B024

مدافن المسيحيين القديمة في دمشق

بقلم الاديب والمؤرخ والمترجم الاستاذ حبيب السيوفي .والد الدكتور جوزيف السيوفي الشهير.
استعيد اليوم موضوع مهم يجهله الكثير من الدمشقيين. وقد يكون سماعه عندهم هو للمرة الاولى .!؟ ..وقد كتبه الاستاذ السيوفي في منتصف القرن العشرين .وساقدمه على قسمين .
تقع مدافن المسيحيين في دمشق على مقربة من الباب الشرقي الاثري ، في مكان يدعى تل العظام.ولا يعرف متى بدئ بدفن الاموات فيه .وتشير الدلائل الى انه قديم جدا، ولعل عهده يعود الى ما قبل الميلاد كما يتضح من بعض الاثار القديمة التي عثر عليها فيه .
وقد كشف النبش عن قبور متراكمة، لاجل ذلك دعوه تل العظام. ولا شك ان المسيحيين جعلو يدفنون فيه منذ القرون الاولى. والقديس جاورجيوس (هو غيرالقديس جاورجيوس الذي يمثلونه في هيئة فارس في يده رمح يطعن به تنينا رابضا عند اقدام جواده .
اما القديس جاورجيوس الذي يدور كلامنا عنه فانه حبشي ضابط في جيش مدينة دمشق (الرومانية ) . وكانوا قد عهدو اليه في حراسة البرج الذي على السور هناك فلقد سهل هذا القديس الحبشي الاصل الهرب للقديس بولس لاجل ذلك حكموا عليه بالموت . (ص: 593 من كتاب الاراضي المقدسة للاب مايسترمن)
الذي عاش في القرن الاول ودفن فيه واقيم بعدئذ على قبره مزار في شكل معبد. وهو المعبد الذي يقال ان احد ولاة دمشق امر بدكه مدفوعا بوشاية رفعت اليه مؤداها ان المسيحيين خبأوا في اسفله كنوزا عظيمة الشأن .فذلك الخبر الملفق اثار فيه الطمع والشوق الشديد الى الحصول عليها لاعتقاده انه تجعله صاحب ثروة بين عشية وضحاها .
ثم حدث ان اكره المسيحيون على الكف عن دفن موتاهم في تل العظام . فاخذوا يدفنون في كهوف واقعة في اسفل كنيسة مار نقولا وهي التي دخلت بعدئذ في كنيسة المريمية .( كان قديما في هذا المكان ثلاث كنائس اولاها كنيسة المريمية وهي اكبرها واشهرها واقدمها وكان يقال لها الكنيسة الجوانية لتميزها من البرانية المقامة على اسم القديس كبريانس والقديسة يوستينا والثالثة على اسم القديس نقلاوس. ( راجع الحاشية للاب قسطنطين الباشا في ذيل صفحة 110 من كتاب تاريخ الشام للخوري ميخائيل بريك الدمشقي طبعة الاباء البولسيين – حريصا .) .
غير انه في منتصف القرن السادس عشر فشا وباء فتاك بدمشق .فخوفا من استفحال امره، وتفاقم اضراره امر الوزير صاحب دمشق . ان يعود المسيحيون الى دفن موتاهم في تل العظام.
ولكي لا يقدم احد على منعهم او التعرض لهم دفع الى البطريرك بحجة شرعية تخولهم حق الاستيلاء على التل وقيل انها محفوظة الى اليوم في بطريركية الروم الارثوذكس. ولولا تلك الحجة ما جرؤ المسيحيون على دفن جميع موتاهم هنالك .وقد يتبادر الى الذهن ان خصما قويا لا طاقة لهم على مقاومته ولا سبيل الى معاداته اكرههم لغرض بنفسه على التخلي له عن مكان كان يضم اجداث ابائهمواجدادهم . فمنذ ذلك الحين ، ظل تل العظام المثوى لجميع اموات المسيحيين .بلا تمييز ولا تفريق اذ انه الى قرنين او ثلاثة قرون خلت كانت سلطة كنسية واحدة تهيمن عليهم .وكاتدرائية جامعة واحدة تضم شتاتهم لا فرق بين اصيلهم والمقيم بين ظهرانيهم. وبعد ان صار مسيحيو دمشق فريقيين واصبح لكل فريق كيان خاص. اخذ كل منهما يدفن موتاه على حدة في التل . واما القسمة النهائية الرسمية .فانها جرت في سنة 1923 م .
ومما يجدر ذكره ان الطيب الاثر المطران افتيموس الصيفي مؤسس دير المخلص الشهير في الربع الاول للقرن الثامن عشر دفن في البقعة التي الت بمقتضى القسمة الى طائفة الروم الارثوذكس ثم نقل الى ديره رفاته وحجر ضريحه الحامل اسمه وتاريخ وفاته.
