الفسيفساء وصناعتها قديما عند الروم الارثوذكس الدمشقيين

قدم هذا البحث الى الاكاديمية الملكية البلجيكية للبحاثة المرحوم الاستاذ حبيب زيات الدمشقي .
 .عام 1939 م. ونال عليه الاعجاب والتقدير .نقتطف بعض ما جاء فيه .
مقدمتي :
ان معظم ان لم نقل كل من كتب وارخ للجامع الاموي بدمشق؛ من مؤرخين قدماء قد وقع باخطاء كبيرة نظرا لعدم معرفتهم الجيدة وتفريقهم بين روم القسطنطينية وروم سورية . ومحاولة اعطاء معلومات مضخمة وغير صحيحة ومنطقية عن بناء وتزيين الجامع .. وهنا تصدى لهم الزيات وبين اخطاءهم ..
وكذلك المؤرخين المعاصرين والحديثين الذين نقلوا اخطاء القدماء . وزادوا اخطاء فادحة بطمسهم واخفاءهم لدور المسيحيين الدمشقيين والمتعمد في اعادة اعمار وتزيين الجامع الاموي .(الدور التقني والفني ) .. ومن هذا الواقع الذي يريدون فرضه علينا !!؟؟ نرد عليهم بما جاء في بحث الاستاذ المرحوم الزيات .وكذلك من خلال بحثي وابرازي الوثائق التي تضحض وتبين دون ادنى التباس دور المسيحيين الدمشقيين من معماريين ومرخمين وغيرهم لهذا الطمس والتغييب !!
ولعل وعسى ان يغيروا ويعيدوا تقييم ما كتب وما يكتبون ..
مقاطع البحث .
الفسيفساء ، كما يدل عليه لفظها، صناعة رومية . وهي فصوص صغيرة تكون اما من الزجاج الملون وبعضه شاف كالجامات(مروج الذهب للمسعودي) واما من الحجر المعجون تغشى بالذهب ويطبق عليها زجاج رقيق .ثم يعجن الشيد اي الجص ونحوه بالصمغ العربي ويبسط على الحائط .وترصع فيه هذه الفصوص على اشكال شتى ونقوش محكمة تتألف منهاصور ورسوم وكتابات تتلألأ بالذهب والاصباغ الزاهية . فتبهر الابصار برونقها ولطافة صنعها . ويؤخذ من وصف شهاب الدين العمري لها ان ما كان معمولا منها بالزجاج ، مموها بالذهب، كان يقال له المسحور (اي المطلي) . وهو القديم . وكانت قطعه متناسقة على مقدار واحد . ويقال له ايضا الرومي او القسطنطيني ، نسبة الى اصل وضعه بالقسطنطينية ، لا لانه من عملها دائما .ومنه ما هو بجامع دمشق ، وفي قبة الصخرة ، وما كان في مسجدي المدينة ومكة (احسن التقاسيم للبشاري المقدسي) .
ويعرف الجديد من القديم بأن قطعة مختلفة غير متساوية . واكثر ما يكون من المعجون الملون .قال العمري : وقد عمل منه في هذا الزمان شيء كثير برسم الجامع الاموي . وحصل منه عدة صناديق وفسدت في الحريق الواقع سنة اربعين وسبعمائة (1339) م وعمل منه قبل للجامع التنكزي . ما على جهة المحراب. غير انه لا يجيء تماما مثل المعمول القديم في صفاء اللون وبهجة المنظر (مسالك الابصار ) .
واقدم من ذكر صناع الفسيفساء بالشام ، فيما وفقنا عليه البلاذري صاحب فتوح البلدان المتوفي عام 892م .قال بعد ان روى امر الوليد بن عبد الملك الى عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة بهدم المسجد وبنائه ؛” وبعث اليه بمال وفسيفساء ورخام وثمانين صانعا من الروم والقبط من اهل الشام ومصر. وفي قراطيس البردي المحفوظة في خزائن بريش موزيوم ان القبط الذين كان الامويون يستعينون بهم في ابنيتهم ، كانوافعلة وبنائين ونجارين فقط . ولم يكن بينهم صانع فسيفساء .وفعل مثل ذلك الخليفة العباسي المهدي حين اراد اعادة بناء المسجد الحرام بمكة . فالبس اروقته من الظاهر بالفسيفساء . وشاهدها البشاري المقدسي فقال : حمل اليها صناع الشام ومصر. الا ترى اسماءهم عليه ؟” ولا شك ان هذه الاسماء كانت منقوشة بالعربية حتى استطاع تميزها . وليته ذكر لنا بعضا منها ..
