- info@damascus-heritage.org
شهد القرن التاسع عشر نهضة موسيقية غنائية تشكل اليوم القاعدة العريضة لتراثنا، كما شهد هذا القرن الولادة الأولى للمسرح العربي في بيروت على يد مارون النقاش وفي دمشق على يد أبي خليل القباني[1] وفي حلب على يد يوسف نعمة الله جد وفي حمص على يد رضا الصافي وعبد الهادي وفائي وذلك نتيجة التماس مع الغرب والاطلاع على بعض العروض الأجنبية، لكنه وبدواعي الذائقة الشعبية الجمالية فقد نشأ المسرح في أحضان تلك النهضة الموسيقية الغنائية، فكانت تلك العروض إما أنها تنتمي إلى المسرح الغنائي بشكل ما، أو أنها تتضمن فصولاً أو فواصل غنائية ة، وإذا خلت منها فإنه يعتبر المسرحية ناقصة عنصراً هاماً، وكان أول من عمل معه في مصر الفنان المطرب عبده الحمولي ثم سلامة حجازي.
إذاً فالمسرح في دمشق بدأ مع أبي خليل القباني، ويقول الدكتور محمد يوسف نجم “فلا نعرف للتمثيل تاريخاً في سورية، قبل ظهور أحمد أبي خليل القبّاني فيها، حوالي سنة 1282ه/1865، وإن كنا نعرف أنه كان من عادة مدارس الإرساليات في القرن الماضي، أن تقدم مسرحيات عربية يمثلها الطلبة، في نهاية العام الدراسي، ولابد أن دمشق قد شهدت شيئاً من هذا التمثيل”[2]. بيد أن هذا التاريخ، أي عام 1282ه، الذي أشار له الدكتور نجم كان قد سبق إلى تحديده العلامة محمد كرد علي حين قال:”بيد أن العصر الأخير لم يَضُنُّ على الشام بتجلي الآداب الرفيعة فيه. ففي دمشق أيضاً رجلٌ من أبنائها هو السيد أحمد أبو خليل القباني، من البارزين في الموسيقى، المشهود لهم بالإجادة، فأنشأ القباني، داراً للتمثيل وبدأ يضع روايات تمثيلية وطنية من تأليفه وتلحينه ويمثلها فتجيء دهشة الأسماع والأبصار لا تقل في الإجادة من حيث موضوعها وأزياؤها ونغماتها ومناظرها عن التمثيل الجميل في الغرب… ووجه الفخر في أبي خليل أنه لم ينقل فن التمثيل عن لغة أجنبية، ولم يذهب إلى الغرب لغرض اقتباسه، بل قيل له أن في الغرب فنا هذه صورته فقلده”[3]. والنص عبارة عن شهادة اعتراف، يقدمها أحد المثقفين المتنورين في ذلك العصر، ببراعة القباني وقدرته على إجادة هذا الفن والإبداع فيه.
ويمضي محمد كرد علي مشيداً بتجربة القباني: “ووجه الفخر في أبي خليل أنه لم ينقل فن التمثيل عن لغة أجنبية، ولم يذهب إلى الغرب لغرض اقتباسه، بل قيل له إن في الغرب فناً هذه صورته فَقَلَّدَهُ، وقيل إنه شهد رواية واحدة مُثِّلَت أمامه، ولما كانت عنده أهم أدوات التمثيل وهو الشعر والموسيقى والغناء ورأى أنه لا ينقصه إلا المظاهر والقوالب، أوجدها وأجاد في إيجادها ولذلك كان أبو خليل مؤسس التمثيل العربي“[4]. أدرك أبو خليل القباني هذه الحقيقة فعمل على أن تكون عروضه المسرحية جامعة بين الدراما والموسيقى والغناء. وقد اطلع على ما يستلزمه الفن المسرحي من نص وتوزيع أدوار وملابس وديكور وموسيقى مستفيداً من مشاهداته لبعض المسرحيات التي كانت تمثل في مدرسة العازارية في باب توما، والأجواق اللبنانية التي كانت تعرض في دمشق، ولاستكمال عناصر مسرحه الغنائي راح يتردد على حلب ويجتمع بفنانيها وبخاصة أحمد عقيل ليأخذ عنهم فن الموشحات ورقص السماح، فقد كان هذا الرقص التعبيري من مستلزمات المسرح الموسيقي الغنائي آنذاك، ومن المعروف أنه تعاقد مع الفنان الحلبي الشيخ صالح الجذبة لتدريب فرقته على رقص السماح والموشحات المرافقة.