فاصبح بعد تلك القسمة لكل واحدة من الطوائف المسيحية كاثوليكية وارثوذكسية قطعة من التل خاصة بها. واما القطعة التي الت الى طائفة الروم الكاثوليك فهي الواقعة ما بين قطعة الارمن الكاثوليك غربا .وقطعة الروم الارثوذكس شرقا .وقد سعى انئذ رئيس طائفة اللاتين بواسطة قنصل ايطاليا في دمشق لدى الطيب الذكر البطريرك ديمتريوس قاضي . للتخلي لللاتين عن جزء من قطعة طائفته وهو الجزء الذي فيه الصخرة فالبطريرك لبى الطلب بشرط ان يبقى ذلك الجزء ملكا للطائفتين. وان لا يكتب شيء فوق مدخله . وان يحتفظ كل من الطائفتين بمفتاح له للدلالة على ان حقوقهما عليه متساوية . ومن الشروط المتفق عليها ايضا ان يبني اللاتين فيه معبدا على نفقتهم. ويرى هنالك حتى اليوم قبورا لبعض من طائفة الروم الكاثوليك .واللاتين لا يدفنون فيه بل في مكان اخر واقع الى جنوب شارع يفصل بينه وبين مقبرة السريان الكاثوليك .
اما الصخرة التي هنالك فان المسيحيين جعلوها مزارا منذ القدم لاعتقاد بعضهم .ان عليها حدثت الرؤيا التي على اثرها اهتدى بولس الى الديانة المسيحية .
ويؤكد غيرهم ان وراءها او تحتها اختبأ بولس من طالبي قتله . بعد ما دلي في زنبيل من اعلى السور. ومن المشهور ان مسيحيي دمشق ثابروا منذ القرون الاولى على زيارتها كل سنة في عيد القديس ( 29حزيران ) .لاجل ذلك هي معروفة لدى جميعهم بصخرة مار بولس .
( لم تتفق الاراء على حقيقة المكان حيث حدثت الزؤيا فقد قال الاب ميسترمن العالم بالاثار المسيحية
“”زار انطونيوس البليزنسي في سنة 570 مكان اهتداء بولس عند التخم العسكري الثاني للمدينة فرأى فيه ديرا على اسم بولس الرسول.واما القديس وليبليد فانه شهد في القرن الثامن كنيسة الاهتداء على بعد فرسخين من المدينة. وروى فرتيلوس حوالي سنة 1148 م ان تلك الكنيسة تقع على مسافة فرسخين ايضا . وقال انطون الكريموني القرن 14 م انها تبعد فرسخا واحدا. ثم على مسافة 18 كيلو مترا من السور القديم جنوبا بغرب قرية كوكبا حيث اطلال كنيسة قديمة بقرب رابية تدعى تل مار بولس على جنب الطريق الرومانية الاتية من الجبل.)
كانت طائفة الروم الكاثوليك قد ابتاعت في سنة 1894 م .اي قبل القسمة التي جئنا على ذكرها ارضا واسعة الى شمال البقعة التي الت اليهم بمقتضى تلك القسمة فاقبلوا على دفن موتاهم فيها. ثم ضموا اليها في سنة 1913 م ارضا اخرى تقدر مساحتها ب200 قصبة ، وهي تقع الى جنوب المدخل الجديد. وهكذا اوجدوا مقبرة واسعة واحاطوها بسور من جهاتها الاربع .وهي اليوم اجمل مقبرة بدمشق بل في سوريا.كلها بما ادخل عليها من التنظيم والتحسين والتعمير. فاذا دخلتها من بابها الجديد الكبير الذي الى جانبيه بابان صغيران الفيت باحة مرصوفة بالبلاط المتقن الصنع المحكم الوضع. ثم تتسع حتى تصل الى الضرائح وتمتد من ثم حتى السور الغربي بشكل طريق مستقيمة عريضة .
وقد يخيل اليك لاول وهلة انك لا تلج مقبرة بل جنينة واسعة الارجاء حافلة بالاشجار والازهار. فتستقبلك بادىء ذي بدء حديقتان الواحدة على يمينك والاخرى عن يسارك .جميلتا الترتيب رائعتا التنسيق اتبع في وضعهماالنمط الغربي . وهما يؤلفان منظرا لطيفا انيقا ويشق الحديقتين في طولهما ممران مكتسيان بحصباء ناعمة بيضاء وفي وسط تلك التي الى يسارك فسقية يتدفق فيها ماء عين الفيجة ويتشعب منهما مجار صغيرة لارواء اغراس الازهار. وقد نصبوا بلصق السور الشرقي بقرب الحديقتين حوضين او خزانين من الحديد يسقون منهما الاشجار المنصوبة عد قدم السور . ( ان هذا الوصف الدقيق الذي وثقه الاستاذ السيوفي قد زال بنسبة 80% اذ استبدلت الحدائق بضرائح جديدةوازيلت الاشجار والبسانين !!!؟؟؟
انها جريمة اقترفتها ايدي المسؤولين والمؤتمنين من الكنيسة بحق هذا المدفن الذي يوما بعد يوم يفقد من جمال تصميمه لصالح احداث ضرائح تبيعها اللجنة المؤتمنة بملايين الليرات !!!؟؟ انه صرخة اوجهها الى غبطة البطريرك المسؤؤل الاول عن ارث اجدادنا الذين دفعوا من مالهم الخاص لاقامة هذا المدفن … ) …
(اتابع المقال ) .. غير ان ما يستثير فيك منتهى الاعجاب. تلك الكنيسة الحديثة الرائعة المشيدة على طراز بيزنطي لطيف. فترى قبتها الكبرى بما على دائرتها من الرواشن الفائض منها النور الى داخلها .
