- info@damascus-heritage.org
أبو صبحي التيناوي: اسمه الحقيقي محمد حرب، لقب بالتيناوي نسبة إلى زوج أمه، ولد في دمشق عام 1888م وتوفي فيها عام 1973م، نال من الشهرة والاهتمام ما لم ينله فنان تشكيلي سوري معاصر، على الرغم من أميّته، وعدم التحاقه بمعهد للدراسة، والتزامه البقاء في مسقط رأسه. وكأيّ طفلٍ عاش في بيت دمشقيّ قديم، شكّل الجمال جزءاً كبيراً من حياته، يحيط به في ليوان البيت وأسقفه المزخرفة بمنتهى الدّقة والحرفيّة، وفي أشجار النارنج تملأ باحة الدار. كلّ هذا الجمال إضافةً إلى ممارسة أبيه مهنة الرسم الشعبيّ جعله أليفاً مع الرسم، وخاصة أنّ أباه أحال إليه دوماً مهمّة تلوين وزركشة لوحاته بعد أن يفرغ من رسم ملامحها وخطوطها الأساسيّة.
وبعد أنّ شبّ عوده، صار يعمل في دكّان أبيه ويقوم بتنفيذ رسوماته الشعبيّة الخاصّة به والتي استوحاها من قصص الحكواتي وعالم الخيال والسير، ليستقلَّ بعدها في دكان خاص به ويوقِّع أعماله باسم “أبو صبحي التيناوي” الاسم الذي كنّاه به أبوه منذ طفولته، الأمر الذي كان عادةً منتشرة ومحبّبة لدى الدمشقيين القدماء؛ تأثر التيناوي بالقصص الشفوية وقصص الحكواتي الذي كان ركناً مهماً من أركان المقهى الشعبي في الحياة الدمشقية. وقد جسّد التيناوي تلك الحكايا وخاصة عنترة وعبلة لما مثلته من أهمية بالوجدان الشعبي كمثال للمروءة والشجاعة، فصوّره التيناوي ببشرة داكنة وشوارب طويلة مع رمحه وسيفه.
بدأ أبو صبحي التيناوي بالرسم على الورق الأسمر، لينتقل فيما بعد إلى الرسم على القماش، ومنه إلى الرسم على الزجاج، لتتجلَّى براعته في أبهى صورها خلال هذه المرحلة، فبعد أن يترك الألوان- التي صنعها بنفسه لعدم وجود ألوان صناعيّة وجاهزة وقتها- تجفّ على لوح الزجاج، كان يقلِّبها ويؤطِّرها بإطار من الخشب؛ يأتي اللون مسطحاً بدون تدرجات حيث يعمل من دون التفكير بالضوء أو التجسيم، وأيضاً من دون الاهتمام بالبعد الثالث. ترتكز شخوصه عموماً على أشكال نباتية أسفل اللوحة كنوع من استقرار الشكل، ويأتي الفراغ المحيط مسطحاً مع إدخال كتابة عفوية لها علاقة بالموضوع المرسوم. ويضيف أحياناً عناصر نباتية لإقامة نوع من التوازن، وأخذت عبلة تكوينات مختلفة تتغير تعابير الوجه لكليهما وأيضاً حركة الأحصنة وكأنها ترقص.
أقيمت لأعماله معارض كثيرة، في بعض المدن في الشرق وفي الغرب، وصار الطلب على رسومه في أواخر أيامه يفوق طاقته، فاضطر إلى تجنيد أفراد أسرته كافة لمساعدته في إنجاز رسومه. وكان التيناوي يرى في رسومه وتقانته سراً مقدساً لا يجوز البوح به أو التعرض له والحديث عنه، ويجد في المعارض التي تقام لأعماله الفنية في الخارج أمراً لا يعنيه، مادام قد قبض ثمن لوحاته، وكان يؤمن بأن تقليد رسومه ونسخها في سورية وفي بعض الدول العربية أمر متعذر إن لم يكن مستحيلاً، كما أن الراغبين في اقتناء أعماله يعرفون توقيعه: الرسام أبو صبحي التيناوي ـ باب الجابية ـ زاوية الهنود ـ دمشق ـ سورية.
