- info@damascus-heritage.org
يحيى بن شرف بن مرى بن حسن، الحزامي 631-676 هجري
أبو زكريا، فقيه شيخ الشافعية، المشهور بالإمام النووي
قطب الأولياء، عمدة الفقهاء و المحدثين، و صفوة الأولياء الصالحين.
ندعوكم إلى رحلة سياحية و إطلالة على سيرة عالم، فقيه، محدّث، لغويّ، نحويّ، برع براعة الأئمة، خاطب العقل، المفكر، ذو القلب المحب المشفق، فجاءت سيرته من أروع السير، تنير طريق من استهدى بهدي محمد صلى الله عليه و سلم، لتكون له شاهداً على مر الزمان و العصور، رزقه المولى صفات و ملكات رائعة، فوظفها أحسن التوظيف، و ما العجب ! إنه الحب الذي إن تمكن من القلب أبدع.
فمن هذا العالم العلامة، الذي ما زال يذكره العالم، بالرغم من أن وقت وفاته بلغ ثماني قرون ؟
إنه الإمام النووي، الذي اشتهر بأمر آخر و برع فيه، وهو الأمر بالمعروف بالحكمة و الموعظة الحسنة، بعد أن تفاعل مع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف( .
فهيا معاً نمضي متلهفين لتأمل صنعة هذا العالِم الفذّ القوي بعلمه و تقواه، فقد كان النووي لا يضيع وقتاً في ليل أو نهار، إلا في الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه كان يشتغل في تكرار أو مطالعة.
مولده و نشأته: يحيى بن شرف بن مرى بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام الفقيه الشافعي النواوي، الحافظ الزاهد شيخ الإسلام، محي الدين أبو زكريا.
ولد في قرية نوى، لأبوين صالحين، أبوه من أهلها المستوطنين، قال الجغرافي الحموي: نوى، جمع نواة التمر و غيره: بليدة من أعمال حوران، و قيل: هي قصبتها، بينها و بين دمشق منزلان، و هي منزل أيوب عليه السلام، و بها قبر سام بن نوح عليه السلام، فيما يقال.
حظي النووي بوالدين صالحين قاما على رعايته رعاية مباركة طيبة تستند على التقوى، قرأ القرآن و حفظه ببلده ثم قَدِمَ دمشق في سن التاسعة عشر مع أبيه، لاستكمال تحصيله العلمي في مدرسة دار الحديث، وسكنَ المدرسة الرواحية بمساعدة العلامة مفتي الشام تاج الدين الفزاري.
و الرواحية : إحدى مدارس الشافعية، داخل باب الفراديس، وتقع شرقي مسجد ابن عروة الذي كان يعرف بمشهد الإمام علي، و هو لصيق الجامع الأموي من جهة بابه الشرقي، ابتناها أحد أصحاب الثروة، التاجر زكي الدين ابن رواحة، ت: 622جزاهم الله خيراً. و قد تحولت المدرسة اليوم إلى دار، كما يقول محمد كرد علي في خطط الشام.
شيوخه: لازم عند مقدمه الشيخ كمال الدين إسحاق بن أحمد المغربي، ثم حج مع والده و عاد ثم سمع من: الحافظ زين خالد النابلسي، وأبا الفرج عبد الرحمن بن أبى عمر، ومحمد بن أحمد المقدسي وهو أجل شيوخه، و ابن عبد الدائم، و تفقه على كمال الدين إسحاق المغربي، و الشيخ كمال الدين ابن الإربلي، و عزالدين عمر بن أسعد الإربلي وغيرهم.
تلاميذه: علاء الدين بن العطار – ومن أشهر تلاميذه الشيخ المزي، وخَلقٌ كثيرٌ من الفقهاء والعلماء، وصار علمه وفتاويه في الآفاق، انتفع الناس في أنحاء العالم بتصانيفه، فأكبوا على تحصيل مؤلفاته.
وحدَّثَ تلميذُه علاء الدين بن العطار ـ على لسان النووي- عن برنامجه العلمي اليومي، أنه كان يقرأ كلَّ يوم اثني عشر درسًا على المشايخ شرحًا وتصحيحًا، درسين في الوسيط، وثالثًا في المهذب، ودرسًا في الجمع بين الصحيحين، وخامسًا في صحيح مسلم، ودرسًا في اللمع لابن جنّي في النحو، ودرسًا في إصلاح المنطق لابن السكيت في اللغة، ودرسًا في الصرف، ودرسًا في أصول الفقه، ودرسًا في أسماء الرجال، ودرسًا في أصول الدين، وكان يكتبُ جميعَ ما يتعلق بهذه الدروس من شرح مشاكل وإيضاح عبارة وضبط لغة، ثم تحدث عن نفسه قائلاً : (و بارك الله لي في وقتي، فخطر لي الاشتغال في علم الطب، فاشتريت كتاب “القانون” و عزمت الاشتغال فيه فأظلم علي قلبي، و بقيت أياماً لا أقدر على الاشتغال بشيء، ففكرت من أين دخل علي الداخل، فألهمني الله أن سببه اشتغالي بالطب، فبعت “القانون” في الحال فاستنار قلبي)
أخلاقه و صفاته : ـ مهيبًا، قليل الضحك، عديم اللعب مع أقرانه مفضلا تلاوة القرآن، وكان رحمه الله لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد العشاء الآخرة، وما أكل من فاكهة دمشق شيئاً.
ـ وكان الزهد والورع أهم ملامح شخصيته؛ حيث أجمعَ أصحابُ كتب التراجم أنه كان رأسًا في الزهد، قدوة في الورع و التقوى لا يأكل إلا مما يبعثه له والده.
