استمرت الثقافة الشعبية بين الناس من خلال السيرة، وتناقلتها الأجيال عبر وسائل مختلفة تمثلت بالرواة والقصاصين والحكواتية الذين عملوا في المقاهي، ونشروا الوعي والثقافة الدينية والاجتماعية والحكايا والقصص؛ وكان عملهم يشبه إلى حد ما وسائل الإعلام الحالية، كالصحافة والتلفزيون والسينما؛ واشتهر الرواة والقصاصون بمجلات مختلفة، فهناك رواة القصص الدينية والسير الاجتماعية والسياسية والشعبية. وقد ذكر التاريخ خطر السير الشعبية في الخصام الذي نشب بين الأمويين والعباسيين، ويقال أيضاً أنه عندما أغارت قبائل المغول على بغداد وسقطت في يد هولاكو عام 656ه، تفرق كثير من الرواة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وانتشرت معهم قصص كثيرة، حتى أصبح لكل سيرة منشدوها المتخصصون في إلقائها، فظهرت فرق “العنترية” وهم رواة سيرة عنترة، و”الظاهرية” رواة سيرة الملك الظاهر بيبرس، وكذلك قصاصون ألف ليلة وليلة. فالحكواتي أو الراوي أو القصّاص أو القاصّ، عادة شعبية تقليدية، وهو شخص امتهن سرد القصص، في الأماكن العامة وخاصة المقاهي، كان يحتشد حوله الناس قديماً، كان لا يكتفي بسرد أحداث القصة بتفاعل دائم مع جمهوره، بل يدفعه الحماس لأن يجسد دور الشخصية التي يحكي عنها بالحركة والصوت.
والحكواتي في دمشق كان يحفظ الحكايات، ويلقيها عن ظهر قلبه، أو من الكتاب، كقصة عنترة والملك الظاهر وغيرها. وله في كل قهوة مكان مخصص لإلقاء الحكايات في صدر المقهى يجلس على سدة عالية مجللة بالسجاد ومزينة بأصص نبات[1]، كما هو موضح في الصورة رقم (4-1)، وغالب أوقاته بعد المغرب، فيجتمع الناس في القهوة وتصغي لقوله مع السرور والانبساط. وقبل شروعه في الحكاية يحكي لهم مقدمة تسمى “الدهليز”، فيها أمور مضحكة. ثم بعد إتمامها، يشرع لهم في إتمام ما كان قدّمه في الليلة الماضية[2]. لأن الحكواتي يقف في محل من القصة تتطلب النفوس لإتمامها، وذلك شطارة ومهارة من الحكواتي، حتى تبكر الناس لاستماع تمام القصة[3]. يقول الشيخ جمال الدين القاسمي منتقداً ذهاب الناس إلى المقهى للاستماع إلى الحكواتي: “وبالجملة فهي صنعة رائجة جداً، لأن أغلب الناس مكبون على استماعه أكثر من انكبابهم على العلم، وهذا من الجهل المفرط”[4].
لا يقتصر الحكواتي على المقاهي، بل يذهب لبعض البيوت بأجرة مخصصة تزيد عن الأجرة التي يتقاضاها عادةً، وأما أجرته في القهوة فهي نصف أجرة صاحب القهوة، لأن كل شخص يدفع لصاحب القهوة عشر بارات، ويشرب قهوة ودخاناً، فيأخذ الحكواتي نصف الحاصل[5]. وتذكر المصادر أن أكثر ما يميّز الحكواتية هو استخدام أكثر من لغة في سرد حكاياتهم مراعاة منهم لنوعية المستمعين في مقاهي دمشق. ويذكر لنا البديري الحلاق في أحداث سنة 1155ه/1742م أنه توفي سليمان بن الحشيش الحكواتي الذي ” توفي أبونا ووالدنا وأستاذنا ومربينا سليمان بن الحشيش الحكواتي رحمه الله تعالى. وكان فريد عصره وزمانه، ووحيداً في فنه في أوانه. وكان يحكي سيرة الظاهر، وسيرة سيف وعنتر، وفي العربي والتركي، وله محفوظة قادحة، ومعرفة صالحة في كل فن، ومع ذلك أنه كان أمي، لا يكتب ولا يقرأ، وكان اشقر أبرص، شديد البياض، إلا أنه بحر خضم لا يخاض، رحمة الله.”[6]. وأورد محمد خليل المرادي اسم أحد الحكواتية في دمشق الذين عاصرهم وهو شاكر الحكواتي[7] الذي كان يعمل في “بيوت القهوة فينقل الحكايات والوقائع ويبدي النوادر والطرائف في أقبح المواضع مع فضله وأدبه الذي لا ينكر”[8].