لقد دفعه إعجابه بهذا الفن الوافد وعدم رضاه عما يقدم في خيال الظل من نصوص متدنية إلى ائتلاف بعض الأسماء من معارفه لتقديم مشاهد مسرحية في سهرات البيوت حوالي عام 1865 غير أن البداية الفعلية لأول عرض قدمه القباني هو مسرحية ناكر الجميل عام 1871م وذلك في بيت جده، ويبدو أن الوالي العثماني صبحي باشا حضر العرض فنصحه بتشكيل فرقة مسرحية وتقديم عروضه للجمهور، وهكذا وضع مسرحيته الجديدة الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح وقدمها في كازينو الطليان في محلة باب الجابية .ازداد الإقبال على مسرحه مما دعاه إلى الانتقال به إلى خان العصرونية فخان الجمرك في منتصف المدينة[5]. وقد لقي التشجيع من الولاة العثمانيين وبخاصة من الوزير المتنور ووالي دمشق مدحت باشا[6] الذي جمع للعمل المسرحي ما بين القباني واسكندر فرح ويستمر هذا التعاون بينهما ما بين عامي 1878-1880م وتلك هي الولادة الثانية لمسرح القباني وهي ولادة حقيقية فنية حظيت بدعم الوالي[7].
نجد أن مسرح القباني في شكله العام هو مسرح “الليالي“، أي المسرح الذي يستمد مادته من حكايات ألف ليلة وليلة. ولما كان الرجل من العارفين بالموسيقى والغناء العربيين، المتقنين لنظم الشعر[8]، وهي عناصر أساسية في الثقافة العربية، فقد حرص القباني بدوره، على إيجاد وسيلة أكثر نجاعة يمكنه بواسطتها شد انتباه الجمهور الدمشقي المحافظ في ذلك الوقت، إلى عروضه دون أن تفقده ممارسته لهذا الفن الجديد احترامه بين الناس وهو الشيخ الورع، شديد التدين لاسيما وأن المسرح كان في تلك الأثناء من البدع التي يجب محاربتها[9] لارتباطه في الأذهان بالخلاعة والمجون[10]. كما أدرك القباني أن مهمته صعبة، وأن ما أقدم عليه لم يكن بالأمر الهيّن، وأن نجاح تجربته رهين بنجاحه في الاقتراب من ذوق متلقيه وتكوينهم الثقافي. لذلك فقد جعل اهتمامه منصباً على بعض عناصر الثقافة العربية كالغناء والشعر والرقص وأولاها اهتماما خاصاً في مسرحه، بل جعلها في كثير من الأحيان، المبرر الأول لقيام المسرحية؛ “فقصة المسرحية عنده، كما يقول علي الراعي، تقوم أساساً كي تنشئ المواقف التي يتغنى فيها البطل أو المجموعة، أو تخلق المناسبة التي يقدم فيها الرقص”[11]. وهو ما أشار إليه أيضا محمود تيمور عندما قال: “كان أكبر ما يعنيه في التمثيل إتقان الألحان الموسيقية والغنائية والافتنان في توفير الرقصات الإيقاعية”[12].
وإلى جانب هذا فقد لجأ القباني إلى الاعتماد على المصدر الشعبي متمثلاً في حكايات ألف ليلة وليلة وغيرها من الحكايات المعروفة في التراث الشعبي العربي، خاصة إذا علمنا أن الحكايات الشعبية، عرفت انتشاراً واسعاً بين الناس في تلك الفترة، سواء كانت في شكل كتب تُتداول للقراءة أو في شكل ملاحم وسير شعبية يقوم بروايتها الشعراء الشعبيون في المقاهي[13]. وفضلا عن اختياره للمصدر الشعبي، فقد اتخذ القباني من المسرح الغنائي الشعبي قالباً لهذه القصص، مما جعل مسرحياته أقرب إلى الأوبريت منها إلى المسرحيات كما هو متعا رف عليه في عصره، فقد كان مستعداً للتضحية بالفن في مقابل إرضاء جمهوره. ولا يخفى ما يعكسه هذا الاختيار من هم البحث عن أرضية مشتركة تضمن له نجاح التواصل بينه وبين جمهوره، وهو عموماً الهدف الجوهري المسرح.
