B072

الموسيقا والإنشاد الديني

أ. هلا قصقص

إن مظاهر اللهو العام، الذي كان محرماً مقبولاً اجتماعياً على نطاق واسع، وبالرغم من اعتراض المتشددين. وهناك عادات اجتماعية يمكن تصنيفها تحت اللهو العام صاحبت ظهور المقاهي وانتشار شرب القهوة، وهي شرب التتن، واستعمال الآلات الموسيقية، والتمثل المسرحي، ولعب الشطرنج والمنقلة، وغيرها من فعاليات التسلية والترفيه. يقول البديري مثلاً في معرض حديثة عن الأحوال بدمشق في عام 1160ه/1747م: “وفي ذلك الشهر ورد إلى دمشق من أرض مدينة حلب ثلاثة يهود يزعمون أنهم يشتغلون على النوبة بآلات بالقهوات، فأشغلوهم في قهاوي دمشق، وأصعدوهم على الكراسي العاليات، وأجلسوا دونهم الأشراف وأهل الإسلام، حتى يسمعوا لهم الغناء والأنغام. وانكفت عليهم الناس كأنما داعي دعاهم بنفير، وقد أنكروا ذلك جماعة كثير، والحكم لله العلي الكبير”[1]

وفي الواقع إن مقاهي دمشق والقدس أخذت تجذب هواة النغم. وهكذا تشير سجلات دمشق إلى أن المغنيين في مقاهي دمشق كانوا يغنون ويضربون الآلات حتى في أوقات الصلاة[2]. وعلى الرغم من أن بعض السكان كان يحتج من حين إلى آخر على هذا الوضع، إلا أن الشيخ عبد الغني النابلسي يشير إلى ذلك فيقول: “ثم مررنا بالسوق مع الإخوان، فوجدنا فيه بيت القهوة ملآن، وهم يعلنون بأنواع الأغاني والألحان، فكان انا السّماع، وانطربت منا الأسماع”[3].

وهكذا تضاربت الآراء بين تشجيع للموسيقا والآلات داخل المقاهي وبين الاحتجاج عليها، وقد وردت عدة شكاوي من بعض السكان على المغنيين في سجلات المحاكم الشرعية ففي بعض الحالات كان يتم سوق المغني إلى المحكمة للتعهد بعدم الغناء، كما حدث في 17محرم عام 1104ه/1692م حيت تعهد المغني رجب بن أحمد أمام قاضي المحكمة بالامتناع عن الغناء. وعلى الرغم من ذلك استمرت المقاهي في جذب الرواد بواسطة المغنيين بالإضافة إلى الفنون الأخرى التي ذكرت سابقاً كالحكواتي والكركوزاتي.

في البداية لم تكن الموسيقا والغناء أداتي طرب وتسلية لقتل الفراغ فحسب بل ارتبطا في بعض جوانبها الدينية، وظهرا في الموشحات الدينية وحلقات الذكر لدى بعض الطرق الصوفية، وأقام المتصوفون احتفالاتهم الدينية في المقاهي باستخدام آلاتهم الموسيقية التي يرافق عزفها إنشاد المنشدين، فمن المعروف أن أول مقهى فتحت في دمشق كان على يد الشيخ المتصوف محمد اليتيم[4] في محلة السويقة[5]، بالإضافة إلى أن من روّج مشروب القهوة هم رجال الدين المتصوفة لأغراض تتعلق بالعبادة، فمن الطبيعي أن يرتبط الإنشاد الصوفي في المقاهي ويرافق تطورها.

وفي هذا يقول العلامة محمد كرد علي في أهمية الموسيقا في حياة الدمشقيين وسهراتهم: “ولقد أدركنا وأدرك أجدادنا أن بلاد الشام كلها كانت لا تخلو معظم طبقاتها من موسيقيين، وكل مجلس من مجالسهم أو سهرة من سهرياتهم، أو نزهة من نزهاتهم، كانت تضم أناساً أتقنوا هذا الفن، فكان السرور يملأ القصور والدور والقهاوي، ومن مشاهير الموسيقيين في النصف الأول من القرن العشرين محمد السؤالاتي الدمشقي وغيره”[6]