ومن الذين يشير إليهم السجل الشرعي “الحاج مصطفى بن فتح الله الحكواتي”[9]. وبحسب وصف أحمد حلمي العلاف للحكواتي في نهاية العصر العثماني فإن دور الحكواتي في التسلية يبرز أكثر في ليالي شهر رمضان، ويبدو أن انتشار الأمية ساعد على رواج ذلك النوع من التسلية الشفاهية المروية[10]. وتعد شخصية الحكواتي من الناحية الفنية والثقافية، من أهم الشخصيات العاملة في المقاهي، ولها دور رئيسي في إدارة المقهى، وإذا كانت بعض المقاهي الصغيرة تخلو من الحكواتي، فإن بعض المقاهي كان سبباً لجذب الزبائن، كمقهى النوفرة الذي ما يزال للحكواتي رشيد الحلاق أبو شادي الذي يقص القصص دور فيه حتى الآن. ومن مشاهير حكواتية هذا المقهى يذكر الدمشقيون عبد الحميد الهواري (1885-1956ه) الشهير بأبي شاكر المنعش، والذي خلفه بالحرفة أبو شاكر صنوبر ثم أبو حاتم ابراهيم[11]. وكان الدمشقيون يختارون الحكواتي الذي تتوافق براعته وسرعة بديهته وأسلوبه في الإلقاء والعبير، وتصعيد حبكة الأحداث وحلها مع تطلعاتهم ومزاجهم. وأثناء جلوسهم في المقهى للاستماع إلى الحكواتي ينقسمون بين مؤيد للبطل ومناصر له، ومخالف لذلك الموقف، وقد يبلغ بهم الحماس إلى الملاسنة والعراك. وكان الحكواتي بدوره يستغل هذه الظاهرة، فيصعّد الأحداث في السيرة، إلى أن يتوقف عند عقدة يكون فيه البطل في حرج[12].
المصادر:
[1] منير كيال، دمشق الشام ذاكرة الزمان. وزارة الثقافة، دمشق، سورية، 2010، ص172
[2] جمال الدين القاسمي، قاموس الصناعات الدمشقية. دار طلاس، دمشق، سورية، 1988، ص:112
[3] يقول الشيخ جمال الدين القاسمي: (كما بلغنا عن رجل من أهل حمص كان يحضر كل ليلة إلى حلقة الحكواتي يسمع فصلاً من قصة عنترة، ففي بعض الليالي تأخر الرجل في حانوته، فحضر لسماع الحكواتي من دون عشاء، وكان في تلك الليلة يتكلم عن حرب عنترة مع كسرى، إلى أن وقع عنترة في الأسر مع الفرس، فحبسوه ووضعوا القيد في قدمه. هناك قطع الكلام الحكواتي كما هي عادتهم، وانفضت الناس. فدخل على الرجل أمر عظيم، واسودت الدنيا في عينه على حبس عنترة، وذهب إلى بيته حزيناً، فقدمت له زوجته الطعام، فضرب المائدة بقدمه وشتم زوجته فصادمته بالكلام فضربها، وخرج يدور في الأسواق لا يقر له قرار. ثم غلب عليه الحال، إلى أن ذهب لبيت الحكواتي، فوجده نائماً فأيقظه، وقال له: قد وضعت عنترة في السجن مقيداً، وأنت تنام مستريح البال، فأرجوك أن تخرجه من السجن، وأنا أعطيك ما تجمعه من الجمهور الآن. فأتم له الحكواتي القصة، وأخرج له عنترة من السجن. فقال له الرجل: أقر الله عينك وأراح بالك، فخذ الدراهم ولك الفضل، ثم انصرف إلى بيته مسروراً، واعتذر لامرأته وقص لها قصته) (جمال الدين القاسمي، قاموس الصناعات الدمشقية، ص113)