لم يجرأ القباني على تقديم عرضه الأوّل أمام الجمهور، تفادياً منه للعواقب الوخيمة التي من الممكن أن تنجر عن هذه المغامرة في مجتمع تقليدي كان يعاني من الجهل والسيطرة العثمانية، وبذلك يكون اختيار المنزل، على حد تعبير محمد مسكين، هو اختيار منطقة أمان مؤقتة، وكذلك اختيار الغربة، لأن المسرح هو فن الساحات والناس وليس فن الاختناق وراء الجدران[14]. ولئن كان القباني في أعماله المسرحية، خاصة تلك التي استمدها من حكايات “ألف ليلة وليلة”[15]، ناقلاً وفياً للمصدر الذي أخذ منه مواضيع مسرحياته سواء من حيث الشكل أو المضمون، أي أنه قرأ التراث كما قرأ حكايات ألف ليلة وليلة دون أن يعطي لنفسه فرصة إعادة صياغة هذه القصص التراثية صياغة نقدية، فإن ذلك يرجع دون شك، إلى خطورة التجربة التي أقدم عليها من جهة، والمحن التي لقيها من جراء اشتغاله بهذا الفن من جهة أخرى، الأمر الذي أملى عليه ضرورة إيجاد مسوغات منطقية تبرر اشتغاله بهذا الفن، أوّلاً، ثم محاولة إيجاد أقصر السبل وأيسرها لإرساء دعائم هذا الفن وتأصيله، ثانياً.
ولا عجب بعد ذلك، إذا لقيت عروضه إقبالاً كبيراً، ومنذ العرض الأوّل، بحيث “لم يفاجأ الجمهور الدمشقي بهذا العمل الفني الجريء[16] بقدر ما أُعجب ودهش بهذه الكوميضة (الكوميديا) المحلية يقدمها مسلم عريق”[17]. رغم أنه لم ينقله عن لغة أجنبية، ولم يذهب إلى الغرب لغرض اقتباسه كما هو الحال بالنسبة إلى مارون النقاش (1817-1855م)[18].
كما يذكر ابراهيم الكيلاني بعض الطرائف عن إقبال الناس على مسرح القباني ومنها قوله: “ولم يكد أبو خليل القباني يمثل رواياته حتى فتن بها الدمشقيون على اختلاف طبقاتهم حتى صار الباعة وصغار التجار يقتطعون أول ما يقتطعون من دخلهم اليومي أجر الدخول أو لمشاهدة (القوميضا) الكوميدي حسب اللهجة الشامية القديمة. وقد بلغ شغف العوام بالتمثيل أن أهملوا واجباتهم العائلية، وتجنبا لأخطار المرور ليلاً في الأزقة، يأتون منذ العصر، ويبيتون على أبواب المسرح حتى الصباح”[19].
ولكن هذا النجاح لم يعمر طويلاً، فيما يبدو، فقد وقفت القوى الرجعية ضد أبي خليل القباني ومسرحه، وشنت عليه حملة شعواء، خاصة بعد انتهاء ولاية مدحت باشا صاحب الأفكار الليبرالية على دمشق[20]، واتصلوا بالخليفة العثماني وحرّضوه ضد الشيخ الذي يفسد، في نظرهم، الأخلاق والدين عن طريق هذا الفن الوافد، وهو فن المسرح. لقد عزفوا على وتر الفضيلة، لأنهم يدركون جيداً أنهم إن لم يفعلوا ذلك فإن أحداً لن يصغي إليهم أبداً. كما ساءهم أن يروا الأفكار الجديدة وهي تشق طريقها إلى الناس، فتزيح تدريجيا ظلام الجهل عن عيونهم، لذلك سعوا إلى الإجهاز على تجربة القباني، حتى لا يستفحل خطرها، وكان لهم ما أرادوا، فقد أصدرت الإدارة السنية إلى حمدي باشا والي الشام بمنع أبي خليل القباني من التمثيل وإغلاق مسرحه[21].
ولكن محمد كرد علي لم يتطرق في خططه للمتاعب التي لاقاها أبو خليل القباني من بعض مشايخ دمشق وغوغائها، وما استتبع ذلك من إحراقٍ لمسرحه في خان الجمرك، ومهاجمته والتعرض له بالسباب والشتائم، بل يُصَوِّر هجرته إلى مصر كما لو كانت هجرة اختيارية إذ يقول: “ولما كان التمثيلُ عارضاً على مدينتنا رَجع القهقري بعد أبي خليل، وظل إلى يومنا هذا (أي إلى زمن تأليف الخطط عام 1296) يمشي مشيا ضعيفا كسائر مشخصاتنا. فلم تقم إلى الآن جوقة تمثيل وطنية تبث في الأمة روح الفضائل والآداب، وتأخذ من الناس بعض أوقاتهم تصرفه فيما يفيدهم“[22].
