أبو خليل القباني

شهد القرن التاسع عشر نهضة موسيقية غنائية تشكل اليوم القاعدة العريضة لتراثنا، كما شهد هذا القرن الولادة الأولى للمسرح العربي في بيروت على يد مارون النقاش وفي دمشق على يد أبي خليل القباني[1] وفي حلب على يد يوسف نعمة الله جد وفي حمص على يد رضا الصافي وعبد الهادي وفائي وذلك نتيجة التماس مع الغرب والاطلاع على بعض العروض الأجنبية، لكنه وبدواعي الذائقة الشعبية الجمالية فقد نشأ المسرح في أحضان تلك النهضة الموسيقية الغنائية، فكانت تلك العروض إما أنها تنتمي إلى المسرح الغنائي بشكل ما، أو أنها تتضمن فصولاً أو فواصل غنائية ة، وإذا خلت منها فإنه يعتبر المسرحية ناقصة عنصراً هاماً، وكان أول من عمل معه في مصر الفنان المطرب عبده الحمولي ثم سلامة حجازي.

إذاً فالمسرح في دمشق بدأ مع أبي خليل القباني، ويقول الدكتور محمد يوسف نجم “فلا نعرف للتمثيل تاريخاً في سورية، قبل ظهور أحمد أبي خليل القبّاني فيها، حوالي سنة 1282ه/1865، وإن كنا نعرف أنه كان من عادة مدارس الإرساليات في القرن الماضي، أن تقدم مسرحيات عربية يمثلها الطلبة، في نهاية العام الدراسي، ولابد أن دمشق قد شهدت شيئاً من هذا التمثيل”[2]. بيد أن هذا التاريخ، أي عام 1282ه، الذي أشار له الدكتور نجم كان قد سبق إلى تحديده العلامة محمد كرد علي حين قال:”بيد أن العصر الأخير لم يَضُنُّ على الشام بتجلي الآداب الرفيعة فيه. ففي دمشق أيضاً رجلٌ من أبنائها هو السيد أحمد أبو خليل القباني، من البارزين في الموسيقى، المشهود لهم بالإجادة، فأنشأ القباني، داراً للتمثيل وبدأ يضع روايات تمثيلية وطنية من تأليفه وتلحينه ويمثلها فتجيء دهشة الأسماع والأبصار لا تقل في الإجادة من حيث موضوعها وأزياؤها ونغماتها ومناظرها عن التمثيل الجميل في الغرب… ووجه الفخر في أبي خليل أنه لم ينقل فن التمثيل عن لغة أجنبية، ولم يذهب إلى الغرب لغرض اقتباسه، بل قيل له أن في الغرب فنا هذه صورته فقلده”[3]. والنص عبارة عن شهادة اعتراف، يقدمها أحد المثقفين المتنورين في ذلك العصر، ببراعة القباني وقدرته على إجادة هذا الفن والإبداع فيه. 

ويمضي محمد كرد علي مشيداً بتجربة القباني: “ووجه الفخر في أبي خليل أنه لم ينقل فن التمثيل عن لغة أجنبية، ولم يذهب إلى الغرب لغرض اقتباسه، بل قيل له إن في الغرب فناً هذه صورته فَقَلَّدَهُ، وقيل إنه شهد رواية واحدة مُثِّلَت أمامه، ولما كانت عنده أهم أدوات التمثيل وهو الشعر والموسيقى والغناء ورأى أنه لا ينقصه إلا المظاهر والقوالب، أوجدها وأجاد في إيجادها ولذلك كان أبو خليل مؤسس التمثيل العربي[4]أدرك أبو خليل القباني هذه الحقيقة فعمل على أن تكون عروضه المسرحية جامعة بين الدراما والموسيقى والغناء. وقد اطلع على ما يستلزمه الفن المسرحي من نص وتوزيع أدوار وملابس وديكور وموسيقى مستفيداً من مشاهداته لبعض المسرحيات التي كانت تمثل في مدرسة العازارية في باب توما، والأجواق اللبنانية التي كانت تعرض في دمشق، ولاستكمال عناصر مسرحه الغنائي راح يتردد على حلب ويجتمع بفنانيها وبخاصة أحمد عقيل ليأخذ عنهم فن الموشحات ورقص السماح، فقد كان هذا الرقص التعبيري من مستلزمات المسرح الموسيقي الغنائي آنذاك، ومن المعروف أنه تعاقد مع الفنان الحلبي الشيخ صالح الجذبة لتدريب فرقته على رقص السماح والموشحات المرافقة.