ومن ناحية أخرى رافقت الموسيقا ظهور الحكواتي والكركوزاتي والمسرح أحياناً، وكانت تظهر بشكل منفرد أحياناً أخرى، وخاصة كفرق للمدائح النبوية والجلسات الصوفية وغيرها. ذكر البديري الحلاق في يومياته من عام 1156ه/1743م: “وفي غرة ربيع الأول من هذه السنة شرع حضرة والي دمشق الشام، سليمان باشا ابن العظم في فرح، لأجل ختان ولده العزيز أحمد بك، وكان في القهوة التي في محلة العمارة، وجمع فيه سائر الملاعب وأرباب الغناء واليهود والنصارى، واجتمع فيه الأعيان والأكابر من الأفندية والأغوات ما لا يحصى، وأطلق الحرية لأجل الملاعب يلعبون بما شاؤوا من رقص وخلاعة وغير ذلك، ولا زالوا على هذا الحال سبعة أيام بلياليها. وبعد ذلك أمر بالزينة، فتزينت أسواق الشام كلها سبعة أيام، بإيقاد الشموع والقناديل، زينة ما سمع بمثلها، وعمل موكب ركب فيه الأغوات والشربجية، والأكابر والانكشارية، وفيه الملاعب الغريبة من تمثيل شجعان العرب وغير ذلك. وثاني يوم طهور ولده أحمد بك، وأمر من صدقاته أن يطهر من أولاد الفقراء وغيرهم ممن أراد، فصارت تقبل الناس بأولادهم، وكلما طهروا ولداً يعطوه بدلة وذهبين، وأنعم على الخاص والعام، والفقراء والمساكين بأطعمة وأكسية وغير ذلك، مما لم يفعل أحد بعض ما فعل، ولم نسمع أيضاً بمثل هذا الإكرام والإنعام، على الخاص والعام، فرحمه الله وجازاه أحسن الجزاء، آمين”[7].

نلاحظ من خلال نص البديري بأن الوجهاء كانوا يقيمون مناسباتهم في المقاهي العامة في المدينة وهذا ما يدل على مركزية المقهى كمكان تجمع اجتماعي في الحي، وبهذه المناسبات كانت تقام فعاليات مختلفة كالذي ذكرها البديري الحلاق من غناء وعزف وألعاب مختلفة. وفي مراحل متأخرة أصبح الغناء والموسيقا عنصراً أساسياً في مقاهي دمشق، ففي مقهى كريستين في حي المرجة بدمشق، الذي اكتسب تسميته من الراقصة والمغنية الأرمنية، كان الاستمتاع برقص مدام كريستين والاستماع إلى أغانيها في المقهى شيئاً محبوباً جداُ بين البرجوازيين، في حين لا يملك آخرون تكاليف الدخول[8].

ورغم مواقف علماء دمشق المتباينة من الآلات والغناء فقد مال بعض رجال الدين وغيرهم من العامة للاستماع والطرب، واستخدم الدمشقيون في المقاهي أدوات موسيقية مختلفة لعوف الألحان ومرافقة الغناء وأحياناً الكركوزاتي وممثل الروايات، وكان من هذه الآلات: “العود والكمنجة والدف والنقارات والدربكة والناي والرباب والمزمار والقانون وغيرها”، وسمعت ألحان مل هذه الآلات في بيوت القهوة وبيوت الخاصة وفي المتنزهات وعلى مستوى النوبات الرسمية في المواكب والاحتفالات[9]؛ ومان السيران أو النزهة في بساتين دمشق، تستوجب السماع في فصل الربيع والصيف، وإذا ماحل الشتاء استعاضوا عن ذلك في المقاهي حيث كانوا يأتون بعوادين وآلاتية[10].

            ومع ذلك قام الولاة العثمانيين ممن اتسموا بالتزمت بمنع حفلات الغناء والسماع، ظناً منهم أن ذلك يفتن الشعب عن عقيدته وإيمانه، فالكنج يوسف باشا كان والياً على دمشق أصدر أوامره في سنة 1221ه/1807م بمنع الآلات في المقاهي، كما ضيق على البعض مما اضطرهم لإقامة حفلات الطرب في سراديب تحت الأرض كي لا يسمع صوتهم إلى الخارج، ومع ذلك تعرضوا لغضب الوالي وحاشيته والأغوات[11]؛ ولقد تأثر في سلوكه هذا شيخه النقشبندي الكردي مما دعا رجال الدين المسلمين للتدخل في الأمر وكلموه عن أن هذا ينافي الإسلام، وأشاروا إليه بطرد الشيخ الكردي من عنده، فقبل كلامهم وطرد الشيخ وأظهر لطفاً وعدلاً[12].

