B042

مبنى محطة الحجاز

ول المشيدات التي نهضت هذه الساحة هو بناء فخم ذو طابع معماري أنيق … جميل شامخٌ كشموخ القلعة ، يخطف الأبصار ببنائه .. ذو الشكل المعماري الأخاذ بمنظره … وبجميل زخارفه … و بهندسته الفريدة المتميزة ، ويتحدى بعنفوان أشم … كل الظروف السياسية والعسكرية التي مرت على بلاد الشام …

والتسمية الرسمية له : ( محطة القنوات ) لوقوعه في ثمن حي القنوات … أو كما يسميه عامة أهل الشام ( محطة الحجاز ).

وهذه طريق السليمانية نسبة الى والي الشام سليمان شفيق باشا بعد الإنتهاء من عمليات الأنشاء و الزراعة في عام 1917 بدون تعبيد الطريق بالحجارة السوداء أو الإسفلت ، وتبدو الأرصفة على جانبي الطريق وقد زرعت بالأشجار الحديثة الزراعة ، وفي العمق يهيمن مبنى محطة القنوات / الحجاز على الساحة أمامه 

ويعتبر هذا البناء من أجمل التحف المعمارية الماثلة أمام أعيننا إلى اليوم في دمشق ، والفريد من نوعه بتمازج شكل طرازه الفني المعماري الإسلامي الدمشقي و الأندلسي، والمتداخل مع لمسات مملوكية وعثمانية الطراز والتي انتشرت في أرجاء السلطنة العثمانية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين 

من الناحية التاريخية لم أجد الكثير من التوثيق التاريخي ( لتاريخ تشييد مبنى محطة الحجاز ) بدمشق ، ولكن كان أكثرها دقة ما ذكره علامة الشام و قطبها الأستاذ الجليل ( محمد كرد علي ) رحمه الله تعالى في الجزء الخامس من كتابه ( خطط الشام ) بالصفحة 196 ـ 197 حين قال :
بقي مبدأ الخط الحجازي حتى سنة 1908 في منتهى محلة الميدان بدمشق بالقرب من قرية القدم، وقد بنيت بعد هذا التاريخ ( محطة القنوات ) الواقعة غرب مدينة دمشق على طراز عربي حديث وبشكل جميل يتناسب مع عظمة هذا الخط المقدس، و مهندس بناء المحطة هو المهندس المعمار الشهير ـدارانداـ قنصل اسبانيا وهولاندا في دمشق، وهو صاحب الأيادي البيضاء على تزيين المدينة وعمرانها .

ولم يقل الأستاذ (كرد علي سنة 1909 أو 1910 أو 1911) بل سنة 1908 (وهو بصراحة دقيق جدا بالتواريخ.. وبذكر اسماء الأيام والأشهر والسنة، وهذا دليل قاطع أنه بوشر ببنائها بالسنة المذكورة.

جاء في كتاب (الرحلة الشامية عام 1910) للأمير محمد علي باشا ابن الخديوي محمد توفيق باشا) خديوي مصر، وقال:
خرجنا من محطّة الحجاز فركبنا من العربات ما كان لنا منه الكفاية ، وقصدنا توّاً إلى فندق فكتوريا الّذي اِخترناه لنزولنا مدّة إقامتنا في دمشق حيث هو أجمل فندق في تلك المدينة .

وهناك وجدنا عند مدخل الفندق صاحبه ( الخواجا بيترو ) الّذي كان ينتظرنا ليهدينا إلى الحجرات الّتي خصّصت لنا فيه فلمّا وصلنا إليه رأينا علماً عثمانيّاً مرفوعاً في داخله على السلّم الضيق فسألت صاحبه ( وهو الخواجا بيترو وكان رجلاً كبير السن يميل كثيراً إلى مصر حيث كان يتاجر فيها حينما كان شابّاً) : لماذا رفع هنا هذا العلم العثماني؟ فأجابني بأنّ العادة المتّبعة في جميع جهات الدنيا أنّه عندما ينزل ضيف كريم في أي فندق من الفنادق يرفع له علم الحكومة التابع هو لها إجلالاً له واِحتفالاً بقدومه .

وهذا يدلنا ان الخواجا (بيترو بوليوفيتش) كان صاحب فندق فيكتوريا ابان الرحلة الشامية عام 1910 للأمير محمد علي باشا ابن الخديوي محمد توفيق باشا خديوي مصر .