 

لقد دفعه إعجابه بهذا الفن الوافد وعدم رضاه عما يقدم في خيال الظل من نصوص متدنية إلى ائتلاف بعض الأسماء من معارفه لتقديم مشاهد مسرحية في سهرات البيوت حوالي عام 1865 غير أن البداية الفعلية لأول عرض قدمه القباني هو مسرحية ناكر الجميل عام 1871م وذلك في بيت جده، ويبدو أن الوالي العثماني صبحي باشا حضر العرض فنصحه بتشكيل فرقة مسرحية وتقديم عروضه للجمهور، وهكذا وضع مسرحيته الجديدة الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح وقدمها في كازينو الطليان في محلة باب الجابية .ازداد الإقبال على مسرحه مما دعاه إلى الانتقال به إلى خان العصرونية فخان الجمرك في منتصف المدينة[5]. وقد لقي التشجيع من الولاة العثمانيين وبخاصة من الوزير المتنور ووالي دمشق مدحت باشا[6] الذي جمع للعمل المسرحي ما بين القباني واسكندر فرح ويستمر هذا التعاون بينهما ما بين عامي 1878-1880م وتلك هي الولادة الثانية لمسرح القباني وهي ولادة حقيقية فنية حظيت بدعم الوالي[7].

نجد أن مسرح القباني في شكله العام هو مسرح “الليالي“، أي المسرح الذي يستمد مادته من حكايات ألف ليلة وليلة. ولما كان الرجل من العارفين بالموسيقى والغناء العربيين، المتقنين لنظم الشعر[8]، وهي عناصر أساسية في الثقافة العربية، فقد حرص القباني بدوره، على إيجاد وسيلة أكثر نجاعة يمكنه بواسطتها شد انتباه الجمهور الدمشقي المحافظ في ذلك الوقت، إلى عروضه دون أن تفقده ممارسته لهذا الفن الجديد احترامه بين الناس وهو الشيخ الورع، شديد التدين لاسيما وأن المسرح كان في تلك الأثناء من البدع التي يجب محاربتها[9] لارتباطه في الأذهان بالخلاعة والمجون[10]. كما أدرك القباني أن مهمته صعبة، وأن ما أقدم عليه لم يكن بالأمر الهيّن، وأن نجاح تجربته رهين بنجاحه في الاقتراب من ذوق متلقيه وتكوينهم الثقافي. لذلك فقد جعل اهتمامه منصباً على بعض عناصر الثقافة العربية كالغناء والشعر والرقص وأولاها اهتماما خاصاً في مسرحه، بل جعلها في كثير من الأحيان، المبرر الأول لقيام المسرحية؛ “فقصة المسرحية عنده، كما يقول علي الراعي، تقوم أساساً كي تنشئ المواقف التي يتغنى فيها البطل أو المجموعة، أو تخلق المناسبة التي يقدم فيها الرقص”[11]. وهو ما أشار إليه أيضا محمود تيمور عندما قال: “كان أكبر ما يعنيه في التمثيل إتقان الألحان الموسيقية والغنائية والافتنان في توفير الرقصات الإيقاعية”[12].

وإلى جانب هذا فقد لجأ القباني إلى الاعتماد على المصدر الشعبي متمثلاً في حكايات ألف ليلة وليلة وغيرها من الحكايات المعروفة في التراث الشعبي العربي، خاصة إذا علمنا أن الحكايات الشعبية، عرفت انتشاراً واسعاً بين الناس في تلك الفترة، سواء كانت في شكل كتب تُتداول للقراءة أو في شكل ملاحم وسير شعبية يقوم بروايتها الشعراء الشعبيون في المقاهي[13]. وفضلا عن اختياره للمصدر الشعبي، فقد اتخذ القباني من المسرح الغنائي الشعبي قالباً لهذه القصص، مما جعل مسرحياته أقرب إلى الأوبريت منها إلى المسرحيات كما هو متعا رف عليه في عصره، فقد كان مستعداً للتضحية بالفن في مقابل إرضاء جمهوره. ولا يخفى ما يعكسه هذا الاختيار من هم البحث عن أرضية مشتركة تضمن له نجاح التواصل بينه وبين جمهوره، وهو عموماً الهدف الجوهري المسرح.