ولم يقف بهم الأمر عند هذا الحد، فقد وجد خصومه الفرصة سانحة للنيل منه، فأغروا به صبية الأزقة وحفّظوهم بعض الأغاني والأشعار، ليشتموه بها، كلما قابلوه في الطريق[23]. الأمر الذي اضطره إلى الرحيل عن دمشق باتجاه مصر، حيث تابع هناك تجربته الرائدة بنجاح كبير، وبخاصة في مجال المسرح الغنائي. ويحدثنا الدكتور “محمد مندور” عن ذلك النجاح فيقول: “ولعل القباني هو صاحب الفضل في تثبيت أقدام هذا الفن في مصر، لأن فنه لقي هوى وقبولا في نفوس المصريين، وذلك لأنه لم يكن فناً تمثيلياً خالصا بل كان يجمع بين التمثيل والموسيقى والغناء. وكان القباني يجيد فني الموسيقى والغناء والتلحين والراجح أنه هو الذي بذر بذرة المسرح الغنائي في مصر ومهد الطريق للشيخ سلامة حجازي وسيد درويش وغيرهما ممن اشتغلوا بالمسرح الغنائي في مصر”.
كانت المحطة الثانية في مسيرة القباني بعد دمشق هي التي حظي فيها بدعم مُواطنه السوري التاجر سعد لله حلاّبو ورعايته له. وصل إلى الإسكندرية مع جَوْقه المؤلف من خمسين ممثلاً عام 1884م. وعلى الفور تم تجهيز قهوة الدانوب المعروفة بقهوة سليمان بك رحمي الإسكندرية لتكون المكان الذي سيستقبل أعمال القباني. وفي الأسبوع الأول من نشاطه هناك راحت فرقته تقدم كل ليلة عرضاً مسرحياً. فابتدأ اليوم بمسرحية “أنيس جليس” واليوم الثاني بمسرحية “نفح الربى” والثالث بمسرحية “عفة المحبين” والرابع بمسرحية “عنترة” والخامس بمسرحية “ناكر الجميل” واختتم القباني أسبوعه الأول بمسرحية “الخل الوفي”[24].
لقد كان المسرح، كفن، يشكل بالنسبة إلى هؤلاء الذين شرّعوا للنهضة العربية الحديثة، معلماً من معالم “الجديد” الذي يبشرون به. ويحاولون ترسيخه في مجتمعاتهم، بل هو وسيلة من الوسائل الكفيلة بتحقيق مشروع تحديثي يقوم، أساسا، على الرغبة في تأكيد الذات واللحاق بركب المدنية ولا يهم بعد ذلك، إذا لم تكن مسرحياتهم تعبر عن أفكارهم وتعكس طموحاتهم السياسية والاجتماعية. ولم ترق من الناحية الفنية، إلى مستوى الفن المسرحي الصحيح أو الحقيقي، لأن ما كان يشغلهم، في تلك الفترة بالذات، هو محاولة إرساء دعائم هذا الفن الجديد، وتجذيره في التربة العربية بأيسر السبل وأقصرها.
وبهذا فقد ارتبط شاغل التأصيل عند الرواد الأوّل، بضرورة تحقيق نوع من المواءمة بين هذا الفن الدخيل، وبين ما اعتبر مميزات الذوق العربي، وذلك من خلال إدخال تعديلات على هذا الفن تبعده، في كثير من الأحيان، عن نتاجاته التي ستتلاءم، نتيجة لهذه التعديلات، مع ميول الجماهير العربية وأذواقها. والهدف من ذلك كله هو إعطاء طابع أو صبغة عربية لهذا الفن تميزه عن غيره. ولعل في هذا الإجراء دليل واضح على الرغبة الأكيدة في تأصيل هذا الفن، وشكل من أشكال تحقيق هذا الشاغل الذي يتواتر ذكره في مختلف كتابات المسرحيين نقادا ومبدعين. يقول “سعد الله ونوس” عن مسألة التأصيل عند الرواد الأوائل: “كان الرواد الأوائل يدركون ولو فطرياً طبيعة المسرح كظاهرة اجتماعية تنشأ بين الناس، وتمتد بين صفوفهم. ولهذا فإنهم على الرغم من انطلاقهم من الصيغ الجاهزة، لم يحفظوا لها أي قدسية مدرسية. بل أخضعوها، بكثير من الذكاء ونفاذ البصيرة، إلى إحساسهم الخاص بجمهورهم، وظروف هذا الجمهور، وكذلك نوعيته ومشاكله”[25]