- info@damascus-heritage.org
بلغ عدد المقاهي/110/مائة وعشرة مقاهي في جميع انحاء دمشق ،حيث كانت تسمى إلى ذلك الوقت “بيت القهوة” ، وأشهر بيوت القهوة هي :قهوة السكرية في باب الجابية وقهوة اللحامين بالقرب منها ، وقهوة الدرويشية وقهوة العصرونية وقهوة المناخلية وقهوة الجنينة بسوق الخيل ،وقهاوي العمارة وقهوة الجاويش في القيمرية وقهوة الرطل في باب توما وقهوة باب السلام[1]. على أن أكثر المقاهي اتساعا وانشراحا ما كان منها في المرجة ، ففي فصل الصيف تتسع ل 400-500 شخص تظللها أغصان وارفة ، وكان منها قسمان قسم صيفي والآخر شتوي ، ومنها ما كان يقع في جزر صغيرة كونها النهر ويعبر إليها على جسور .
وكان يرتاد هذه المقاهي عدد كبير من الأتراك يجلسون فيها ليتمتعوا بالخضرة والماء. إذ يشير ميخائيل الدمشقي إلى مقهى الدرويشية في سياق الأحداث التي جرت بدمشق عام 1228ه/ 1813م[2].الصورة رقم (2-11). ويذكر صاحب مذكرات تاريخية عن حقبة حكم إبراهيم باشا المصري (1830-1840م) وجود ثلاث مقاه فيقول:”تشرب فيها الخمرة والنبيذ وهي قهوة علي منين وقهوة باب شرقي وقهوة باب توما”[3]؛ ويشار ما بين عامي 1827-1830م إلى مقهيين آخرين أحدهما وقف لمتنفذ عسكري هو حسن تركمان كتخدا، ويقع في زقاق الوسطاني، والثاني في زقاق بادر في حي الميدان. وكان مقهى العصرونية قد بني في مطلع سبعينبات القرن التاسع عشر[4].
وفي عام 1867م وضع نعمان قساطلي (ت1338هـ/1920م) كتابه “الروضة الغناء في دمشق الفيحاء”، وهو حين يتحدث عن المقاهي يشير إلى وجود مقاهً كازينوهات، ويحددها في سوق الخيل والمرجة الصوفانية خارج باب توما، كما نرى في الصورة رقم(2-12). ويبين قساطلي في نصه أسعار القهوة وطبيعة المقهى الذي عبر عنه كمرفق عام، فقد تجاوز حدود التسلية في كونه مكاناً ضابطاً للهيئة الاجتماعية، ومكاناً لاجتماع الفتوة والعسكر وهو مجال رحب لاستعراض القوة، إذ يقول: “وثمن فنجان القهوة عشرون بارة في بعض القهاوي وعشر بارات في البقية، وفي سنة 1872م تجددت مقاهٍ كثيرة في المرجة فصار الناس يجتمعون بها ليلاً نهاراً في الفصول الثلاثة ، وكان للقهاوي اعتبار كلي في الأيام السالفة لأن جماعة الانكشارية كانوا يجتمعون بها ويصورون عددهم الحربية وكانوا يعتبرون تلك الصور كراية يحامون عنها، فكان من قتل قتيلاً ووصل إلى وجاق القهوة سلم”[5].
ويشير محمد سعيد القاسمي (ت1284هـ/1876م) إلى حال المقاهي وانتشارها وأنواع الخدمات التي تقدم فيها والأشربة ووجوه التسلية في أحياء دمشق، فيقول: “كل محلة لا تخلو من عدة قهاوي، والقهاوي التي ضمن البلدة يكون رواجها كثيراً في الشتاء، وفي فصل الصيف غالب الأهالي ينتشرون لجهة القهاوي كثيراً والتي تروج في فصل الصيف، وهي موجودة في جهة المرجة، وعلى ضفاف نهر بردى، فيقعدون بها، ويتناولون القهوة والمرطبات، كالليموناضة وشراب الورد والتوت وغيرها، ويشربون التنباك والسيكارات، والبعض ممن يتعاطى المسكرات يذهب لجهة باب شرقي في حارة النصارى، حيث يوجد هناك قهاوي متعددة تعرف بالجناين في باب توما وقاصدوها يتعاطون القهوة مع الأراكيل والمسكرات.[6]
وبهذا لم يكن يسمح بتناول المسكرات علنا في المقاهي إلا بعد دخول ابراهيم باشا المصري إلى دمشق سنة 1246ه/1831م. وإذا اراد أحد تناول هذه المسكرات كان عليه ان يذهب إلى المقاهي المسيحية في باب توما. كما ويظهر القاسمي أن المقاهي كانت متفاوتة في مظهرها وموقعها وقيمها، والبعض من المقاهي يكون أجرة الدخول إليها والمكث بها 20 بارة، والبعض بعشر بارات والبعض الآخر بخمس[7]. .