لم يجرأ القباني على تقديم عرضه الأوّل أمام الجمهور، تفادياً منه للعواقب الوخيمة التي من الممكن أن تنجر عن هذه المغامرة في مجتمع تقليدي كان يعاني من الجهل والسيطرة العثمانية، وبذلك يكون اختيار المنزل، على حد تعبير محمد مسكين، هو اختيار منطقة أمان مؤقتة، وكذلك اختيار الغربة، لأن المسرح هو فن الساحات والناس وليس فن الاختناق وراء الجدران[14]. ولئن كان القباني في أعماله المسرحية، خاصة تلك التي استمدها من حكايات “ألف ليلة وليلة”[15]، ناقلاً وفياً للمصدر الذي أخذ منه مواضيع مسرحياته سواء من حيث الشكل أو المضمون، أي أنه قرأ التراث كما قرأ حكايات ألف ليلة وليلة دون أن يعطي لنفسه فرصة إعادة صياغة هذه القصص التراثية صياغة نقدية، فإن ذلك يرجع دون شك، إلى خطورة التجربة التي أقدم عليها من جهة، والمحن التي لقيها من جراء اشتغاله بهذا الفن من جهة أخرى، الأمر الذي أملى عليه ضرورة إيجاد مسوغات منطقية تبرر اشتغاله بهذا الفن، أوّلاً، ثم محاولة إيجاد أقصر السبل وأيسرها لإرساء دعائم هذا الفن وتأصيله، ثانياً.

ولا عجب بعد ذلك، إذا لقيت عروضه إقبالاً كبيراً، ومنذ العرض الأوّل، بحيث “لم يفاجأ الجمهور الدمشقي بهذا العمل الفني الجريء[16] بقدر ما أُعجب ودهش بهذه الكوميضة (الكوميديا) المحلية يقدمها مسلم عريق”[17]. رغم أنه لم ينقله عن لغة أجنبية، ولم يذهب إلى الغرب لغرض اقتباسه كما هو الحال بالنسبة إلى مارون النقاش (1817-1855م)[18].

كما يذكر ابراهيم الكيلاني بعض الطرائف عن إقبال الناس على مسرح القباني ومنها قوله: “ولم يكد أبو خليل القباني يمثل رواياته حتى فتن بها الدمشقيون على اختلاف طبقاتهم حتى صار الباعة وصغار التجار يقتطعون أول ما يقتطعون من دخلهم اليومي أجر الدخول أو لمشاهدة (القوميضا) الكوميدي حسب اللهجة الشامية القديمة. وقد بلغ شغف العوام بالتمثيل أن أهملوا واجباتهم العائلية، وتجنبا لأخطار المرور ليلاً في الأزقة، يأتون منذ العصر، ويبيتون على أبواب المسرح حتى الصباح”[19].

ولكن هذا النجاح لم يعمر طويلاً، فيما يبدو، فقد وقفت القوى الرجعية ضد أبي خليل القباني ومسرحه، وشنت عليه حملة شعواء، خاصة بعد انتهاء ولاية مدحت باشا صاحب الأفكار الليبرالية على دمشق[20]، واتصلوا بالخليفة العثماني وحرّضوه ضد الشيخ الذي يفسد، في نظرهم، الأخلاق والدين عن طريق هذا الفن الوافد، وهو فن المسرح. لقد عزفوا على وتر الفضيلة، لأنهم يدركون جيداً أنهم إن لم يفعلوا ذلك فإن أحداً لن يصغي إليهم أبداً. كما ساءهم أن يروا الأفكار الجديدة وهي تشق طريقها إلى الناس، فتزيح تدريجيا ظلام الجهل عن عيونهم، لذلك سعوا إلى الإجهاز على تجربة القباني، حتى لا يستفحل خطرها، وكان لهم ما أرادوا، فقد أصدرت الإدارة السنية إلى حمدي باشا والي الشام بمنع أبي خليل القباني من التمثيل وإغلاق مسرحه[21].

