لعب مسرح الظل دوراً كبيراً في الحياة العامة، وظل عدة قرون يحتل جانباً من فكر الشعب. وإن اتخذه العامة سبيلاً للتسلية وتقضية أوقات الفراغ إلا أن ما كان يقدمه هو عبارة عن تمثيل للأمور الواقعية المعاشة في إطار من النقد والسخرية، فضلاً عن ذلك فقد كانت العروض بمنزلة التفريغ عن هموم الناس التي تحمل صوراً متعددة من كراهية حكامهم الغرباء.
كانت مسرحيات خيال الظل توازن بأسلوب غير مباشر، بين ما كان وما هو كائن، وما ينبغي أن يكون في حياة الناس وعلاقاتهم مع بعضهم أو مع أولي أمرهم. فمسرح الظل هو كالمرآة التي يرى فيها الناس عيوبهم، بل وتطلعاتهم ومواقفهم من الأحداث التي يعيشونها، أو تعصف بهم. وإذا كانت العروض تقليداً ثابتاً في ليالي رمضان من كل عام، فإن المناسبات التي يسعد الناس الاحتفاء بها كالأعراس والختان وختم القرآن وغيرها من المناسبات الاجتماعية الأخرى، فكثيراً ما كانت تتخذ من مشاركة خيال الظل دليلاً على المبالغة في ذلك الاحتفال. وما إن تبدأ تباشير شهر رمضان حتى كان المقهى الشعبي في كل حي يستعد لاستقبال الرواد الذين ينتظرون “كركوز[1] وعيواظ[2]” بفارغ الصبر، وكان اليافعون يتريثون حتى تغرب الشمس وتحين نهاية صلوات التراويح للمسارعة إلى المقهى وحجز مكان على الحصير المفروش في مواجهة الشاشة. وما إن تخبو أنوار الجناح المخصص للعرض في المقهى، وتشع أضواء الشاشة، حتى يأخذ الحضور أماكنهم في هدوء وسكينة، يترقبون بشوق بالغ ما سوف يظهر على الشاشة السحرية من ألاعيب، وما ستطرحه شخوصها من أفكار وأعاجيب وعبر ونكات إلخ[3].
يبدو أن الكركوزاتي كان أكثر تأثيراً بمشاهديه ومستمعيه من الحكواتي، فالحكواتي كان تأثيره يقع على المستمعين من خلال وقائع قصته من ناحية، ومن نبرات صوته التي تتلون حسب وقائع الأحداث من ناحية أخرى. في حين أن الكركوزاتي بالإضافة إلى ما تقدم يعرض صوراً لشخصيات قصصه المختلفة، ويلون نبرات صوته من وراء الستارة مع كل شخصية، بحيث تختلف من شخصي إلى أخرى، ويتعقب تحركات شخصياته التي يعرضها بأصوات مختلفة، فتارة يركضون أو يركبون الخيل أو يحملون السلاح أو يدخلون المعارك، بانفعالات مختلفة كالضحك والبكاء، ويرتدون الأزياء الملونة. وهنا لا يخاطب حاسة السمع لدى المشاهدين كالحكواتي فحسب بل يخاطب حاسة البصر أيضاً، وهما أمران هامان للتأثير على المشاهدين. لذلك يمكن القول أنه كان بمثابة التلفزيون في وقتنا الحاضر[4]. ويصف لنا الشيخ جمال الدين القاسمي عمل الكركوزاتي قائلاً بأنه هو من يلاعب صوراً مصنوعة من جلد على صفة إنسان، تعرف بالخيالات، ويقال لها “خيال الظل” وهي متعددة ولكل منها اسم مخصوص به. وصاحبها يعمل في المقاهي، وينصب ستارة من قماش في زاوية المقهى، يربط بأسفل السنارة خشبة على عرض الستارة، ويضع فوقها سراجاً سوقد من زيت الزيتون، وهو يقف خلف الستارة، يلاعب الخيالات، ويأتي لكل واحدة منها بلغة وكلام خاص، وتكون المقهى مملوءة بالمتفرجين، وغالب الجمهور كان من الأطفال الصغار. وقد يوجد ممن أتقن هذه الحرفة مع سرعة حركاتها، من يكون صوته جميلاً، فيقصده الشباب والشيوخ يتفرجون على ألعابه[5].
