاج الروابط. وعلى فرض أن الإنسان هو محور هذه العملية، فلا بد له من جوهر ثابت ووحيد يقيس به كلَّ ما يشاهد، ويسمع، ويفهم؛ وبغير ذلك ستكون هناك استحالة في إنشاء علاقات بين الأشياء والموضوعات وبينه، وتزداد الأمور صعوبة إذا عممنا ذلك على أناس كثيرين.
في كل كلمة، كان جيورجي يؤيد فرضية وجود قانون وحيد للأشياء شكلاً ومضموناً، يعتمد جوهره على نسبة محددة سميت Phi تعمل وفق كمون تبادلي تقابلي أطلق عليه الكاتب مصطلح “Dinergy”. والقانون عبارة عن نسبة حسابية حكمت العلاقات المختلفة بثبات منقطع النظير أثبتها الرياضيون وعمل بها المعماريون والفنانون والأدباء وقاسها علماء الطبيعة، وتعرض لها العديد من المختصين في العلوم الطبية. ويدعم هذه الفرضية رودولف ارنهايم[8] بقوله: “إن المعرفة الأعظم تنجز عندما تخضع الظواهر الموجودة كلها لقانون عام، وهذا ما ينطبق على العلم ويصح في الفن أيضاً، فالعمل الفني ينجح في إخضاع كل شيء لقانون محكم البنية”.
قد يدعي البعض أن هذه النسبة ظهرت بشكل فطري من استخدام الأدوات القياسية البدائية، التي غالباً ما كانت عبارة عن خيط لرسم الدائرة وتقسيماتها والأشكال الناتجة عنها باستخدام وحدات قياسية نقية كمسافة القدم والذراع، وأننا لا بد أن نجد هذه النسبة في كل الأعمال الفنية القديمة التي اعتمدت على الأشكال الهندسية الأساسية والوحدات القياسية النقية. وقد يدعي آخرون أن العديد من النظريات الرياضية هي مفاهيم أزلية أثبتها العلماء كواقع موجود ولا زال، وليست ابتكاراً، فمثلاً مثلث فيثاغورث هو قياس يعمل به كل من يريد إنشاء زاوية قائمة قبل فيثاغورث وبعده وحتى اليوم. وهناك من يدعي أنها إشارات إلهية أو كونية عندما تكون في الطبيعة، وأنها رموز دينية أو دنيوية عندما تكون في المخرجات الإنسانية.
كذلك قد نجد من يدعي أن الموضوع مجرد مصادفة، أو أن الباحث يمكن له توجيه النتائج كما يريد لتأكيد وجهة نظره باختيار عينات وأمثلة محددة، واستبعاد ما يضعف بحثه وينفي وجهة نظره. كل ذلك صحيح، لكن الأصح أن هذه النسبة موجودة بالفعل، ونحن نعيشها بأنفسنا وفي كل ماحولنا، والمتأمل في هذا الكون لا يستغرب حقيقة وجود قانون واحد يرسم الصور وينسج العلاقات بين مكوناته، بل يجد من الصعوبة الاقتناع أن هذا الكون لا يُحكم بقانون؛ لأنَّ الوضع سيكون شاذاً إذا لم يكن هناك قانون يحكم أو نظام يُعمل به أصلاً؛ ولهذا وجب علينا فهمها ومن ثمّ لنا أن نعتنقها أو نعارضها أو نتجاهلها. ولا شك في إمكانية ظهور الجمال والحقيقة في نسب وصيغ رياضية أخرى، ولا يمكن معارضة أو تجاهل الأشياء والأعمال التي لم تتضمن هذه النسبة، ولكن هذا لا يعفي من التعرف على هذه النسبة كعلم يجب فهمه عملاً بمقولة أرسطاطاليس: “ليس طَلَبي العلم طَمَعاً في بلوغ قاصِيَته ولا سبيلاً إلى غايته، ولكن التماسَ ما لا يسوغ جهله ولا يحسُن بالعاقل خِلافُه“.
واستناداً لدوكزي، فإن احتمال وجود الجمال في كل شيء يعود للطبيعة هو أمر محتوم، وبعد هذا فإن المنتج الإنساني لا بد وأن يتضمن شيئاً منه، لأن الكون فطر على نسب جمالية معممة؛ ولتأييد هذا يمكن إيجاز دراسة العالِمَين “ماريو بتري” و”جيلبرت روبرتس” بجامعة نيو كاسل التي أفادت إلى أن: “القبح ينسب إلى خلل جيني”. وبالاستعارة والتعميم، فإن حالات القبح المعتمدة كظواهر تمثل خللاً جينياً إذا قورنت بالأصل.