وقد اشتبه اسم الروم على اليعقوبي والطبري وابن الاثير وسائر من نقل عنهم من الكتبة والمؤرخين وظنوا ان صناع الفسيفساء كانوامن القسطنطينية . ولم يروا بدامن تقدير قدومهم منها بطلب من الوليد بن عبد الملك . زعموا انه كتب الى القيصر يسأله ان يعينه على عمارة مسجد النبي . فبعث اليه بالرجال والعمال واحمال الفسيفساء والذهب . واختلفوا في العدة فابلغوا الصناع الى مئتين .وزاد ابن خلدون ان الوليد استكثر معهم من فعلة الشام (العبر) . وجروا على هذا النمط من المجازفة والتخريف في كلامهم على بناء مسجد دمشق واضافوا ان الوليد وجه الى الطاغية ، كما يقولون ” يأمره” بانفاذ الرجال والاموال والفصوص . وقد ملأ خطابه زمجرة وتهديدا . وتوعد فيه بغزو بلاد الروم وازالة كل اثارهم في الاسلام . ،” وتخريب كل كنيسة في بلاده حتى كنيسة القدس وكنيسة الرها “( الثالث من الاعلاق الخطيرة لابن شداد .برتش موزيم ) . ان لم يبادر صاغرا ذليلا الى امتثال امره . ومن الغريب ان خطاب الوليد لملك الروم من اجل مسجد المدينة . وخطابه ايضا في بناء جامع دمشق – على افتراض صحتها- كانا في ان واحد . لان بناء المسجدين ابتدأ حقا في سنة سبع وثمانين للهجرة (706) م. فكيف اختلفت اللهجتان !؟ هذا الاختلاف الشديد القبيح . وماذا حدث من الاحداث العظيمة في فترة ما بين الخطابين حتى تحول الوليد لفوره من موقف السائل المستعين الى مقام المتوعد المستطيل . واين عزة الخلافة في موقفه الاول !!؟؟ وهل كان الوليد مفتقرا الى صدقات كلب الروم ، كما يسميه البشاري !!؟ وهم يزعمون انه انفق في المسجد خراج الشام سبع سنين . فضلا عن ثماني عشرة سفينة ذهب وفضة اقلعت من قبرص. (احسن التقاسيم) .
وقد تباينت اقوالهم ايضا في عدة صناع الروم القادمين في دعواهم ، من القسطنطينية لزخرفة الجامع الاموي حتى جعلها ابن جبير وابن بطوطة في رحلتيهما وشمس الدين البصراوي في فضائل الشام 12،000 واربى عليها محمد بن ابي بكر السمرقندي في التهويل والاغراق . فلم يتوقف عن ايصالها في كتابه تاريخ البلدان الى 40،000 !! دون ان يفطن احدهم استحالة انزال مثل هذا الجيش العرمرم من الروم الاعداء في حاضرة الخلافة ولا سيما في وقت كانت فيه الحروب قائمة على قدم وساق بين المملكتين !!!!!!
وما ندري كيف فات كل هؤلاء المؤرخين ان فسيفساء دمشق او المدينة لم تكن اول زخرفة في المساجد . وان عبد الملك بن مروان سبق ابنه الوليد باتخاذها في قبة الصخرة ببيت المقدس .وفرغ منها كما هو مكتوب فيها ، سنة اثنين وتسعيم (691) م .اي قبل الشروع ببناء مسجدي المدينة ودمشق . بخمسة عشرة سنة !! فاين وجد عبد الملك صناع الفسيفساء وقتئذ سوى في الشام وفلسطين ؟؟ وقد شهد سبط ابن الجوزي في مرأة الزمان ، انهلما عزم على بناء قبة الصخرة والجامع الاقصى “سار من دمشق ومعه الاموال والعمال “” (خزانة بريتش موزيوم) . ولذلك لم يشر احد من الرواة والمؤرخين الى استعانة عبد الملك بملك الروم لاستقدام عمال الفسيفساء من القسطنطينية . وقد كان اكثر دالة عند البيزنطيين واحق لديهم بالمداراة والاهداء ! في حين كان يدفع لهم الجزية لاشتغاله عنهم بخرب ابن الزبير . خلافا لابنه الوليد . فانه ، منذ تبوأ عرش الخلافة لم يفتأ يوالي الغزوات الصائفة والشاتية على الروم ويستبيح ديارهم قتلا وتخريبا ، بحيث لم يبق موضعا للصلح والمجاملة ولكي يتضح جليا امتناع الموادعة والمساعدة بين خصمين كان الوليد بينهما هو البادىء بالاساءة والعداء .
فكيف يعقل ان يتبرع ملك الروم فيها لعدوه بمال كان احوج لامساكه !!؟؟ وكيف يقبل طوعا اعانة الوليد على هدم كنيسة الروم المنتسبين اليه بدمشق !!؟؟ وتحويلها الى مسجد على يد صناعهالاخصاء !!؟؟ بعد ان كان هو اول منكر لهذا التحويل فيما حكاه اكثر المؤرخين في الاسلام . وقد جهل المؤرخون البيزنطيون كل هذه العلائق المزعومة بين الملكين !!؟؟ ولم يشيروا بحرف واحد الى كل هذه الهبات والمعونات بالرجال والاموال واحمال الفسيفساء في كلامهم على اغتصاب كنيسة دمشق وتحويلها الى جامع !!
ومن البلية ان يذهل كل من ذكر الفسيفساء بعد البلاذري انها كانت معروفة في الشام ومصر والعراق واليمن قبل ان يولد الوليد وقبل ظهور الاسلام .وان صناعتها لم تكن غريبة بدمشق بل كانت منتشرة في امهات المدائن التي كانت في ملك البيزنطيين .وخصوصا في انطاكية واورشليم ومادبا بحيث كانت اعظم الكنائس واهم الاديار مزدانة في جدرانها وسقوفها وهياكلها بهذه الفصوص المذهبة على ضروب شتى من التمثيل والتصوير . وقد تنافس فيها كل المسيحيين من الملكيين واليعاقبة والنساطرة وحتى العرب انفسهم من اللخميين والغساسنة والنجرانيين. ومن اهم الشواهد على ذلك قول البكري :
“كان اهل بيوتات يتبارون في البع وزينتها. ال المنذر بالحيرة وغسان بالشام وبنو الحارث بن كعب بنجران ويعتمدون ببنائهم المواضع الكثيرة الشجر والرياض والمياه . وكانوا يجعلون في حيطانها وسقوفها الفسافس والذهب. وكان على ذلك بنوا الحارث الى ان اتى الله بالاسلام(معجم ما استعجم في الكلامعلى دير نجران ) .
ولما قدم ابرهة الحبشي الى صنعاء في اليمن وبنى فيها كنيسته المشهورة جعل فيها فسيفساء وهي التي حمل منها الى مكةلما شرع ابن الزبير في بناء الكعبة فيما رواه المسعودي بمروج الذهب واقتدى بابن الزبير الوليد من الامويين والمهدي من العباسيين حين جدد مسجدي الندينة ومكة فبناهما بانقاض الكنائس والاديار شأن الكثير من المساجد بالاسلام . ومن هنا يعلم غلط الرواة والمؤرخين الذين زعموا ان الوليد كتب الى ملك الروم يسأله ان يعينه على بناء مسجد المدينة فبعث اليه فيما قالوا باربعين حملا من الفسيفساء مع الرجال والاموال ؛ وانما كانت هذه الاحمال مما قلع من البيع والديارات والخرائب في الشام . ولنا في ذلك شهادة الطبري حين ذكر بناء مسجد المدينة قال: فامر الوليد ان تتبع الفسيفساء في المدائنالتي خربت فيبعث بها الى عامله عمر بن عبد العزيز وعلى مثل هذه الخطة جرى ايضا بناء جامع دمشق حكى المير خالد القسري (التعريف بالمصطلحالشريف للعمري)
” كنا معشر اهل الشام واخواننا من اهل مصر والعراق نغزو. فيفرض على الرجل منا ان يحمل من ارض الروم قفيزا من فسيفساء وذراعا من ذراع من رخام فيحمله اهل العراق واهل حلب الى حلب ويستأجر على ما حملوه الى دمشق ويحمل اهل حمص الى حمص فيستأجر ما حملوه الى دمشق ويحمل اهل الشام من ورائهم حصتهم الى دمشق “. ومن ثم فليس الا الله وحده يعلم ما دخل في جامع دمشق من السلب والغصب والعواري . وانماامتثل الامويون والعباسيون بما فعله قديما انوشروان ملك الفرس . والتقليد من اقدم خصال الشرق !! روى المسعودي انه لما عاث في مدن الشام وافتتح ارض الروم نقل من الشام المرمر والرخام وانواع الفسيفساءوالاحجار.. وحمل ذلك الى العراق فبنى مدينةنحو المدائن وسماها برومية . وجعل بنيانها وما داخل سورهامما ذكرنا من انواع الاحجار . يحكي بذلك انطاكيا وغيرها من مدن الشام ” وهو دليل اخر على كثرة ما كان من الفسيفساء في الشام وانتشارها في كل النحاء والابنية حتى استطاع انوشروان نقل ما يكفي لتزيين مدينة برمتها تحاكي انطاكيا . ولا غرابة بذلك فان انطاكيا لا تزال الى اليوم معدن الفسيفساء في الشام لكثرة ما يكتشفه علماء الاثار في حفائرهم فيها منالرسوم والبقايا . وتكفي الاشارة في فلسطين الى مادبا في البلقاء ومصورها المشهور ليعلم انتشار هذا الفن في كل الديار الشامية وانه كان فيها قبل خلافة الامويين فنا بلديا راسخ القدم له صناعه واساتذته من اهلها يتوارثه الخلف عن السلف دون اقل حاجة الى الاستعانة عليه برجال القسطنطينية .
ولا شك ان الوليد لم يتخذ في جامع دمشق هذه الفصوص المذهبة الرائعة الا لانه كان عاينها واعجب بها في كنائس دمشق .وقد نقل لنا البشاري المقدسي رأيا سمعه عن عمه يدلنا على السبب الذي اغرى الوليد ببناء جامعه بمثل هذه الزخارف والفنون قال:
“قلت لعمي : يا عم لم يحسن الوليد حيث انفق اموال المسلمين على جامع دمشق ولو صرف ذلك في عمارة الطرق والمصانع ورم الحصون لكان اصوب وافضل . قال لا تعقل يا بني ان الوليد وفق وكشف له عن امر جليل وذلك انه رأى الشام بلد النصارى .ورأى لهم فيه بيعا حسنة قد افتن زخارفهاوانتشر ذكرها كالقمامة (يقصد كنيسة القيامة بالقدس وقد اطلق عليها المسلمون كنيسة القمامة !!!) واللد والرها فاتخذ للمسلمين مسجدا شغلهم به عنهم ! ؟ وجعله احد عجائب الدنيا .الا ترى ان عبد الملك لما رأى عظم قبة القمامة وهيئتهاان تعظم في قلوب المسلمين .فنثب على الصخرة قبة على ما ترى..(احسن التقاسيم )
اكتفي بهذه المقاطع من بحث الزيات وانهي بما انهى مقاله .
وقد تفرغت الانسة مارغريت فان بريشم وهي من المتخصصات بعلم فن الفسيفساء ولها فيه تأليف حسن لدرس هذه المسألة من وجهها التاريخي والفني ومع تسليمها ببعض مشاركة للقسطنطينية باشغال دمشق .فقد رأت بعد انعام النظر في فصوص دمشق ومقابلتها بما عاينته من الاثارالباقية لفسيفساء كنيسة اجيا صوفيا في القسطنطينية وبعض ابنية سالونيك ان طرائق الفن هي واحدة في كل هذه الاشغال .ولكن لدمشق اسلوب خاص في تأويلها وزيادة في تمثيلها وتلوينها بمقدار لا يشاهد في فصوص القسطنطينية اقتبسته دمشق من بيئتها الشرقية .
ولعل ما قدمناه من هذه الشروح والاستدراكات غناء لنقض خرافة روم القسطنطينية واثبات صناعة الفسيفساء لروم دمشق .بحيث يحق غدا لمؤرخ المدينة ان يعد الفسيفساء قديما بين مفاخر الصناع الملكيين في الفيحاء .