ثم القبب الاربع الصغيرة القائمةكل منها على زاوية من الزوايا الاربع. فهي والقبة الكبرى تمثل لك خاتونا جليلة القدر ومن حولها وصائفها الاربع. وتسترعي انتباهك الحنية الكبيرة والمداميك المبنية . بنسق متصق من الحجر الصوان الذي لا يقوى الزمان على التأثير فيه. او النيل من صلابته .وقد جيء به من مقالع لبنان .وكأن الذين وقفوا على بناء هذه الكنيسة قد توخوا لها الخلود . ولعلهم رمزوا بذلك الى ما يتمنونهمن الخلود في جنة الفردوس لارواح اعزاءهم وجميع الذين رقدوا بالرب من ابناء طائفتهم .
ثم يلفت نظرك ايضا الواح من المرمر الناصع في اطر من المرمر ايضا ركب على جدار الكنيسة من الخارج في اعلاها ايات كريمة تغبط المؤمنين الصالحين الذين امتقلوا من هذه الفانية الى الدار الباقية . ويلي الاية اسم المتوفي او المتوفين الذين جرى دفنهم او نقل رفاتهم الى ما تحت تلك الالواح من الكهوف التي يبلغ عددها واحدا وعشرين .والجدير بالذكر انها جميعها مماثلة القد والصنع والشكل .
وفي الزاوية الجنوبية الغربية على علو يسير من الارض قطعة من الرخام كتب فيها : وضع حجر الزاوية لهذه الكنيسة غبطة السيد البطريرك مكسيموس الرابع الصائغ الكلي الطوبى في يوم الاحد في 4 نيسان 1948 م .
وامام مدخل الكنيسة رواق والى يمينه لوح من الرخام كتب فيه .كنيسة القيامة المجيدة – شيدت في عهد كيريوس كيريوس مكسيموس الرابع الصائغ الكلي الطوبى بطريرك انطاكية وسائر المشرق والاسكندرية واورشليم. بمساعي لجنة القديس بولس الرسول التي يرأسها يوسف سليم قندلفت .
والى يسار المدخل لوح مماثل فيه ايضا : وضع تصميم هذه الكنيسة واشرف على تنفيذه بدون مقابل مهندس الجمعية خليل جرجي شنيارة وقد انتهى العمل من تشييدها في اخر سنة 1949 م ودشنت يوم الاحد الواقع في واحد تشرين الاول لسنة 1950 م
وداخل الكنيسة لا يقل جمالا ورونقا عن خارجها .فقد فرشت ارضها بالبلاط الجميل . وجهزت بالمقاعد للشعب .وبالكراسي للكهنة وعرش للاسقف .ودلي من سقفها وقبتها الوسطى مصابيح من الفضة وثريات كهربائية جميلة .والحنية ارضها اعلى من باقي ارض الكنيسة . وقد رصفت بحجر ملون يعرف “”بالرعيتي”” اتوا به من مقلع واقع في جوار مدينة زحلة بلبنان . وعمل المذبح من قطع ضخمة من ذات الحجر . وقد تبرعت بنفقاته المحسنة الشهيرة الانسة ماري كحيل .
اما طول الكنيسة من منتصف الحنية حتى مدخلها فهو 25 مترا وعرضها 15 مترا وارتفاعها من ارضها حتى قبتها الوسطى 12 مترا . وقد انفق على تشييدها نحو 61،000 ليرة سورية .فجاءت معبدا انيقا رائعا. ينطق بكا لواضع مخططتها المهندس العبقري السيد خليل شنيارة من الحذق والمهارة وسلامة الذوق .وهي ايضا اثر خالد يشيد على مدى الايام والاعوام بما بذلته في سبيلها واصلاح المدفن برمته اللجنة التي شاء انشاءها صاحب الغبطة الجليل النبيل باصداره مرسومه الكريم في 7 شباط سنة 1948. فان اعضاءها هم السادة : توفيق سماك. يوسف قيومجي. يوسف وردة . خليل شنيارة . يوسف عقل. عبد الله خياطة . جرجي جناوي. جرجي فرح. وفي طليعتهم رئيسهم النشيط. والمحسن الكريم صاحب المبرات الكثيرة السيد يوسف سليم قندلفت.وجميعهم من وجهاء قومهم وكرماء طائفتهم.
فقد قامو احسن قيام بالمهمة التي اخذوا على عاتقهم اداءها. وبذلوا الجهود في سبيلها. مضحيين بوقتهم وراحتهم ومالهم من اجلها. فانجزوا في سنتين ما عجز الذين سبقوهم عن القيام به في عشرات من السنين. فاستحقوا الثناء العميم والشكر الجزيل. تولى الله في اثابتهم فهو السميع المجيب .