وفي التأكيد على الجمال المتأتي من خصائص الشكل، يمكن أن نعتمد مفهوم التناسب والتناسق، فجماليات الأشكال الهندسية الخام تبدأ من الدائرة والمربع، وتتنوع في المستطيل والمثلث، وتتشعب مفاهيم الجمال في الأشكال المركبة؛ تختلف القيم الجمالية فيها باختلاف الجهد الحسي والعضلي الذي تقوم به العين لإدراك الشكل في العقل، فالعين حين تدرك الدائرة لا تلبث أن تبحث عن المركز بتأثير المخزون العلمي والثقافي في العقل، وهذا ما يمثل التوجه نحو النقاء الجمالي للشكل الدائري، وتزداد تواترات العين والمحاكاة العقلية في الأشكال الأكثر تعقيداً، ومهما وضع للجمال من مقاييس فلا بد من مراعاة تراكمات البيئة الثقافية والطبيعية للمجتمع، مضافاً إليها حقل النفسية والذوق الفردي والعام؛ وبالرغم من العولمة ومن وجود من يؤيد استعارة الجمال، إلا أن جمال الشيء في موضعه،، وجمال الموضع محدد لجمال الموضوع، فاحمرار الخد يختلف عن احمرار الأنف أو العين؛ ومن السخف الاعتقاد بوصفة الجميل في كل المواضع، فتكرار هرم “حم إيون” الخاص بـ”خوفو”، بدل أهرام أمريكا اللاتينية (كاستيللو، ونايتشس، والشمس، والقمر)، وبدل ذيقورة “أور” السومرية قرب بغداد، وبدل الأبراج في تدمرنا؛ يختصر معنى الجمال في وصفة، ويلغي العوارض الجانيية كلها.
غالباً ما ينال أحد طرفي الثنائية الوصفية اهتماماً أكثر من الآخر، فتوضع له الأسس النظرية والفلسفية والمعايير القياسية والتجريبية بشكل مترف، مع تجاهل شبه تام للطرف المقابل على أساس أنه يمثل حضوراً غير مرغوب فيه، فليس للقبح أسس ولا معايير سوى ما يخالف تلك الموجودة في علم الجمال، إلا أن البعض أتقن دراسة جانب القبح وانتقل منه إلى صناعة صور جميلة بأساليب مختلفة فمنهم من دعمه بالإغراءات التي توقظ الغرائز الدفينة، ومنهم من لازمه مع المواقف الهزلية المؤثرة التي تفلت العنان للأحاسيس الملجمة، ومنهم من استخدمه لاستجرار التعاطف، وكان الهدف من ذلك توفير جمال قسري قاصر على استخدامات القبح بعيداً عن كمال الجمال، ومنهم من استغل الجمال لإظهار القبح على شكل رعب وشر، وعليه عممت مصطلحات: “جمال القبح“، و”قبح الجمال“، وما يتفرع عنهما من تعابير.
يفترض أن نخلص من هذه المقدمة الطويلة إلى فكرة أن الجمال لا يساوي القبح، وأن أحدهما لا يمثل درجة من الآخر، والجمال والقبح قطبا ثنائية لا بد من توفرهما لفهم القيمة مدرحياً، وأن الفضيلة تمثل مركز العلاقة مابين الانتقال من مجال الجمال إلى مجال القبح، وأن الجمال مرتبط بالعادة والعرف والثقافة التي تصوغ الذوق السائد، والفضيلة شرط لمعايرة الجمال والقبح.