ولقد برز العديد من الموهوبين بأصواتهم الجميلة ومتقنين لفن الموسيقا؛ ويورد لنا المرادي وغيره من الإخباريين والمؤرخين أسماء عدد من هؤلاء، ولم يكن ذلك وقفاً على المسلمين بل شاركهم في ذلك أبناء أهل الذمة في دمشق، كسليم بن جبرائيل الخوري الذي “اشتغل في فن الموسيقى وضبط الألحان العربية على الروابط الافرنجية فوضع مقدمة لتأليف مخصوص في هذا الفن”[13].

ومن المسلمين عمر بن شاهين (ت:1183ه/1769م) الذي تفوق بالموسيقى والألحان، وكان أستاذه في ذلك عمر بن محمد البصير المصري الذي كان يعلمه كيفية الانتقال من نغم إلى نغم[14]. وسعيد السمان الشافعي الدمشقي (1118ه/1172م-1704ه/1758م) كان حسن الصوت والأداء وله معرفة بالموسيقى[15]، ومحمد سعيد القاسمي كان له معرفة بالموسيقى وأنغامها، ألّف قصيدة ضمن كل بيت من أبياتها اسم نغم من الأنغام الشرقية كلها.

            وبذلك لم تكن الموسيقى والغناء أداتي طرب وتسلية لقتل الفراغ في شيء جميل محبب للنفس فحسب، بل ارتبطا في بعض جوانبهما بالحياة الدينية، وظهرا من خلال القرآن والتجويد والإنشاد الديني الصوفي والتواشيح النبوية، وأقام المتصوفون حفلاتهم خارج المقاهي وداخلها باستخدام آلاتهم الموسيقية كالناي والدف والعود ليرافقوا الإنشاد، حتى أن الطريقة المولوية كان أفرادها يدورون على أنغام موسيقية مطربة جداً[16].

[1] أحمد البديري، حوادث دمشق اليومية 1154-1176هـ. تحقيق: أحمد عزت عبد الكريم، القاهرة، 1959، ص:34
[2] محمد الأرناؤوط، من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي، دار جداول، بيروت، لبنان، 2014، ص:48
[3] عبد الغني النابلسي، الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية. تحقيق: أكرم العلبي، دار المصادر، بيروت، 1990، ص241
[4] محمد ابن اليتيم العاتكي الشافعي الصوفي، أخذ الطريق عن الشيخ سعد الدين الجباوي، كان يهتم بمعرفة الكيمياء، كان يتكسب ببيع القهوة في أول أمره في السويقة، وكانت قهوته مجمع الصالحين، وكان إلى جانبه حوش يجمع بنات الخطا، فاستأجره وأخرجهن منه واتخذ فيه مسجداً،.توفي سنة 1005هـ. انظر “لطف السمر وقطف الثمر من تراجم  أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر”  للغزي، ج1، ص100
[5] نجم الدين الغزي الدمشقي، لطف السمر وقطف الثمر من تراجم  أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر، تحقيق: محمود الشيخ، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، سورية، 1993، ج1 ص100
[6] محمد كرد علي، خطط الشام. ج4، المطبعة الحديثة، دمشق، سورية، 1925، ص110
[7] أحمد البديري، حوادث دمشق اليومية 1154-1176هـ. تحقيق: أحمد عزت عبد الكريم، القاهرة، 1959، ص95
[8] مهند مبيضين ، ثقافة الترفيه والمدينة العربية في الأزمنة الحديثة، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، 2009، ص:155
[9] يوسف جميل نعيسة، مجتمع مدينة دمشق :1172-1840م، دار طلاس، دمشق، سورية، 1994م، ص:724
[10] جمال الدين القاسمي، قاموس الصناعات الدمشقية. دار طلاس، دمشق، سورية، 1988، ص:8
[11] يوسف جميل نعيسة، مجتمع مدينة دمشق :1172-1840م، دار طلاس، دمشق، سورية، 1994م، ص:725
[12] مؤلف مجهول، تاريخ حوادث الشام ولبنان، ص39
[13] حسين بن طعمة، كشف الالتباس في مسألة الاستماع أو رسالة السماع، ص198، مخطوطرقم 6069، دار الكتب الظاهرية بدمشق
[14] محمد خليل المرادي، سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر. ج2، دار ابن حزم، دمشق، 1979، ص:202
[15] محمد خليل المرادي، سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر. ج2، دار ابن حزم، دمشق، 1979، ص:190
[16] محمد كرد علي، خطط الشام. ج2، المطبعة الحديثة، دمشق، سورية، 1925، 276