أما في ما يخص التلوين فيقول ابنه: كان يذيب مسحوق الألوان بالماء والصمغ العربي، ويزيل المواد الدهنية عن سطح الزجاج بواسطة البصل، ويستعمل مادة السكر. وثمة قصة طريفة يرويها ابنه: إن والده صور مرة عنترة على ظهر جواده، ولكن مساحة اللوحة لم تتسع لرسم الحصان كاملاً، فاضطر لأن يرسم ذيل الجواد الناقص في أعلى اللوحة منفصلاً عن الجسد، وكتب بجانبه : “هذا الذيل لهذا الحصان”. لقد كان التيناوي من دون أن يدري يقوم بعمل خلّاق أدركه الغرب من خلال شراء لوحاته من قبل اللبنانيين في بادئ الأمر إلى أن نظمت له معارض في لبنان وأوروبا وهو أول فنان عربي يشارك مع بيكاسو في معرض نظّمته مقتنية فرنسية. كما له عمل في متحف اللوفر، يضاف إلى ذلك توفر ما يقارب العشرين لوحة للفنان التيناوي في متحف التقاليد الشعبية في دمشق جمعها أمين المتحف شفيق إمام عام 1955م، كما أنتجت المؤسسة العامة للسينما فيلمًا قصيرًا عنه من تأليف عبد العزيز علون وإخراج وديع يوسف[1].
ارتبطت رسوم التيناوي ارتباطاً وثيقاً بالثورة السورية، فوصلت أعماله إلى حمص وانتشرت بين الثوار، وانعكست في تصرفاتهم وهندامهم وزينتهم، إذ كان أبو زيد الهلالي وعنتر بن شداد والزير سالم، أبطالاً سكنوا ضمائرهم فاقتدوا بهم. وتجسدت في رسوم التيناوي القيم الشعبية الأصيلة النبيلة، بتلقائية في الرسم واللون خرجت عن المألوف، واقتصرت موضوعات في البداية على شخصيات مثل أبو زيد الهلالي وعنتر وعبلة والإمام علي وعمر بن ود العامري والزير سالم وذياب بن غانم والزيناتي خليفة والنبي داود وابنه سليمان والنبي الخضر والنبي إبراهيم الخليل والظاهر بيبرس، ثم دخلت إلى رسومه موضوعات جديدة مثل الذئب والراعي وسفينة نوح، مما يؤكد أن التيناوي كان يستوحي ولا ينقل، ويبتكر ولا يقلد. وهو، إلى جانب كونه رساماً شعبياً، فنان بدائي وشعبي معاصر ارتبط بمصدر تاريخي مغرق في القدم، وبقي، مع شعبيته وبدائيته، متفاعلاً مع كل شيء يراه ويسمعه، ومحافظاً على نكهة الشرق المطعمة بالغرابة، تلك الروح التي تقرب ما بين أسلوبه وأسلوب المخطوطات القديمة مثل كليلة ودمنة ومقامات الحريري، وبعض النوادر القديمة ومصادر الفن الشعبي العربي عموماً[2].
وأهمية أعمال أبي صبحي التيناوي، لا تكمن فقط باسترجاع الحكايات الشعبية، وإنما في استعادتها لقيم تشكيلية وتقنية فطرية، حققت استمرارية، وسط التراكمات الثقافية، التي عرفتها فنون القرن العشرين، ويمكن القول: إن الرسم الفطري الشعبي، تأسس على أساليب وتقنيات سبقت مجيء كبار الفنانين المحدثين في أوروبا بقرون، وبالتالي فأبو صبحي التيناوي كان يقدم في لوحاته، خلاصة بحوثه التقنية وعلى الطريقة التقليدية، مبتعداً عن غير قصد، عن التأثيرات الفنية الاوروبية، التي تركت تأثيراتها المباشرة والواضحة على أعمال مجمل أبناء جيله من الفنانين السوريين والعرب المحدثين. فمن أبرز سمات الفنان الفطري، أنه لم يدرس الفن وهو لا يلتفت، عن غير قصد، لما يجري حوله من تجارب فنية حديثة، وقد يكون أمياً أحياناً، ودون أي ثقافة فنية تذكر، ولهذا فهو يغرد خارج سرب الحداثة وحيداً، ويرسم دون أي تأثيرات تقنية أو تشكيلية، وعلى الطريقة التي كان يرسم بها الفنان الشعبي في الماضي؛ وتفيد الاشارة الى أن كل انقلابات الفنية الحديثة، التي حدثت في باريس في نهاية القرن التاسع عشر (ولا سيما المدرسة الوحشية) استفادت إلى حد بعيد من رمزية الألوان الفطرية العفوية المجسدة في الرسوم الشعبية العربية، التي عرفتها أجواء المقاهي والمسارح والصالونات الفسيحة منذ قرون[3].