ثلاثية المدينة الخالدة:
وعملاً بنصيحة الجاحظ عندما يقول: “للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، وما فضل عن قدر الاحتمال، ودعا إلى الاستثقال والملال، فذلك الفاضل هو الهذر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه“، يتوقف نقاش الجمال والقبح، فما سبق قد لا يلزم فيما يأتي، وكان من المناسب أن نذكر مفهوماً آخر للجمال المتولد بتأثير الكوميديا التي يعرّفها أرسطو بأنها: “التنافر والتناقض بين الجميل و القبيح”، بمعنى الكشف النقدي للشيء ونقيضه، المرتسم في الكوميديا عن طريق الاستهجان، فتكون نتيجته الضحك، إذ تتجسد فلسفة الجمال في الكوميديا من خلال خلخلة النظام المعرفي لمرتسمات الواقع، وهذا يشكل مثيراً عاطفياً ينتج عنه الضحك الذي جسد هذا التخلخل بفرضية المغايرة، فالضحك هنا يمثل صورة نقدية مكثفة دلالياً، سيما اذا كان مستعيراً بشكل واع لمفردة “الضحك” التي تنشطر بين العقل والعاطفة، وهذا الانشطار يمثل منطقة حرجة في الكوميديا، لأن محكمات الاستجابة العاطفية في الكوميديا قد تنفلت مما يفقد المعادلة توازنها، سيما اذا ما أنسحبت العاطفة على الإدراك العقلي للواقع، وهذا الحرج في مسك المجسات العاطفية قد يتحول الموقف معها من الكوميديا إلى التراجيديا.
يبدأ جمال المدينة الخالدة من عبقرية المكان الجغرافي الطبيعي، ومن ثم ينتقل إلى نباهة سكانه في استخدام المكان وتطويعه، واستخداماتهم للنسب والمقاييس الإلهية الفطرية الطبيعية دون شذوذ في التراكيب والصور والمضمون، وتتفاوت تصنيفات الجمال في مكونات المدينة لتدل على رقي ثقافة ساكنيها ومقدار انتمائهم للمكان، فجدران دمشق تتحدث لغة بليغة قادرة على وصف وتفسير جمال العمران والتخطيط بدرجة رفيعة من الدقة، لأنها وسيلة اتصال فعالة لاستقصاء أنماط عديدة من عمليات التبليغ ونقل الأخبار والمعلومات، فللمكان لغة واصفة، تبنى على تحويل الظواهر إلى مفاهيم وتعبر عن نتائجه بطريقة العلامات التي تغدو دلائل، من خلال أنساق من الإشارات كالحجوم والفراغات والظل والنور والسطوح والزخارف والألوان تنقل صفات وظروف ما يخاطبنا؛ فأي عمل معماري أو عمراني إنما يعكس لنا الأعراف والتقاليد والحالة الاقتصادية والطرز المعمارية السائدة، ويفصح عن حجم التطور العمراني وتقنيات تنفيذه ومواد بنائه وبيئته؛ فالجدران المصمتة التي تغيب فيها النوافذ المباشرة والحارات الضيقة المتعرجة، والارتفاع المحدود للأبنية، والمواد المستخدمة في البناء؛ هي إشارات في نسق سيميائي يعبر عن إيمان السكان بضرورة الخصوصية الشخصية، ويعكس تقديرهم للأبعاد الإنسانية، ويفصح عن الإمكانيات المعمارية المتوفرة من طرز وتقنيات ومعالجات بيئية للمناخ السائد.
والنص في اللغة المعمارية ينطوي على ناتج فيزيائي مؤلف من حروف وجمل وفقرات وفصول مدعمة بحركات النصب والجر والرفع والتنوين، تبدأ بجمل اسمية ففعلية، وتخترقها جمل اعتراضية، تؤلف فيما بينها نصاً ركيكاً متكسراً شاذاً، أو متماسكاً مبنياً على أسس الطباق والسجع، أو ملحن بموسيقى القصائد والمعلقات؛ ويمكن التخاطب مع مفردة في نسق كنافذة أو باب، ويمكن مخاطبة كلمة في جملة كـ”واجهة”، ويمكن قراءة جملة كـ”محور” في حي، أو فقرة كـ”حي” في مدينة، أو أن يكون نصا كاملا كـ”المدينة” ككل. وللمدينة مظاهر جمالية عديدة تتعلق بالمشهد الطبيعي المتوفر وتنتقل إلى الأصالة في المنتج الوضعي، والجمال في المدينة موضوع استنتاجي من أمر قائم، فلا يمكن تصميمه خارج مؤثرات المكان، لأن الدلالات تنتج بالممارسة والتفاعل الفكري/ المادي، ولا يُبحث الجمال في المدينة على نطاق معماري وعمراني محدود، بل يُدرس في وضع قائم مختلط بحيث يُشكل نصاً كاملاً؛ وتتبع لغة المعمار وأسلوبه مؤثرات المكان، والفترة التي بني فيها البناء، وتمتزج العمارة مع ساكنيها في الأحياء فتعبر عن ثقافة جماعية خاصة، ومعتقدات مرتبطة بتاريخهم ، ناتجة عن تجارب الأفراد والمجتمع معاً، وتأخذ صفة الأصالة لانسجامها مع البيئة المحلية ومتطلبات الناس وتمثيل واقعهم، وينطبق هذا على أي منتج للمدينة.
