بيت فارحي

اكتشاف بيت فارحي في أواخر القرن العشرين

تبوّأ بيت حاييم فارحي-المعلّم عرش الصدارة بين بيوت دمشق اليهوديّة حتّى منتصف القرن التاسع عشر ومن المدهش والملفت للنظر غيابه شبه التامّ من الصور الفوتوغرافيّة في مطلع عهد التصوير الضوئي من جهة، وصمت السجلّات التاريخيّة عنه من جهة ثانية. لا يعني هذا بالضرورة أنّ أحداً لم يجشّم نفسه عناء تصويره وتسجيله فليس ضياع الصور والوثائق بالجديد في الشرق الأدنى (تلفت صور ووثائق لا تقدّر بثمن عندما استهدف قصر العظم عام ١٩٢٥ على سبيل المثال وليس الحصر).  

ترك لنا المصوّر الفرنسي الشهير Félix Bonfils عدداً كبيراً من الصور فيها كمّ لا بأس به عن البيوت الشاميّة المسيحيّة واليهوديّة ولكنّها مع الأسف – أو على الأقلّ ما وصلنا منها – تستثني بيت فارحي الذي لا نملك له ألّا لوحتين للفنّان Frederic Leighton (١٨٣٠-١٨٩٦) تعود أشهرهما لعام ١٨٧٣ ليتلوهما سكوت مطبق حتّى عام ١٩٨٤ (!!!!) عندما أخذ المهتمّون من الأخصّائييّن في تصويره بدأً من ناصر الربّاط ونهاية بالألماني Stefan Weber الذي التقط  مجموعة كبيرة بين ١٩٩٧ و  ٢٠٠٦ (أي معظمها قبل ترميم البيت الذي بدأ عام ٢٠٠٤). 

فارحي أسرة شاميّة عريقة (مزيد من التفاصيل عنها وعن “المعلّم” لاحقاً) من اليهود السفارديم (أي ذوي الأصول الأندلسيّة) بقي حفنة من أفرادها في دمشق حتّى مطلع القرن الحادي والعشرين أمّا عن البيت فقد شغلته عدّة أسر من اللاجئين  وغيرهم في سبعينات القرن العشرين ليصبح بحكم العشوائيّات وصادرت الحكومة قسماً منه ليمسي نسيّاً منسيّاً أو يكاد. 

تغيّر الوضع مع زيادة الاهتمام بدمشق القديمة اعتباراً من تسعينات القرن الماضي واشترى حكم ركبي (مهندس عمارة من مواليد سوريا يعيش في باريس) البيت بهدف تحويله إلى فندق. جدّد ركبي البيت جزئيّاً ثمّ باعه عام ٢٠١٠ لرجل الأعمال السوري المقيم في لندن أيمن أصفري الذي تابع الترميم حتّى اندلاع المأساة السوريّة في ٢٠١١. التمست عائلة أصفري من الدكتورة Elizabeth Macaulay-Lewis أن تشرف على إعداد كتاب عن تاريخ البيت ومالكيه هدفه بالدرجة الأولى تعريفه لزبائن الفندق قيد البناء. تطوّرت هذه الفكرة إلى دراسة شاملة رأت النور في مجلّد أنيق صدر عام  ٢٠١٨.

بيت فارحي: المصادر التاريخيّة‎

لا تعني ندرة  الصور التاريخيّة (إن لم نقل غيابها التامّ) عن بيت فارحي عدم وجود معلومات عنه. قامت الدكتورة Macaulay-Lewis بتقصّي هذه المعلومات وجمعها وأجرت دراسات ميدانيّة عن هذا البيت والبيوت اليهوديّة المجاورة له (الدحداح ولزبونا واسطنبولي وصولاً إلى مكتب عنبر) عام ٢٠١٠-٢٠١١ وحاولت قدر جهدها إعادة رسم صورة البيت الأصلي قبل التعديلات التي أجريت عليه خلال الترميم بين ٢٠٠٤ و ٢٠١١ مستعينة في هذا الصدد بالعديد من الصور التي جمعتها للبيت قبل وبعد الترميم (١٢٠١ صورة). لنستعرض باختصار المصادر التي اعتمدتها.

النقوش الكتابيّة

لدينا كتابات عبريّة وآراميّة (إلى درجة أقلّ) في خمس مواضع في بيت فارحي. تتعلّق هذه الكتابات بمثل مالك البيت العليا وإيمانه ومعتقده وهناك ما يشابهها في سائر البيوت اليهوديّة. بالطبع هناك كتابات عربيّة.

المصادر العربيّة

كتب الدكتور ميخائيل مشاقة عن أحداث تتعلّق بتاريخ الأسرة بما فيها وفاة حاييم فارحي عام ١٨٢٠ وتعرّض لقضيّة فطير صهيون المزعوم عام ١٨٤٠ ولكنّه لم يعط تفاصيلاً عن البيت.

الملفّات والسجلّات

تعطينا وثائق المحاكم في العهد العثماني فكرة عن التواريخ والبيع والشراء والأسعار ولكنّها لا تزال بحاجة إلى دراسة شاملة حالت دونها ظروف الحرب الدائرة منذ ٢٠١١.

روايات الرحّالة

أوّل من زار بيت فارحي من الأوروبييّن على حدّ معلوماتنا الرحّالة الألماني Otto Freiherr von Richter وكان ذلك عام  ١٨٠٥ تلته الإنجليزيّة الليدي Hester Stanhope عام ١٨١٢ وأعطانا مرافقها الدكتور Charles Meryon أوّل وصف مفصّل لبعض مكوّناته (منها ما اندثر). ندين للرحّالة James Silk Buckingham بوصف على درجة لا بأس بها من الدقّة لزخارف البيت وعمارته عام  ١٨١٦. أتى يعده المبشّر John Wilson عام ١٨٤٣ ولسرد هذا الأخير أهميّة خاصّة نظراً لإلمامه بالعبريّة وقيامه بنسخ بعض الكتابات التي درست. زار الفنّان Frederic Leighton البيت عام ١٨٧٣ وإليه تعود اللوحة أعلاه (له لوحة ثانية سيأتي دورها). ذكر دليل Murray السياحي هذا البيت دون تفاصيل.    

الدراسات الأكاديميّة

بيت فارحي غائب عن دراسة Wulzinger  &  Watzniger (نشرت عام  ١٩٢٤) ولا يظهر على خريطة العالمين الطبوغرافيّة.

تعيّن الانتظار إلى أواخر القرن العشرين لمزيد من الدراسات والبدء في تصوير البيت! 

بيت فارحي: اللوحة المفقودة‎

من المدهش أنّنا لا نملك صوراً فوتوغرافيّة تاريخيّة عن بيت حاييم فارحي-المعلّم  (ثاني أكبر قصور دمشق اليهوديّة بعد مكتب عنبر وأقدم بحوالي قرن من الزمن من هذا الأخير) بينما لدينا كمّ لا بأس به من اللقطات لبيوت أصغر منه -على سبيل المثال بيت لزبونا وبيت نيادو اسطمبولي- تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. 

لحسن الحظّ ترك لنا الفنّان Frederic Leighton لوحته المشهورة عن “قطف الكبّاد” Gathering Citrons العائدة لعام ١٨٧٣ حيث نرى على يمين الناظر الرواق المعمّد الذي يتقدّم الإيوان الغربي لصحن البرّاني.

هناك لوحة ثانية لنفس الفنّان ومن نفس التاريخ ولكنّها مجهولة من الغالبيّة العظمى من الهواة والأخصّائييّن على حدّ سواء ولا نعرفها إلّا من خلال صورة لها بالأبيض والأسود في كتاب للأديب Ernst Rhys عن أعمال الفنّان Leighton بعنوان “بحرة في صحن في دمشق” Fountain in Court at Damascus. بمقارنة هذه اللوحة مع صور البيت الحديثة (اعتباراً من ثمانينات القرن العشرين) استنتجت الدكتورة Macaulay-Lewis أنّها أيضاً لصحن البرّاني مأخوذة من الغرب إلى الشرق أي أنّها تشكّل زاوية قائمة مع رائعة “قطاف الكبّاد” الآنفة الذكر. 

إذاً في حوزتنا لوحتان تاريخيّتان لبيت المعلّم تلاهما صمت تامّ تجاوز المائة عام قبل أن يدخل هذا الكنز عصر التصوير الضوئي. أن تأتي متأخّراً خير من ألّا تأتي أبداً. 

توزيع بيت فارحي

يتبع هذا البيت التوزيع الشائع في سائر البيوت الشاميّة العائدة لأواخر القرن الثامن عشر أو مطلع القرن التاسع عشر. تبلغ مساحة الطابق الأرضي ٢١١٣ متر مربّع وتكافىء على وجه التقريب الرقعة التي يشغلها قصر العظم في حماة. للبيت أيضاً طابق أوّل (اندثر ولا نعرف شكله الأصلي) وقبو

بني البيت حول صحنين رئيسين: الأوّل والأهمّ هو صحن البرّاني (خلافاُ لقصر العظم وغيره حيث يحتلّ الجوّاني مكان الصدارة أبّهةً واتّساعاً) الواقع في الشرق. يقع صحن الجوّاني غرب البيت وهناك صحن للخدمات (مطبخ ومراحيض) في الشمال. لوّنت الصحون الثلاث بالأخضر على المجسّم الملحق وهناك صحنان إضافيّان صغيران لا يظهران عليه أحدهما امتداد لدهليز المدخل الرئيس في الجنوب والثاني يتوسّط الجوّاني والبرّاني من الشمال.