ـ يقول الحق : لا يخاف في الله لومة لائم، لا مثيل له في مناصحة الحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وكان لا يأخذ من أحد شيئًا، فكان كثيرًا ما يكاتب الأمراء والوزراء، وينصحهم لما فيه خير البلاد والعباد.
عُثر على رسالة في كتب التاريخ من الإمام النووي إلى السلطان الظاهر بيبرس:
(فنسأل الله الكريم أن يوفِّق السلطان للسنن الحسنة التي يُذْكَر بها إلى يوم القيامة، ويحميه من السنن السيئة، فهذه نصيحتنا الواجبة علينا للسلطان، ونرجو من فضل الله تعالى أن يلهمه الله فيها القبول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، رسالة معناها أن في عنق العلماء أمانة، وأن واجب الذين تعلموا العلم أن يبينوا إذا وقعت هناك مشكلةٌ بسبب مخالفة منهج الله عزَّ وجل، فهذا هو الود، وهذا هو اللطف، وهذه هي الحكمة، وهذه هي الموعظة الحسنة، ومن توهَّم أن النصيحة تحتاج إلى قسوة، وإلى كلامٍ يجرح، وإلى موقفٍ أرعن، فهذا إنسانٌ جاهل، ذلك لأن الله عزَّ وجل حينما أرسل موسى إلى فرعون، وموسى نبيٌ عظيم، وفرعون طاغيةٌ كبير، قال : ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾.
بالمجمل كان قطب زمانه، سيد عصره، كما قال السبكي عنه قائلاً : و التطويل في ذكر كراماته تطويل في مشهور و إسهاب في معروف.
تميزت حياته العلمية بعد وصوله إلى دمشق بثلاثة أمورا بقيت متلازمة لحين وفاته:
الأول: الجدّ في طلب العلم والتحصيل من أول نشأته وفي شبابه.
والثاني: سعَة علمه وثقافته، فقد جمع إلى جانب الجدّ في الطلب غزارة العلم والثقافة المتعددة، كان يقرأ كلَّ يوم اثني عشر درسًا على المشايخ شرحًا وتصحيحًا.
الثالث: غزارة إنتاجه، فقد بدأ التأليف عام 660 هـ، أي في الثلاثين من عمره، وقد بارك اللّه له في وقته، وأعانه، فأذاب عُصارة فكره في كتب ومؤلفات عظيمة ومدهشة، تلمسُ فيها سهولةَ العبارة، وسطوعَ الدليل، ووضوحَ الأفكار. وما زالت مؤلفاته حتى الآن تحظى باهتمام كل مسلم.
وكان النووي سريع الحفظ؛ حفظ عدة كتب في مُدَدٍ وجيزة، فنال إعجاب وحبَّ أستاذه أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد المغربي، فجعلَه مُعيد الدرس في حلقته، ثم درَّسَ بدار الحديث الأشرفية، وغيرها.
فإذا تأملنا نشأته العلمية الفذة منذ الصغر لتبين لنا رعاية الله له و صناعته على عين الله عز و جل أنعم بها من رعاية.
ومن مؤلفاته العلمية المتنوعة المشهورة عنه، نجد شخصية النووي كالتالي:
وظائفه : تولى التدريس في عدة مدارس منها، المدرسة الإقبالية، نيابة عن ابن خلكان إلى آخر سنة 669هـ . كما ناب النووي -أي صار نائبًا- في مدرستي الفلكية والركنية . وتولى دار الحديث الأشرفية في الفترة (665- 676هـ)؛ وهي أشهر دار في بلاد الشام لعلم الحديث، والمتعارف عليه ألا يلي مشيختها إلا عظيم وقته في العلم، وخصوصًا علم الحديث، ولقب بشيخ دار الحديث، نال في العلم أجل الألقاب، وقد وليها قبل النووي : ابن الصلاح، وشهاب الدين أبو شامة المقدسي. وقال التاج السبكي: “قال والدي: إنه ما دخلها -أي دار الحديث الأشرفية- أعلم ولا أحفظ من المزي، ولا أورع من النووي وابن الصلاح” .
مؤلفاته: لقد ترك من المؤلفات ما لو قُسم على سنين حياته القصيرة التي عاشها، لكان نصيب كل يوم كراستين، ومن أشهر مؤلفاته: – “المنهاج في شرح مسلم”، و”روضة الطالبين”، من الكتب الكبيرة المعتمدة في المذهب الشافعي، “الإيضاح في المناسك”، “الأذكار”، “رياض الصالحين”، “الإرشاد”، “التقريب و التيسير”، “التبيان في آداب حملة القرآن”، “الأربعين النووية”، و غيرها الكثير المتنوع من المصنفات و المؤلفات، تعجز السطور و الكلمات عن عدها، اللهم اجزه عنا خير جزاء.
وفاته: توفي الإمام النووي سنة (676هـ) بعد أن رجع إلى نَوى وردَّ الكتب المستعارة من الأوقاف، وزار مقبرة شيوخه، دعا لهم وبكى، وزار أصحابه الأحياء وودّعهم، وزار بيت المقدس والخليل، ثم عاد إلى نوى؛ فمرض بها، ومات في 24 من رجب؛ فرحمه الله رحمةً واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ما أعظمها من سيرة نستلهم منها الكثير من “العبر و العظات”، أهمها حديث المصطفى: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، علم ينتفع به، صدقة جارية)، فلينظر كل منا ماذا صنعت يداه.