وهذه صورة نادرة وملونة ذاتياً بالنشاء والحرارة، ملتقطة في بدايات القرن العشرين من الجنوب من شرفة (محطة القنواتـ محطة الحجاز ) الى الشمال باتجاه فندق فيكتوريا، وتظهر بوضوح الأرض الخالية أمام المحطة باتجاه جسر فيكتوريا وفندق فيكتوريا ذو الجملون القرميدي اللون ، وتظهر عنابر أصلاح العربات التي تجرها الخيول والتابعة لشركة (طريق الشام العُثمانيّة ـ الديليجانس) الفرنسية البلجيكية في جهة يسار الصورة.

وكذلك يبدو تجمهر الناس المتجهين بعد وصول رحلة القطار والتابعة للخط الحديدي الحجازي قادماً من محطة رياق في لبنان إلى محطة القنوات بدمشق . وفي العمق تظهر غوطة دمشق الغناء.. وسلسلة جبل قاسيون المتصلة بسلسلة جبال القلمون في أعلى يمين الصورة .

مما نستنتج من كلام الأمير محمد علي باشا أن المنطقة برمتها كانت خالية من العمران في بداية عام1910. كما هو واضح في الصورة عند زيارته إلى (الشام شريف) من محطة القطار وحتى فندق فيكتوريا، (والجدير بالذكر أن الأمير محمد علي باشا استقل القطار من اسطنبول الى حمص و منه الى بيروت ثم رياق وصولا إلى دمشق بواسطة وسيلة النقل الفريدة والمريحة في ذلك الوقت وهي ـ الخط الحديدي الحجازي ـ والموصول حتى المدينة المنورة على ساكنها أفضل السلام وأجل التسليم )

يعتبر مبنى محطة الحجاز أول منشأة حديثة تحمل ملامح الأصالة الإسلامية الدمشقية الممزوجة بفن العمارة الأندلسية والمملوكية مع مسحة من الباروك العثماني مما أعطاه تميزاً وتفرداً في هيكلة الأقواس وتيجان الواجهات وعتبات أشكال النوافذ، إضافة الى السقف الجملوني للبناء وأصبغه بالروح الدمشقية .
بالحقيقة: ركز المهندس الإسباني الأصل/ فرناندو دي أرنادا (Frnando De Aranda) أثناء تصميمه للمبنى على معطيات إبراز فنون جماليات روح العمارة الإسلامية بشكل عام والشامية الدمشقية بوجه خاص، والبسها ثوب الحداثة، مستعيناً بمساعده ويده اليمنى بالتنفيذ ( شخص اسمه: ابو أمين الدهان .. فأبو أمين الدهان هذا… له باع طويل في عمل الزخارف الداخلية للمبنى مع الشابيك والقواطع بين الغرف، وزخارف الطابق الثاني، مثله مثل : أبو سليمان/ محمد علي الخياط في بناء لجنة مياه عين الفيجة) .

على الرغم من أن المهندس (فرناندو باشا دي أرنادا) لم يكن شامياً.. دمشقياً.. بل كان إسبانياً.. أندلسياً كما ذكرنا، ولكنه استطاع أن يوظف جميع مكونات العناصر الجمالية الأصيلة في تصميم شكل المبنى المؤلف من الكتلة الرئيسية بالوسط يعلوها جملون كبير يعطى البهو الرئيسي للمحطة، وكذلك الجناحان الشرقي و الغربي للمبنى ككل.

وهذا مخطط هندسي للمبنى تم تجميعه من عدة مخططات في رسم هندسي واحد كما هو واضح ، ومقتبس عن مجلد (مجتمع و عمارة مدينة دمشق العثمانية بالقرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين) للدكتور الباحث شتيفان فيبر من جامعة برلين بألمانيا

وأردف المهندس (فرناندو باشا دي أرنادا) ببنائين مصغرين عن الكتلة الرئيسية في أقصى اليمين وأقصى اليسار، ويعلو كل منها جملون مماثل لها ، كذلك تفنن في شكل النوافذ الجانية الأندلسية الطراز، وزخرفة الواجهات بالخزفيات المملوكية والعثمانية على حد سواء ، وخاصة الواجهة الرئيسة الرائعة من خلال توظيفه للأحجار المستخدمة فيها. ومن ثم قام على تطعيم البناء من الداخل بالزجاج الدمشقي المعشق وبالخشبية الدمشقية (حفر وتنزيل) المحفورة بشكل بديع على الواجهات الداخلية للمبنى.