القاعات ممثّلة باللون الأزرق وأهمّها قاعة البرّاني الشماليّة التي تأخذ شكل T ويعلوا بابها نقش كتابيّ بالعبريّة. تواجد في داخلها كتابات إضافيّة إبالعبريّة والآراميّة اندثرت مع الأسف. هناك قاعة إضافيّة بطزرين شرق البرّاني لربّما كانت مكتبةً أو كنيساً أمّا الجوّاني فقاعته إلى الشمال. للبيت عديد من المربّعات والمربّع غرفة متعدّدة الاستعمالات أصغر من القاعة وأقلّ بذخاً تتواجد على جانبيّ الأواوين. 

لّونت الأواوين بالأحمر-البرتقالي وكما نرى لدينا إيوان جنوبي في كلّ من الجوّاني والبرّاني وإيوان غربي يتقدّمه رواق في هذا الأخير. أضف إلى ما سبق إيوان رابع جنوب صحن الخدمات. 

المدخل الرئيس للبيت قبلي يؤدّي عبر صحن صغير يليه دهليز إلى صحن البرّاني أمّا المدخل الثاني فهو شمالي يفضي إلى جناح الخدمات. أمكن الخروج من البيت أيضاً عن طريق باب خاصّ شمال وغرب الجوّاني يؤدّي للكنيس المجاور (بني حوالي منتصف القرن التاسع عشر) وكان له أيضاً ممرّ سرّي بينه وبين بيت لزبونا إلى الشرق محيت آثار بابه. 

تحت أرض بيت فارحي‎

استغرق بناء بيت فارحي قرابة ٢٥ سنة إلى أن أنجز عام ١٨٠٥. تدلّ مساحة البيت وتوزيعه أنّه قام على أنقاض بيتين ولربّما ثلاثة (جمع عدّة بيوت في قصر كبير عادة منتشرة إلى درجة لا بأس بها في دمشق القديمة كما في بيوت نظام وسعيد القوّتلي والسباعي وسقّا أميني وشيرازي وغيرها).  من الممكن أنّ الأسرة اشترت الأرض أو الأراضي في أعقاب زلزال ١٧٥٩ لتبني عليها قصرها.  

تظهر الخريطة الملحقة عن Ross Burns تصوّراً لمدينة دمشق الرومانيّة التي هيمن عليها معبد المشتري. تواجد المسرح الروماني جنوب الشارع المستقيم في القسم الغربي للمدينة داخل السور ونعلم اليوم -بفضل أعمال المعهد الدانماركي- أنّه بني فوق بيتيّ العقّاد وحورانيّة. البراهين على معبد المشتري والمسرح والشارع المستقيم والباب الشرقي والقوس الروماني  قاطعة أمّا الأدلّة عن الحصن Castrum وميدان الخيل hippodrome ومسرح الغناء odeon فأضعف بكثير ويدخل فيها الافتراض إلى أبعد الحدود. غزت الأبنية ساحة المدينة forum أو agora  (رحبة خالد بن أسيد في القرون الوسطى) منذ قرون. 

ننتقل الآن إلى المنطقة جنوب شرق  الشارع المستقيم  وعلامة X على الخارطة (موقع بيت فارحي). أظهر التنقيب ودراسات Weber و Macaulay-Lewis دلائلاً على وجود بنية رومانيّة مجهولة الهويّة تحت هذا البيت.  

بيت فارحي: الجدار الروماني‎

تظهر الصورة الملحقة أحجار الجدار الروماني النحيتة الممتدّة في أساس جدار الصحن الوسطاني لبيت فارحي باتّجاه غرب شرق (عن Weber عام ٢٠٠٦). توضّح الخارطة مسار هذا الجدار (اللون البنّي الداكن) وأقبية البيت المظلّلة أمّا الطابق الأرضي فهو منقّط. 

اكتشفت بقايا جدار روماني بين الصحن الوسطاني وصحن الخدمات خلال ترميم بيت فارحي. يعود هذا الجدار على الأغلب لفترة تتراوح بين القرن الأوّل والقرن الثالث للميلاد ويوازي الشارع المستقيم باتّجاه شرق-غرب مع امتداد جنوب-شمال بداية من نهايته الشرقيّة. 

Elizabeth Macaulay-Lewis. Bayt Farhi and the Sphardic Palaces of Ottoman Damascus. American School of Oriental Research, 2018. 
Ross Burns. Damascus, a History