ولكن محمد كرد علي لم يتطرق في خططه للمتاعب التي لاقاها أبو خليل القباني من بعض مشايخ دمشق وغوغائها، وما استتبع ذلك من إحراقٍ لمسرحه في خان الجمرك، ومهاجمته والتعرض له بالسباب والشتائم، بل يُصَوِّر هجرته إلى مصر كما لو كانت هجرة اختيارية إذ يقول: “ولما كان التمثيلُ عارضاً على مدينتنا رَجع القهقري بعد أبي خليل، وظل إلى يومنا هذا (أي إلى زمن تأليف الخطط عام 1296) يمشي مشيا ضعيفا كسائر مشخصاتنا. فلم تقم إلى الآن جوقة تمثيل وطنية تبث في الأمة روح الفضائل والآداب، وتأخذ من الناس بعض أوقاتهم تصرفه فيما يفيدهم[22].

ولم يقف بهم الأمر عند هذا الحد، فقد وجد خصومه الفرصة سانحة للنيل منه، فأغروا به صبية الأزقة وحفّظوهم بعض الأغاني والأشعار، ليشتموه بها، كلما قابلوه في الطريق[23]. الأمر الذي اضطره إلى الرحيل عن دمشق باتجاه مصر، حيث تابع هناك تجربته الرائدة بنجاح كبير، وبخاصة في مجال المسرح الغنائي. ويحدثنا الدكتور “محمد مندور” عن ذلك النجاح فيقول: “ولعل القباني هو صاحب الفضل في تثبيت أقدام هذا الفن في مصر، لأن فنه لقي هوى وقبولا في نفوس المصريين، وذلك لأنه لم يكن فناً تمثيلياً خالصا بل كان يجمع بين التمثيل والموسيقى والغناء. وكان القباني يجيد فني الموسيقى والغناء والتلحين والراجح أنه هو الذي بذر بذرة المسرح الغنائي في مصر ومهد الطريق للشيخ سلامة حجازي وسيد درويش وغيرهما ممن اشتغلوا بالمسرح الغنائي في مصر”.

كانت المحطة الثانية في مسيرة القباني بعد دمشق هي التي حظي فيها بدعم مُواطنه السوري التاجر سعد لله حلاّبو ورعايته له. وصل إلى الإسكندرية مع جَوْقه المؤلف من خمسين ممثلاً عام 1884م. وعلى الفور تم تجهيز قهوة الدانوب المعروفة بقهوة سليمان بك رحمي الإسكندرية لتكون المكان الذي سيستقبل أعمال القباني. وفي الأسبوع الأول من نشاطه هناك راحت فرقته تقدم كل ليلة عرضاً مسرحياً. فابتدأ اليوم بمسرحية “أنيس جليس” واليوم الثاني بمسرحية “نفح الربى” والثالث بمسرحية “عفة المحبين” والرابع بمسرحية “عنترة” والخامس بمسرحية “ناكر الجميل” واختتم القباني أسبوعه الأول بمسرحية “الخل الوفي”[24].

لقد كان المسرح، كفن، يشكل بالنسبة إلى هؤلاء الذين شرّعوا للنهضة العربية الحديثة، معلماً من معالم “الجديد” الذي يبشرون به. ويحاولون ترسيخه في مجتمعاتهم، بل هو وسيلة من الوسائل الكفيلة بتحقيق مشروع تحديثي يقوم، أساسا، على الرغبة في تأكيد الذات واللحاق بركب المدنية ولا يهم بعد ذلك، إذا لم تكن مسرحياتهم تعبر عن أفكارهم وتعكس طموحاتهم السياسية والاجتماعية. ولم ترق من الناحية الفنية، إلى مستوى الفن المسرحي الصحيح أو الحقيقي، لأن ما كان يشغلهم، في تلك الفترة بالذات، هو محاولة إرساء دعائم هذا الفن الجديد، وتجذيره في التربة العربية بأيسر السبل وأقصرها.

وبهذا فقد ارتبط شاغل التأصيل عند الرواد الأوّل، بضرورة تحقيق نوع من المواءمة بين هذا الفن الدخيل، وبين ما اعتبر مميزات الذوق العربي، وذلك من خلال إدخال تعديلات على هذا الفن تبعده، في كثير من الأحيان، عن نتاجاته التي ستتلاءم، نتيجة لهذه التعديلات، مع ميول الجماهير العربية وأذواقها. والهدف من ذلك كله هو إعطاء طابع أو صبغة عربية لهذا الفن تميزه عن غيره. ولعل في هذا الإجراء دليل واضح على الرغبة الأكيدة في تأصيل هذا الفن، وشكل من أشكال تحقيق هذا الشاغل الذي يتواتر ذكره في مختلف كتابات المسرحيين نقادا ومبدعين. يقول “سعد الله ونوس” عن مسألة التأصيل عند الرواد الأوائل: “كان الرواد الأوائل يدركون ولو فطرياً طبيعة المسرح كظاهرة اجتماعية تنشأ بين الناس، وتمتد بين صفوفهم. ولهذا فإنهم على الرغم من انطلاقهم من الصيغ الجاهزة، لم يحفظوا لها أي قدسية مدرسية. بل أخضعوها، بكثير من الذكاء ونفاذ البصيرة، إلى إحساسهم الخاص بجمهورهم، وظروف هذا الجمهور، وكذلك نوعيته ومشاكله”[25]

[1] أبو خليل القباني: ولد الرائد المسرحي أحمد أبو خليل بن محمد بن حسين آقبيق والملقب بالقباني في دمشق في حي باب سريجة سنة 1833م. في أسرة قدمت من قونية – الأناضول. وقد توفيت أمه أثناء الولادة فحضنه خاله أبو أمين النشواتي. وآقبيق تعني الشارب الأبيض. تلقى تعليمه الأولي في الكتّاب ثم في مدرسة حكومية ابتدائية ثم المساجد. وكان كثير التردد على المقاهي وحضور فصول خيال الظل للمخيلاتي حبيب في مقهى حي العمارة، كما كان يتردد على حلقات الموسيقى والإنشاد والموالد، وقد لقي هذا الاتجاه معارضة من أساتذته في حلقات التدريس .وبالرغم من أن أبا خليل ظل يعمل في قبان الأسرة ثم في معمل النشاء مع خاله إلا أنه أكب على تعلم التركية حتى أجادها، كما راح يتعلم الفارسية وهو في الثامنة عشرة من عمره. ولدت فرقته الأولى عام 1871م واستمر ست سنوات أسس بعدها فرقة ضخمة مع اسكندر فرح واستمر في العرض حتى عام 1880م حيث توقف وحطم العامة مسرحه ونهبوه بتحريض من المحافظين ذوي النفوذ الديني في عهد الوالي حمدي باشا. وبقي حتى عام 1884م متوقفاً عن العمل المسرحي وخلال ذلك التقى الفنان عبده الحمولي المصري فعرض عليه السفر إلى مصر. وما لبث القباني أن أعاد تشكيل فرقته من جديد وهاجر بها إلى مصر مستأنفاً نشاطه المسرحي إلى أن احترق مسرحه بالقاهرة عام 1890م فترك مصر بعد أن تخلى عن أرض المسرح لقاء دين عليه وعاد إلى دمشق فاتجه إلى الآستانة واتصل بالسلطان عبد الحميد بوساطة عزت باشا العابد رئيس كتاب الباب العالي وأنشد أمامه الموشحات بالتركية والعربية، فأكرمه وخصص لبناته الثلاث راتباً وتبين له أن السلطان لم يصدر أي فرمان بمنعه من التمثيل ، فاستأذنه بالسفر وعاد إلى دمشق ممنياً النفس بالعودة إلى العمل المسرحي لكنه أصيب بالطاعون وتوفي ودفن في مقبرة العائلة في باب الصغير.
[2] محمد يوسف نجم، المسرحية في الأدب العربي الحديث، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1956، ص61
[3] أحمد كرد علي، خطط الشام. ج4، المطبعة الحديثة، دمشق، سورية، 1925، ص143
[4] محمد كرد علي، خطط الشام. ج4، المطبعة الحديثة، دمشق، سورية، 1925، ص144
[5] وبدأ القباني ممارسة التمثيل في خان الكمرك المشهور الواقع في منطقة باب البريد، فكان ثمانون بالمئة من أعيان دمشق وأتباعهم يدخلون المسرح لمشاهدة التمثيل دون أن يدفعوا بَدَلَ الدخول. وكان رحمه لله يقابلهم بالبشاشة والترحاب، رغبة في تنوير الأذهان، وليعلموا أن التمثيل يدعو إلى مكارم الأخلاق والمبادئ القوم. (المصدر: محمد يوسف نجم، المسرحية في الأدب العربي الحديث، ص67)
[6] مدحت باشا: أحمد شفيق مِدحت بَاشا (1822م اسطنبول- 1884م الطائف) سياسي عثماني وإصلاحي ذو توجه موالي للغرب تولى مناصب عديدة منها الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء) ووزير العدل وخدم قبلها والياً لولاية بغداد وولاية دمشق وولاية سالونيك.
[7] علي الراعي، المسرح في الوطن العربي. عالم المعرفة، دار الوطن، الكويت، 1999، ص35
[8] سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد. دار الفكر الجديد، بيروت، لبنان، 1988، ص72
[9] لقد ورد في كتاب: “أعيان دمشق في القرن الرابع عشر” للشيخ جميل الشطي، وفي معرض حديثه عن سعيد الغب ا ر، ما مفاده أن هذا الأخير” شد الرحيل إلى دار السلطنة العثمانية لدفع وإبطال كثير من البدع التي ظهرت في دمشق، ولاسيما تمثيل الروايات التي أضرّت بالأخلاق . والأموال”، (المصدر: سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، ص65)
[10] يقول كامل الخلعي في كتابه: “الموسيقى الشرقي”: “إن وجود التمثيل في البلاد السورية مما تعافه النفوس الأبية، وتراه على الناس خطبا جليلا، ووزراً ثقيلا، لأنه يمثل على مرأى الناظرين ومسمع المتفرجين أحوال العشاق، وما يجدونه من اللذة في طيب الوصال بعد الفراق، فتطبع في الذهن سطور الصبابة والمجون، وتميل النفس إلى أنواع الغرام والشجون والتشبه بأهل الخلاعة والمجون” (المصدر: سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، ص62)
[11] علي الراعي، المسرح في الوطن العربي. عالم المعرفة، دار الوطن، الكويت، 1999، ص71
[12] عبد الرحمن ياغي، في الجهود المسرحية الإغريقية الأوروبية العربية (من النقاش إلى الحكيم). المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، 1980، ص15
[13] يشير شاكر مصطفى، في كتابه: “القصة في سوريا”، في الصفحة 43 ، إلى انتشار حكايات ألف ليلة وليلة والسير الشعبية في تلك الفترة، محصيا عدد المرات التي تم فيها طبع هذه القصص والسنوات التي طبعت فيها. (المصدر: توفيق برو، القومية العربية في القرن التاسع عشر. مطابع وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، سورية، ص144
[14] محمد مسكين، المسرح العربي الحديث بين ضياع الهوية وغياب الرؤية التاريخية، ص65