واليوم تتدرج العناصر الجمالية وفق توجهات الراصد، لتنتقل ما بين النظافة وتوفر الخدمات وتناسق النسيج العمراني وأصالته، وتتجلى مظاهر القبح فيها بمواضع عديدة، أهمها تلك التي ترتبط بتوفر الإمكانيات؛ فالسكن العشوائي خارج التنظيم والمخالفات في المناطق التنظيمية يمكن أن تكون قبيحة فيما لو توفرت البدائل، وفي حال كدمشق لا يمكن تصنيفها جمالياً إلا كمنتج فطري أصيل أتى من الحاجة لمأوى بعيداً عن أنواع التخطيط والتنظيم العلمي المناسب الواجب توفره لمواكبة مستقبل أية مدينة، بل كان في سياق مؤثرات تنظيمية/ اقتصادية/ اجتماعية/ سياسية ولدت مفهوماً قيميّاً يندرج بتعبير “انسجام القبح“، يجب أن يدرس ويقيَّم ولا بأس من الحفاظ عليه، أو أجزاء منه، وسيكون يوماً بقيمة معلولا؛ لا إنقاصاً لقيمة ما نعتز به ولكن حفاظاً على حلقة من التاريخ الجمالي الذي عاشته المدينة بتأثير إبداع سكانها عند تراجع ظل تدبير إدارتها، فأي مسكن فيها نبع من ثقافة ومن حاجة ومن محدودية الإمكانات الاقتصادية، وبأسلوب يستجيب لمتطلبات الحياة ويتماشى مع البيئة والتضاريس؛ تماماً كما في الجهة الأخرى للمدينة، حيث القصور والمنازل الفارهة التي ما كانت لتختلف في النشأة عن منازل المناطق العشوائية؛ ومع نثر الاحترام للقدرة المالية لهذه الجهة، يمكن استخدام مصطلح “تناقضات الجمال” الذي يُظهر وجهاً آخر للقبح المألوف في هذه المدينة؛ ويمكن للمرء أن يجري معايرة ما بين المفهومين بنزهة قصيرة في جادات قاسيون وتراسات مشروع دمر، أو جبل الرز ويعفور؛ فليس أبلغ من جدران العمران في عمليات التبليغ ونقل أخبار الزمان.
علمياً يمكن أن نسجل الجمال لكل منتج قبيح في المدينة تضمن الفضيلة وأتى استجابة لحال السكان، ويمكن تعميم القباحة على كل ما يعتقد أنه جميل لكنه تجنب الفضيلة التي يجب أن يراعيها في المدينة وسكانها. واستناداً لتصنيفات الجمال، فإن منتج الفطرة يحتل قمة هذه المراتب، وتبدأ درجات الجمال بالدركلة حسب مقدرة الصانع وفهم المتلقي، وتخرج الأعمال عن مجال التصنيف المقارن في الصنف الواحد، عندما نجنح لـ”ثالثة” ثنائية الجمال والقبح حيث يتم تعديل المنتج من قبل صناعي آخر، فالأعمال المعدلة لا يمكن أن تصنف إلا بشكل مقارن بين قرائنه من المعدل لحدوث التزييف بعيداً عن نسخ الأصول؛ وعموماً قد لا تحتاج النسخ المجملة للتصنيف لأنها متشابهة في تعديلاتها على مقياس نسخة معيارية وحيدة، وعلى هذا فإن التجميل لن ينتج الجمال بل نماذج قد تثير الانتباه ولكنها لن تلبث أن تتعثر بمتطلبات التعديل المستمر الذي يخلف انحرافاً مشوهاً عن الأصل في الجمال والقباحة.
وعملاً بتأثير عولمة الثقافة والمال على الجمال، ونتيجة رخص أدوات الزينة وتنوعها وتوفرها على الأرصفة؛ انتقلت التدخلات على المفاهيم الجمالية من حال الرصد والمعايرة إلى مرحلة التعميم، وبدأت عمليات إجرائية لا يمكن الرجوع منها إلى الأصل الفطري، وبغض النظر عن القبح بسبب الخلل الجيني، بات القبح يأخذ معاييره مقاساً بالثقافة المعممة الوافدة بالاتصال، والجمال ينسج قدْره من توفر المال المطلوب لإجراء التجميل وفق المتطلبات الاقتصادية المنشودة التي تفوز دائماً في جولات المنافسة ضد الثقافة المحلية؛ وخير مثال على ذلك ما يدعى بعمليات الترميم والتأهيل والتوظيف التي يجريها أصحاب النزوات لمباني دمشق القديم، ويطرحونها كمخلفات لا يمكن تصنيفها في ثنائية الجمال والقبح لانتهاء المعايير التي يمكن استخدامها، فالاستثمار يتعامل مع المباني التراثية وكأنها سلعة رصيف يمكن له زيادة ثمنها بتغيير معالمها وقيمها الثقافية، أضف إلى ذلك تبدل مفاهيم كالجريمة والعقاب إلى الجريمة والثواب، والانتقال إلى مرحلة التمثيل بجثة المجنى عليها لتلائم تطلعات المستثمرين الذين لا يسعون لأي طرف من ثنائية الجمال والقبح بل ينسجون قصتهم: “الجميلة والوحوش”.
أفتى المعنيون بجواز التجميل بحكم الضرورة، وصنفوها في ثلاثة أصناف: تقويمية لإصلاح التشوهات الخلقية، وتعويضية لاستكمال النقص، وبنائية للحماية؛ ومن ثمَّ تطورت الأحكام من كثرة المفسرين، وتعممت بهمة الناقلين على جميع الحالات وتم تصنيفها في نوع آخر من المعايير فكانت بالشفط والشد، والتكبير والتصغير، والليزر والإشعاعات الكونية، والحقن والزراعة، فأنتجت أعمالاً يستحيل تصنيفها في ثنائية القبح والجمال لأنها افتقدت لمركز الفضيلة، وتاهت عن الواقعية والانتماء، فعندما يُنظر في المنتج لا يستطيع المرء أن يربطه بشيء ينتمي إليه.
زد عليه؛ أن المقتنع بالتجميل يمتلك شعور القبح، وهناك من يعتقد بتوفر الجمال ولكنه يطمح في زيادته لاستخدامه كأداة يستعين فيها على تحقيق أمنياته، وبعد التأكيد على رغبة الكسب المالي فإن الذي يجري عمليات التجميل هو مزور ينتج نماذج مخادعة للثقافة المحلية، ويعمل على تأجيج المواقف وأرجحتها بين رفض الواقع وقبول المنتج الجديد؛ ذلك الواقع الذي ورثناه بما يحمله من آثار غابرة بأحداث مرت على آبائنا وعلينا، فكل ثنية في الجبين كانت تمثل شروق شمس ربيع عام جديد تضمن فرحاً بعرس ومولود وموسم حصاد سعيد، وكل أخدودٍ مثلها تحت الحاجب كانت من وفاة جد وسفر أب واستشهاد خال ورسوب في امتحان، حتى الندب كانت لتشير إلى لعبة في الطفولة، أو صراع مع مرض، أو تحكي قصة حرب وبطولة؛ فمرور الزمن على الجمال الفطري يزيد من عناصره ويعظم معانيه؛ أما مخلفات التجميل فلن تكون سوى تراكم لقبح آثار العمليات المتتالية، وذكريات لنفسية بائسة فقدت مقومات صدق الرواية.
ويجب نقد كل من يقترح تزيين المدينة بدمامل غريبة على شكل أبراج لتحديد نقاط علام تساعده في فهم المدينة، فجلّ ما يُخشى ألا يفهمها، وبالتالي سيحتاج إلى ابتكارات أكثر من ذلك، ويجب مجابهة كل من يتعدى على تغيير ملامح الأبنية التي تشير إلى العصور وتحمل في طياتها آثاراً بقيمة ما يحمله وجه الأم من ذكريات لأبنائها، فعمليات التجميل التي تخضع لها المدينة تأخذها بعيداً عن الفضيلة والخصوصية، وتجعل منها كالمدن التي تخلت عن أصالتها في سبيل ركب حضارة العولمة فتاهت في الاستعارات ما بين المظاهر والتقنيات، فلم تصل، ولم تتمكن من العودة.