[4] جمال الدين القاسمي، قاموس الصناعات الدمشقية. دار طلاس، دمشق، سورية، 1988، ص:113
[5] جمال الدين القاسمي، قاموس الصناعات الدمشقية. دار طلاس، دمشق، سورية، 1988، ص:114
[6] أحمد البديري، حوادث دمشق اليومية 1154-1176هـ. تحقيق: أحمد عزت عبد الكريم، القاهرة، 1959، ص34
[7] أحمد ابن عمر اين عثمان المعروف بالشاكر الحموي نزيل دمشق الحنفي الشيخ أبو الصف فائق الدين الإمام العالم الفاضل الصوفي الأديب البارع الشاعر الناظم الناثر أحد الشعراء المشهورين بالصناعة والبلاغة والموصوفين بالنباهة والنباغة ولد سنة 1121هـ وقرأ القرآ والفنون والأدب والعلوم ودخل حلب وبغداد والموصل والقدس ومكة والمدينة والهند والعجم وغيرها وفي أواخر أمره سكن في دمشق وكانت داره في الصالحية بالقرب من السليمية. وكان ينقل نوادر وأخبار وحكايات غريبة وقعت له ورآها في أسفاره. وفي نهاية أمره رمته الأيام حتى أفضى به الحال إلى أن صار في بعض بيوت القهوة يروي الحكايات والوقائع والنوادر واللطائف، وفي أواخر حياته التزم العزلة في داره وصار الناس يزورونه ويجتمعون به هناك حتى مات سنة 1193هـ (محمد خليل المرادي، سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، ص:154)
[8] محمد خليل المرادي، سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر. ج1، دار ابن حزم، دمشق، 1979، ص:155
سجل شرعي 34، حجة 733، ص 426، 1134هـ/121م
[10] مهند مبيضين ، ثقافة الترفيه والمدينة العربية في الأزمنة الحديثة، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، 2009، ص:153
[11] مهند مبيضين ، ثقافة الترفيه والمدينة العربية في الأزمنة الحديثة، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، 2009، ص:152
[12] منير كيال، دمشق الشام ذاكرة الزمان. وزارة الثقافة، دمشق، سورية، 2010، ص171
سيرة عنترة: تحكي سيرة عنترة أحداثاً تقع في شبه الجزيرة العربية ومحيطها حتى بداية عصر النبوة، وهي تصور ثارات القبائل العربية قبل الإسلام. وتعد سجلاً حافلاً لأحداث يستطيع المرء من خلالها تعرّف القبائل العربية التي ورد ذكرها في السيرة، وعاداتها وتقاليدها في الحرب، وتقسيم الغنائم وحظ العبد وحظ الحر منها. فضلاً عما تقدمه السيرة من بطولات عنترة وأخلاقه وعلاقاته مع قبيلته واعتباره مثلاًللإقدام والفروسية والتضحية[1].