وبقي حال دمشق هكذا إلى أن وقعت معاهدة كوتاهية بين ابراهيم باشا المصري والسلطان العثماني سنة 1248ه/1833م، حيث أعلن المصريون عن قرارهم بإنشاء خمارة في دمشق ، وبيع إنتاجها في مقاهي دمشق ،كقهوة علي ابن منين وقهوة باب شرقي وقهوة باب توما وسوق الخيل وباب مصلى[8]. قدم للزبائن في بيوت القهوة ، البن والأراكيل والمشروبات المثلجة مثل شراب الورد والتوت وغيرها ، كما قدمت أيضا أدوات التسلية المختلفة المعروفة آنذاك. ولقد تطورت المقاهي في القرن التاسع عشر بفعل المؤثرات الغربية فأصبحت نوعين:
ومن المقاهي المعروفة آنذاك مقهى حديقة الحكومة، وكان موقعها مكان سرايا الحكومة الميرية[9]، كان مبنى المقهى مؤلف من طابقين، الطابق الأرضي مشيد من الحجارة البازلتية السوداء ومزخرف بالأعمدة والأقواس الجميلة على طول الواجهة الشمالية المتواجدة ضمن الحديقة والمطلة على نهر بردى، وكان المقهى يقوم بخدمة الزبائن والمرتادين والمسافرين إلى بيروت طوال أيام الأسبوع عبر محطة العجلات التي تجرها الخيول المجاورة له، وكان يغص بالزوار أيام العطل الرسمية، أما الطابق الثاني فكان عبارة عن مكان استراحة للباشاوات والأغوات ووجهاء دمشق، وهو مبني على الطراز العثماني المتأخر، يعلوه جملون المقهى المميز والمبني من القرميد، هدم هذا المبنى في نهاية عام 1899م، وأزيلت جميع الأشجار المحيطة به، وأقيم مكانه مبنى السرايا الحكومية
ومن المقاهي أيضاً والتي اشتهرت في آواخر القرن التاسع عشر مقهى ديمتري، قبل أن تتحول إلى كراج في بدايات القرن العشرين، كانت مقهى ديمتري من أجمل مقاهي مدينة دمشق، وكان معظم زبائنه من الباشوات والبكوات العسكريين والمدنيين، وكان يحوي على أول طاولة بلياردو أدخلت إلى دمشق؛ يبدو في الصورة رقم (2-17) جزء صغير من مبناها المرتفع في أقصى مقدمة اليمين من الصورة، وإلى اليسار منه مبنى صغير آخر بسطح قرميدي منخفض كان مقهى التجارة، وأمامه مقهى علي اشا المغطى بالشادر، وإلى الشرق توجد مسرح النصر الذي تحول إلى سينما النصر عام 1922م
وبذلك ازدادت المقاهي في القرن التاسع عشر ،وانتشرت في عدد كبير من محلات دمشق ، وكان ملاك المقاهي في تلك المرحلة من كبار الأعيان، وإن ما يرويه عبد الرحمن بيك سامي في وصف المقاهي في نهاية القرن التاسع عشر بعد عام 1890م يظهر أن القهوة انتشرت وتوزعت المقاهي في مختلف الأحياء وبأعداد كبيرة مع وجود فارق في اسعارها وطرزها[10] إذ يقول :”في دمشق ما ينيف على مئة وعشرين مقهى بين كبير وصغير، وهي منتشرة بأنحاء المدينة، وما كان على الطراز القديم منها فكثير، وثمن فنجان القهوة خمس بارات، وأما المقاهي الحديثة أو المنظمة تنظيما جديدا فثمن الفنجان من عشر بارات إلى عشرين بارة، وأكثر المقاهي الحديثة أنشئت في المرجة فيجتمع فيها الناس ليلا ونهارا في فصول السنة الثلاثة وهي الربيع والصيف والخريف هي ذات فناء مفتوح او مغلق”[11].
ولقد أغفلت سجلات المحاكم الشرعية في دمشق لهذه الفترة أدوات اللعب في المقاهي فلم تأت على ذكرها، وربما اعتبرتها أدوات ميسر نهى عنها الدين الاسلامي ، وجل ما ذكرته منها،مكانها وهندستها وأثاثها، ومثال ذلك السجل الذي يتحدث عن موجودات قهوة خانة التي كانت موجودة ظاهر دمشق بمحلة سوق السنانية التي كانت تعرف بقهوة الحمام المشتملة على:”داخل وفناء وسقف ومصاطب مستديرة وأوجاق معد لطبخ القهوة ومنافع شرعية ،ويشمل كامل كدكها على رفوف وخرستان وشبابيك وغال ومفاتيح وسبعة أراكيل قشور وأربعة أراكيل نحاس وطاسة نحاس و اربعة دولات نحاس وخمسين كرسي وبساط أحمر وعدة قناديل ومنافع شرعية ،وهي من أوقاف سنان باشا”[12].
يوضح الشكل التالي والمنجز عام 1929م توزع المقاهي في مدينة دمشق في القرن التاسع عشر على عدة محاور، داخل السور وخارجه، ومن الملاحظ أنها توزعت في أماكن هامة من المدينة، فمثلاً عن الجامع الأموي حيث يعتبر أكبر مكان تجمع اجتماعي على مستوى مدينة دمشق، وعند أبواب المدينة قريباً من أسوارها، حيث توجد مقاهي في باب توما وباب السلام وعدة مقاهي في باب الجابية، فمن المعروف بأنه عند أبواب دمشق تتركز أسواقها، بالإضافة إلى مقاهي أخرى خارج السور أو على حدوده في منطقة الدرويشية، حيث كان الولاة ينشطون بالحركة العمرانية للمدينة، ويعمرون المقاهي الشعبية كأوقاف للجوامع وتقرباً للدمشقيين أيضاً. وهناك تجمع آخر للمقاهي في ساحة المرجة، والتي كانت تعتبر منطقة بساتين يتخللها نهر بردى، فكثرت فيها المقاهي التي كانت تسمى الكازينوهات، والتي تمارس فيها طقوس مخلة بالآداب العامة، وهذا ما جعل هذا النوع من المقاهي خارج أسوار المدينة؛ وهناك مقاهي أخرى شرق المدينة تحديداً في الصوفانية والتي كانت تشتهر ببساتينها، حيث كان يقصدها سكان باب توما وباب شرقي، فكثرت فيها المتنزهات والمقاهي التي كانت تقدم بعض المسكرات إلى جانب المشروبات الأخرى.