لا يوجد طفل يرى أجمل من أمه مهما كانت دمامتها، فكيف إن كانت هذه الوالدة محط أنظار نقاد الجمال؟، ولا يحق لأحد يخفي الجمال الذي يراه الابناء فيها، ولا يجوز إخضاع الوالدة لعمليات التجميل، فعلامات التقدم بالسن تزيد من قيمة الأم وجمالها، وما علينا معاملتها كأوديب الملك. ولسنا بحاجة لنوع من عمليات التجميل، ولا حتى لتعديل جيني، نحن بحاجة لنفض الغبار وإزالة البثور، فسورية ينبوع الحضارات، والسوريون رواد لا يمكن إلا أن تلحظ جمالهم، حتى في ظل عنصرية العمارة الرومانية التي كانت تعمم نماذج أبنيتها، تميزت العمارة الرومانية في سوريا عن غيرها من الأماكن، بتأثير المعماري السوري المبدع في المعالجات البيئية وفي فن نحت الحجر وتقنيات بنائه وبما يملكه من تقاليد محلية موروثة، كالذي نلاحظه في معبد جوبيتير بدمشق ومعبد بعلبك، ومدرج بصرى؛ وتجدر الإشارة إلى تأثير البعد الثقافي السوري على صناع الجمال الذين استقدموا إلى دمشق ليضيفوا إليها صنعتهم، فأعادوا صياغة علمهم، ومنهم من استقر وناسب وتوفيَ فيها، كالمعماري الاسباني “فرناندو دي أرندا” الذي دفن عام 1969 بالباب الصغير، بعد أن أضاف جمالاً على الجمال في أعمال معمارية عديدة تفتخر دمشق بها بدءاً من بناء عزت باشا العابد في مرجة دمشق إلى محطة حجازها والمبنى الأساسي لجامعة دمشق، إلى منزل عطا باي الأيوبي رئيس وزرائها.
مع كل التقدير لمشاريع التجميل التي تنجزها المدينة، وخصوصاً ما يطال الشوارع والمداخل والحدائق والواجهات، إلا أنه يجب التمييز ما بين الواجب وما بين الإنجازات الاستثنائية؛ ذلك الواجب الذي بات يسجل كإنجاز، ولو كان في حدوده الدنيا، في سجل الأشخاص وليس المؤسسات، أضف إلى ذلك اختلاف توجيه الانجازات مرحلياً بحسب التغيير الحاصل في اهتمامات المتعاقبين على تحمل مسؤولية المدينة، وكأن المؤسسة يقودها شخص حسب ما يراه أوليغاريشية المال المتنفذين في المدينة المدعومين برأي نخبة الخبراء العُقل، بعيداً عن استراتيجة علمية ثابتة ذات خطط وأولويات لا تتأثر بتغيير المدراء والموظفين. كما يجب التفريق ما بين الزينة والتجميل وصناعة الجمال، فالتجميل عبارة عن عمليات تعديل للمنتج الأصلي، وصناعة الجمال فكر ينبع من الأصالة، أما الزينة فهي للمناسبات، والمحب يتغزل بالشيب والسمرة لا بالصباغ والغندرة. وقد كان من المفيد الاهتمام بمراعاة الجوانب التخطيطية والتنظيمية للمدينة، بعيداً عن التجاوزات المقوننة المبتكرة، والحلول المرتجلة، وتفعيل دور لجان: التجميل، الواجهات، التلوث البصري، لتأخذ دورها في صناعة الجمال المستدام قبل وقوع القباحة المستشرية، وأن ينحصر دورها في معالجة ثنائية فحسب، لا في ثلاثية الجمال والقبح و”التجميح“.
نوجزها من جمال (دمعة وابتسامة) جبران الذي يؤمن بأن الجمال دين الحكماء؛
“يأيها الذين حاروا في سبيل الأديان المتشعبة……. اتخذوا من الجمال ديناً واتقوه رباً……آمنوا بألوهية جمال كان بدء استحسانكم الحياة….. توبوا إليه….. يا أيها الذين ضاعو في ليل التقولات، وغرقوا في لجج الأوهام، إن الجمال حقيقة نافية للريب، مانعة للشك، ونوراً باهراً يقيكم ظلمة البطل. تأملوا في يقظة الربيع ومجيء الصبح، إن الجمال نصيب المتأملين. اصغوا لأنغام الطيور، وحفيف الأغصان، وخرير الجدول… إن الجمال قسمة السامعين. انظروا وداعة الطفل، وظرف الشاب، وقوة الكهل، وحكمة الشيخ.. إن الجمال فتنة الناظرين…. إن الجمال يجازي المتعبدين”.