سيرة الظاهر بيبرس: كانت سيرة الظاهر بيبرس محببة إلى الدمشقيين، وهي تتقصى أخبار الملك الظاهر وتجعل منه محوراً للأحداث المتعلقة بالدولة المملوكية، وعملها على توحيد الصفوف للوقوف في وجه الصليبيين، كما تتوسع في قص أخبار الملك الصالح أيوب، الذي استقدم الظاهر بيبرس، وتكثر في هذه السيرة الوقائع والأحداث التي تزدحم بالرجال والنساء[2].
سيرة الملك سيف: أما سيرة الملك سيف بن ذي يزن، فهي ترسم الوحدة العربية ممثلة بالبطل العربي اليمني الملك سيف الذي حارب الأحباش لتحرير اليمن. ويرجع نشوء هذه السيرة إلى القرن الخامس عشر للميلاد رغم أن أحداثها قبل الإسلام[3].
[1] منير كيال، دمشق الشام ذاكرة الزمان. وزارة الثقافة، دمشق، سورية، 2010، ص174
[2] منير كيال، دمشق الشام ذاكرة الزمان. وزارة الثقافة، دمشق، سورية، 2010، ص174
[3] منير كيال، دمشق الشام ذاكرة الزمان. وزارة الثقافة، دمشق، سورية، 2010، ص175
يقول الحكواتي رشيد الحلاق أبو شادي: “الحكواتي القديم كان يحكي القصة بحذافيرها دون نقصان والناس الذين يستمعون له هم من كبار السن وهذا الحكواتي كان يستخدم تعابير وجهه وحركات يديه وقدميه ليوحي للسامعين أن هناك معركة أو حدثاً ما فالحكواتي هو مسرح كامل هو المنتج والمخرج وواضع الحوار وهذا كله ينجم عن معايشته للقصة التي يرويها، أما اليوم فقد تغير جمهور الحكواتي وأصبح يضم شرائح مختلفة كالطالب والطبيب والمهندس والضابط والعامل والطفل وحتى السياح الأجانب وقد فرض هذا التنوع على الحكواتي أن يتجاوب مع الجمهور كله ويخرج بكلمات لا علاقة لها بالنص حتى يداعب بها الناس ويحاول إفهامهم عن ماذا يتكلم ويتحاور معهم، حتى السيف الذي يستخدمه الآن لم يكن مطروحا في الماضي وهو بهدف الدعابة تارة ولفت انتباه الناس تارة أخرى كما أن القصص التي يرويها الآن ليس بالضرورة كلها من الماضي فهو قد يروي قصصاُ معاصرة تتحدث عن واقع معين بهدف لفت انتباه الناس لما هو مفيد أو ضار”[1]
يحتفظ مقهى النوفرة بالتراث العريق للمقاهي الدمشقية القديمة المتمثل بوجود الحكواتي. ومع دخول التلفزيون إلى سوريا وانتشاره في 1960م، استبدلت عدة مقاهٍ الحكواتي بالتلفزيون باستثناء مقهى النوفرة الذي ما زال محافظا على هذا التراث. ويقول المؤرخ السوري الدكتور قتيبة الشهابي “وفي فصل حي النوفرة، كانت القيامة تقوم في مقهى النوفرة اذا انهى الحكواتي قصة عنترة بن شداد وانهى كلامه وابن شداد في السجن وكم من رجل قرع باب هذا الحكواتي في منتصف الليل مطالبا اياه بتحرير البطل وفك اسره قبل طلوع النهار والا فيضطر المسكين إلى متابعة القراءة حتى يطلق سراح عنتر. ويقول “وكم من مرة كانت فيها الملاسنة تحتدم بين المتحزبين للزير سالم واخرين لجساس الامر الذى ينتهى عادة ببضع صفعات ولكمات ويذهب عدد من الكؤوس والكراسي ضحية ذلك”[2].
[1] لما المسالة، روائي الزمن الماضي هل يشبه اليوم، جريدة الثورة، 2 تشرين الأول 2008، العدد 13728، ص:7
[2] قتيبة الشهابي، دمشق تاريخ وصور، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، سورية، 1986، ص265