[15] على وجه الخصوص، مسرحيات: “هارون الرشيد” و”الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب” و”هارون الرشيد مع أنس الجليس”
[16] المقصود به، هنا، مسرحيته “وضّاح”، وتعد أول عرض يقدمه القباني أمام الجمهور العادي في “كازينو الطليان”، على اعتبار أن مسرحيته الأولى” ناكر الجميل” كان قد قدمها في بيت جده، واقتصرت على جمهور من الخاصة (المصدر: محمد يوسف نجم، المسرحية في الأدب العربي الحديث، ص65)
[17] سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد. دار الفكر الجديد، بيروت، لبنان، 1988، ص72
[18] مارون النقاش: ولد في صيدا عام 1817م. تلقى النقاش علومه في مدارس بيروت وعاش في منزل اشتهر رجاله بالأدب والشعر أمثال سليم النقاش ونقولا النقاش .شبَّ مارون النقاش مغرماً بالعلوم والفنون ، محباً للتأمل المنفصل ومولعاً بالنظم والآداب. زار النقاش في عام 1846م مصر وأقام فيها مدة تعرّف خلالها على كبار رجال الفكر والأدب ثم سافر الى ايطاليا وساح في أرجائها وزار معظم مسارحها وكانت لغته الفرنسية خير معين له على تفهم الحالة الأدبية والفنية فيها. فانكب على دراسة الفن المسرحي وبرع في ترجمة المسرحيات العالمية وتعلم فن الإخراج والتمثيل وألمَّ بأصول التلحين والغناء . لم تقتصر دراسته على الفنون البدائية بل تعداها الى دراسة أشهر المسرحيات التي كانت تقدم على أشهر المسارح الايطالية .عاد النقاش الى بيروت وجمع حوله نخبة من الشباب المتنورين وألف منهم فرقة مسرحية وقام بتعليمهم وتدريبهم على أصول التمثيل والغناء . وفي نهاية عام 1847م نصَّب مارون مسرحاً خشبياً في منزله المعروف باسمه في حي الجميزة ببيروت ودعا الى حفلة افتتاحه جمهرة من بني قومه وكبار الأجانب ورجال الدولة وعلى رأسهم والي بيروت التركي، وقامت الفرقة بتمثيل مسرحية (البخيل) التي اقتبسها عن مسرحية بالاسم نفسه للكاتب المسرحي الفرنسي موليير. أعجب الحاضرون بمسرحية البخيل وتابعوها بلهفة وبهجة، وكثيراً ما قُطع التمثيل بالتصفيق والهتاف وفي ختام المسرحية تلقى النقاش وفرقته المسرحية الثناء العاطر والمديح الجزيل .لقد حفّز النجاح الذي لقيته مسرحية البخيل النقاش على متابعة نشاطه المسرحي. فانكب على المسرحيات الغربية كما حاول أن يقرأ قصص ألف ليلة وليلة والتراث العربي. وفي 13 كانون الثاني من عام 1850 قدّم في بيته مسرحيته الثانية أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد التي اقتبسها من حكاية الليلة الثالثة والخمسين بعد المئة من قصص ألف ليلة وليلة وقدمها أفراد من عائلته وأصدقائه يتقدمهم بشارة مرزا وعبد الله كميت وسعد الله البستاني، ودعا اليها والي بيروت ونخبة من رجال الدولة العثمانية الذين كانوا في بيروت آنذاك ، كما دعا اليها قناصل الدول الأجنبية ووجوه البلدة. كوفئ النقاش وفرقته بالهتاف والتصفيق وفي ختام المسرحية رشق الجمهور الممثلين بالورد .وبعد أن لاقت المسرحيتان النجاح كوفئ النقاش بإصدار فرمان عالٍ يسمح له بإنشاء مسرح بجوار بيته ، وقد شهد هذا المسرح عرض مسرحيته الثالثة والأخيرة الحسود السليط التي قدمت في عام 1853م .وفي التاسع عشر من شهر أيلول عام 1854م سافر النقاش الى طرطوس في رحلة تجارية مكث فيها ثمانية أشهر ، وفي أواخر عام 1855م أصابته حمى شديدة أودت بحياته في أول حزيران من ذلك العام .
[19] ابراهيم الكيلاني، أبو خليل القباني المعلم العربي. مجلة العربي، ع 1، كانون الثاني 1948 ، ص48
[20] لقي القباني التشجيع من الولاة العثمانيين وبخاصة من الوزير المتنور ووالي دمشق مدحت باشا الذي جمع للعمل المسرحي ما بين القباني واسكندر فرح ويستمر هذا التعاون بينهما ما بين عامي 1878-1880م وتلك هي الولادة الثانية لمسرح القباني وهي ولادة حقيقية فنية حظيت بدعم الوالي حيث قدم للفرقة منحة من صندوق البلدية تقدر بتسعمائة ليرة ذهبية تم فيها تجهيز المسرح وتقديم مسرحية عائدة. ثم قدمت الفرقة مسرحية الشاه محمود، وقد أغرى نجاح أعمال الفرقة القباني فباع أملاكاً له في جديدة عرطوز مع القبان الذي يملكه ليصرف ذلك في تأسيس مسرح فني بلغت تكاليفه ألفي ليرة عثمانية. ، ومن المعروف أن مدحت باشا حين طلب منه تمثيل رواية شرح له القباني ما يحتاجه المسرح من ملابس وتشكيل مناظر وأكسسوارات وتقنيات أخرى فأعطاه 900 ليرة ذهبية. (المصدر: أدهم الجندي، العبقرية الشامخة.. أبو خليل القباني، جريدة الفيحاء السورية، 1952. ص6
[21] ابراهيم الكيلاني، أبو خليل القباني المعلم العربي. مجلة العربي، ع 1، كانون الثاني 1948 ، ص50
[22] محمد كرد علي، خطط الشام. ج4، المطبعة الحديثة، دمشق، سورية، 1925، ص144
[23] محمد يوسف نجم، المسرحية في الأدب العربي الحديث، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1956، ص70
[24] ابراهيم الكيلاني، أبو خليل القباني المعلم العربي. مجلة العربي، ع 1، كانون الثاني 1948 ، ص55
[25] سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد. دار الفكر الجديد، بيروت، لبنان، 1988، ص30