ـمخطط هندسي جانبي للواجهة الشرقية لمبنى محطة الحجاز مقتبس عن مجلد (مجتمع و عمارة مدينة دمشق العثمانية بالقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين) للدكتور الباحث شتيفان فيبر من جامعة برلين بألمانيا (بتصرف الباحث)

تتألف الواجهة الرئيسية الشمالية لبناء محطة الحجاز و المطلة على ساحة الحجاز نفسها من جبهة حجرية عريضة، ارتفعت على قاعدة من الحجارة البازلتية الصماء عن مستوى الساحة بحوالي 120 سنتيمترعندما قمت بقياسها شخصياً بيدي سنة 2003

يصعد إلى المبنى بثمانية درجات ويوجد في واجهة الطابق الأرضي خمسة نوافذ في كل جناح من جناحي المبنى والمصممة على الطراز العثماني والمستطيلة الشكل مع عتباتها والمكونة من فتحات النوافذ الرئيسية يحميها من الخارج مشغولات خشبية رائعة التصميم ومتوجه بتاج حجري مسطح مربع الشكل ومدكك من الحجارة الأبلقية و\بداخلها شعار الزنبقة الدمشقية الشهيرة على شكل زهرة.. بثلاث ورقات يُشبه شعار الكشافة.

يتوسط الواجهة ثلاثة أبواب ضخمة هي المدخل الرئيس للمحطة، متوجة بأقواس خفيفة الانحناء من الحجر الأبيض و المزي، كذلك يوجد في طرفي الكتلتين الغربية و الشرقية أبواب تصل إلى بهو المحطة يصعد إليها بثمان درجات وقد أخذت شكل البوابة الرئيسية ولكن بشكل مصغر.
وقد برزت فوق الأبواب الثلاثة شرفة كبيرة مستندة إلى أربعة أعمدة رخامية مغموسة في أرضية درج المدخل وقد توجت الأعمدة بمقرنصات خفيفة لتشكل فيما بينها أقواس خفيفة الانحناء داعمة لبروز الشرفة. أما الطابق العلوي عند الشرفة الرئيسية: مزدان بثلاثة أقواس أبلقية التركيب، إسلامية الطراز ونافذتان أندلسية الطراز والتكوين.
 

الطابق العلوي أخذ شكلاً مغايراً كلياً عن الطابق الأرضي من حيث شكل النوافذ التي اتسمت بالطابع الإسلامي ذات الأقواس الدائرية الأبلقية و المبنية من الحجارة البيضاء و السوداء كما هو متعارف عليه في معظم الأبنية الأيوبية والمملوكية بدمشق ، وقد تجلى ذلك بوجود ثمانية نوافذ بكل جناح من جناحي المبنى ذوات الأقواس المدببة و المتميزة بالخصر المدبب في كل توأم من النوافذ .

وتطل الشرفة الرئيسية على ساحة الحجاز و شارع سعد الله الجابري للاحتفالات الرسمية ولقد استمد هذا الطراز من بناء شرفة دائرة الأملاك السلطانية المجاورة لبناء السرايا ، ومن شرفة بناء السرايا نفسه . وقد بنيت من الرخام الأبيض ذو الأعمدة القصيرة و التي كانت صلة الوصل لدرابزين الشرفة التي تشكل مظلة للمدخل الرئيسي وقد اتسمت أيضا شكل نوافذها بالطابع الإسلامي ذات الأقواس الدائرية الأبلقية و المبنية من الحجارة البيضاء و السوداء كما هو متعارف عليه في معظم الأبنية الأيوبية و المملوكية بدمشق .

كما يبدو على البناء بعض اللمسات التزينية الإغريقية (اليونانية القديمة) الظاهرة في الشكل الهرمي لواجهات السطح الذي يعلو المبنى الضخم، ويتوسطه ساعة طنانة كبيرة فوق المبنى الرئيسي وما زالت الى اليوم و كذلك يوجد دائرتين كبيرتين بحجم الساعة في كلا الجناحين الأيمن و الأيسر وكانت فيهما شعار الطغراء (الطرة العثمانية التي شُكلت من توقيع السلطان عبد الحميد الثاني الى جانب كلمة غازي) وقد أزيل هذا الشعار في زمن غير معروفـ لعله أواخر العهد العثماني التركي أو في بدايات الانتداب الفرنسي على سوريا ، و صار مكانه دائرة صماء فارغة.

 

Share this:

Like this:

Like Loading...
%d bloggers like this: