- info@damascus-heritage.org
لم يقتصر دور المقاهي على مرتع يقصف فيه اللاهون بل تعداه إلى نشاط اجتماعي أفرز سلوكا وفكرا جديدا وحالة ثقافية مرموقة أنتجت أدبا خالدا ، وحفلت المقاهي فعاليات سياسية سطرت بحروف من ذهب تاريخ دمشق وسوريا والأمة جمعاء، ونستعرض فيما يلي أوجه المنتديات الفكرية على مختلف الأصعدة.
فمنذ عقد العشرينات وحتى الستينات من القرن العشرين ، نشطت في بعض مقاهي دمشق حركة الأدباء والشعراء والصحفيين، مما افضى إلى نشوء مجالس شكلت منتديات أدبية حقيقية ، ومن أشهر تلك المقاهي : مقهى الكمال في ساحة المرجة -الذي انتقل فيما بعد إلى بناء سينما غازي– حيث كان يجتمع فيه لفيف من الأدباء عرف منهم المربي والشاعر الفلسطيني خليل السكاكيني والأديب والصحفي معروف الارناؤوط والصحفيان محمد و احمد كرد علي والصحفي نجيب الريس والشاعران شفيق جبري واحمد الصافي النجفي. الصورة رقم(2-23). وهناك مقهى آخر وهو مقهى الحاج علي الذي يقع في شارع بغداد ومن رواده في الثلاثينات كل من: الشاعر شفيق جبري و معروف الارناؤوط ونجيب الريس والمخبر الصحفي عمر نبهان الذي كان يزود الصحف والمجلات بالأخبار السياسية والثقافية. الصورة رقم (2-24)؛ ثم افتتحت في نهاية الثلاثينيات مقاه جديدة كانت موئلا للأدباء والشعراء كان أشهرها مقهى البرازيل الذي افتتح في شباط من عام 1939 في الجهة الشرقية من شارع فؤاد الأول (بورسعيد) وعرف من رواد هذا المقهى الشعراء والأدباء: سعيد الجزائري و يوسف العيسى ونزار قباني والشاعر محمد الحريري وزكي الأرسوزي والشاعر وصفي القرنفلي وشاكر مصطفى ود. عبد السلام العجيلي وفؤاد الشايب وسامي الدروبي وغيرهم. تظهر في الصورة رقم (2-25) شارع الملك فؤاد الأول ملتقطة من الشمال إلى الجنوب في أواخر خمسينيات القرن العشرين ويبدو في يسار الصورة مقهى البرازيل عند الزاوية المستديرة ،ثم الخانقاه اليونسية ،وعلى اليمبن قهوة الهافانا وبها كان يخطط للإنقلابات العسكرية في سورية وكبانية الكهرباء، وكان بائع السندويش فلافل المعرض وشاورما وبعدها قهوة خبيني، ونرى إحدى حافلات الترام تمر بالشارع ومتجه إلى ساحة الشهداء.
وفي منتصف الأربعينات وبالتحديد عام 1945م افتتح مقهى جديد عرف بمقهى الهافانا وكان يقع مقابل مقهى البرازيل وعرف من رواد هذا المقهى الذين كانوا سابقا من رواد مقهى البرازيل والشعراء والأدباء : محمد الحريري ومحمد الماغوط وادونيس و شوقي بغدادي ومصطفى بدوي وأحمد الجندي ونديم محمد وسعيد الجزائري وعادل أبو شنب ونسيب الاختيار واسكندر لوقا وشاكر مصطفى وغيرهم . وقد نظم هؤلاء في تلك المقاهي قصائد خالدة ، وكتبت فيها العديد من القصص والمقالات الرائعة، وفي الصورة رقم(2-26) من الشمال إلى الجنوب لشارع بورسعيد تظهر فيه مقهى الهافانا.
شهدت بعض مقاهي دمشق في نهاية العهد العثماني العديد من الاجتماعات الوطنية والسياسية وذلك بعد إعلان الدستور العثماني عام 1908م، ففي ذلك العام أعلن تشكيل جمعية النهضة العربية رسميا بعد أن كانت سرية عند تأسيسها عام 1906م في اسطنبول من قبل مجموعة من الطلبة السوريين الذين كانوا يدرسون فيها ومنهم لطفي الحفار ومحب الدين الخطيب وصلاح الدين القاسمي ثم انتقلت تلك الجمعية إلى دمشق؛ أقامت الجمعية حفلا بمناسبة إعلان تشكيلها في مقهى القوتلي بحي السنجقدار، وقام أعضاء الجمعية بإلقاء العديد من الخطابات طالبوا فبها ببث الروح القومية العربية بين الأهالي وطالبوا بحقوق الأمة العربية .وفي عهد الانتداب الفرنسي اتخذ الوطنيون أيضا مقهى القوتلي مركزا لاجتماعاتهم وقادوا منه المظاهرات وإعلان الإضرابات في المدينة ،وأشهرها التي قامت عام 1922 احتجاجا على اعتقال د. عبد الرحمن الشهبندر ورفاقه الوطنيين الذين أعلنوا أول انتفاضة وطنية في عهد الإنتداب وذلك بمناسبة وداع (المستر كراين). الصورة رقم (2-27)؛ ومن المقاهي الدمشقية التي عقدت فيها الأحزاب السياسية اجتماعاتها أو مؤتمراتها التأسيسية مقهى العباسية الذي عقد فيه اجتماع تأسيسي لحزب الشعب عام 1925م ويعتبرهذا الحزب أول حزب وطني تأسس في عهد الانتداب الفرنسي وقد أسسه الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري وحسن الحكيم وغيرهم، وفي الصورة رقم(2-28) تظهر مبنى أوبرا العباسية 1920 شيده عباس منيمني بيروتي الأصل على كتف نهر بردى وجسر فكتوريا وفوق الأرض التي كانت تشغلها محطة الديليغانس نفس المكان الذي بني فيه حاليا فندق سمير أميس.
وفي الفترة ما بين 4-6 نيسان من عام 1947م عقد المؤتمر القومي الأول لحزب البعث العربي وذلك في مقهى الرشيد الصيفي (اللونابارك سابقا) الذي كان يقع في شارع 29 أيار(بناء المركز الثقافي الروسي الحالي). الصورة رقم (2-29)؛ درج السياسيون والعسكريون على ارتياد مقاهي دمشق منذ العقد الثاني من القرن العشرين وقال محمود جوهري صاحب مجلة سمير الشبان الوطنية الساخرة الذي اصدرها عام 1924م في دمشق بأن الأمير فيصل بن الحسين والقائد يوسف العظمة وعبد الكريم العائدي مدير شرطة دمشق ، والعقيد حسني الزعيم كانوا من رواد مقهى الكمال القديم ، وذكر بأن الرفيق خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري ورفاقه نبيه رشيدات ورئيف خوري كانوا أيضا من رواد مقهى الكمال القديم. أما أشهر رواد مقهى البرازيل من السياسين في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين زكي الأرسوزي وصدقي إسماعيل وميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وأكرم حوراني وغيرهم؛ ويذكر الأستاذ نصر الدين البحرة في خاطرة (مقهى الدومري ) التي كان ينشرها في جريدة الدومري الدمشقية بأن العقيد أديب الشيشكلي كان يعرج أحيانا على مقهى البرازيل؛ ويتحدث الأستاذ غسان الإمام عن ذكريات مقهى البرازيل في مقالة نشرت له في جريدة تشرين قائلا :”بأن رواد مقهى البرازيل السياسين يعرفون موجز الأخبار من ملامح وجه بائع الصحف الذي يبسط على مدخل المقهى قبل ان يشتروا منه صحف الصباح”؛ ومن الشخصيات السياسية العربية التي نفيت إلى دمشق في عهد الإنتداب الفرنسي والذين كانوا يرتادون مقاهي دمشق المرحوم الحبيب بورقيبة (الذي أصبح رئيسا للجمهورية التونسية بعد الإستقلال ) وكان يرتاد مقهى البرازيل . وذكر أيضا بأن الشاعر بيرم التونسي كان يرتاد المقاهي الدمشقية ، وأيضا الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري الذي كان يرتاد عددا من المقاهي الدمشقية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي ،ففي عام 1944م كان الجواهري يرتاد مقهى العربي في ساحة المرجة وكان يلتقي الصحفي سعيد الجزائري في أكثر الاوقات.
تقسم المقاهي أيضا بحسب الطبقة او الفئة الاجتماعية التي تنتسب إليها فمثلاً عرفت بعض مقاهي دمشق بأن روادها كانوا من أبناء الحرفة الواحدة حيث كان يجتمع فيها أرباب العمل مع عمال مهنتهم للبحث في أمور العمل أو طلب بعض العمال أو لحل مشكلاتهم والتشاور فيما بينهم بأمور تخص المهنة، ومن تلك المقاهي مقهى النجارين في حي الشاغور قرب مقام السروجي ، ومقهى الحمام في سوق السنانية وكان يرتاده بائع الطيور؛ أما أصحاب حرفة الخبازة فكانوا يجتمعون في مقهى البخاري الواقع في سوق التبن، وكان للعمال مقهى خاص بهم في سوق العتيق ويسمى مقهى العمال وقد خرجت منه مظاهرة وطنية عمالية في الثلاثينات من القرن العشرين في عهد الإنتداب الفرنسي طالبت بزيادة الأجور وتأسيس نقابات مهنية.
كما عرفت بعض مقاهي دمشق بروادها من ابناء المدن والقرى السورية من المقيمين في دمشق أو من زوارها ،فمثلا كان لأبناء أهالي دير الزور مقهيان الأول عرف بمقهى الديرية وكان يقع عند نزلة جوزة الحدباء في منطقة البحصة بعد جامع يلبغا، وكان مقهى شعبيا كراسيه من القش بلا مساند، ثم انتقلوا بعدها إلى مقهى الشام الذي يقع في شارع 29 أيار. أما ابناء منطقة جبال القلمون فكان لهم مقهى خاص بهم عرف بمقهى القلمون بالقرب من كراج القلمون في حي العمارة بدمشق؛ وكان أيضا لأبناء دمشق وضواحيها من الصم والبكم الخرسان مقهى خاص بهم في الخمسينيات من القرن الماضي وكان يدعى ذلك المقهى بمقهى العون بالله ويقع في بناء العابد الشهير القريب من ساحة المرجة وكانوا يجتمعون به للتسلية والتعارف فيما بينهم، ثم ألفوا في هذا المقهى رابطة خاصة بهم دعيت برابطة الخرسان لحل المشاكل التي يتعرضون لها.