منشأ خيال الظل: خيال الظل لغةً، إضافة مقلوبة، صحتها ظلُّ الخيال، بيد أن الناس آثروا هذه التسمية تركيزاً للانتباه على الأصل الذي ينعكس الظلّ عنه، وهو بالإضافة إلى كونه يشكل جانباً من جوانب الأدب الشعبي، فإنه ينتظم في طبيعته ظواهر أخرى يسهم فيها بشكل أو بآخر، ومن ذلك الفن التشكيلي والموسيقا والغناء[6]. فهذا الفن لا يعتبر فن أدبي لأنه يدخل فيه فنون أخرى كالفن التشكيلي والفن الموسيقي، ووجوده وازدهاره لعدة قرون يبين لنا عدة حقائق، أهمها:
أولها أن فن التمثيل المباشر وغير المباشر أقدم من الحملة الفرنسية بكثير، وأنه قد وجد تربة صالحة له في الأرض العربية، جعلت له أنماط خاصة، وتقاليد خاصة.
وثانيتها أن التصوير قد امتزج هو الآخر بالروح الشعبي حكاية للواقع ونقدًا للحياة.
وثالثتها أن الموسيقى لم تكن قوالب مكررة أو جامدة، لأنها سايرت الأحداث والمشاعر وظواهر الطبيعة أيضًا.
عرف العالم الإسلامي فنّ الظّل في العصر الوسيط، وتذهب غالب المصادر إلى إرجاع أصوله إلى الهند. فالهند منبع ثروة هائلة من الحكايات الشعبية، لكن هذا الشيء ينطبق تماماً على اليابان، حيث يمكن اعتبار “الواجانج Wajang” في العصور اليابانية القديمة نمطاً ظليّاً، وهذه الأنماط تتمازج فيها العقيدة والفن والشعر، وتعالج موضوعات تتصل بالآلهة والملوك. ولكن هذا لا يمنع وجود معالم تطور مستقل لمسرح الظل في الصين، فهذه البلاد يمكن أن تناظر الهند في نشوء مسرح الظل وبخاصة ارتباط هذا الفن في الصين بالشمس، باعتبار أن الضوء الذي يركز على الصورة لينعكس الظل فيها كان يستمد من الشمس[7].
مسرح خيال الظل في دمشق: أقدم الإشارات إلى وجود فن الدمى في دمشق (على شكل مسرح الظل) وردت في مخطوطة (مؤرخة سنة 1308م) لشمس الدين محمد بن ابراهيم الدمشقي، حيث ورد خبر عن مقتل شاب، و حمله قبل وفاته إلى دار الوالي، “فسأله عن قاتله، قال: قتلني محمد بن المخايل الذهبي. والقاتل يدخل مع أبيه في عمل الخيالات..”؛ عرفت مدينة دمشق خيال الظلّ في وقت مبكر، إلا أنه لم ينتشر ويصبح ذو شأن إلا في القرن التاسع عشر، حيث كان له تأثير كبير في توجيه الشعب وتهذيب أخلاقه وتقويمهما، بما كان يلقيه المخايلون على ألسن شخصياتهم من المواعظ الأخلاقية بعبارات انتقاد مختلفة. ويذكر العلامة الشيخ أحمد محمد دهمان أن الناس كانوا يقصدون الربوة بدمشق في يومي المحفل من كل أسبوع، حيث يخرج في هذين اليومين المخايلة والحكواتية وجميع أنواع التسالي التي لم يكن فيها من الفحشاء وإنما كانت مطبوعة بطابع ديني أخلاقي[11].
دور الكركوزاتي في مسرح خيال الظل: لا يتقيد المخايل (الكركوزاتي) في عروضه بالمنطق والتسلسل التاريخي، فالزمان والمكان عنده لا أهمية لهما. فالمسرح خيمة كركوز[12]، والمخايل يعالج ما يريد من مشاغل الناس واهتماماتهم بأسلوب كوميديا السلوك والشخصية مع التركيز الشديد على نواحي الخلل في الشخصيةة، ويوظف ذلك لإدخال السرور والمتعة للمتفرجين، حتى يستطيع تمرير ما يريد من نقد أو تجريح أو توجيه. وهو لا يلجأ إلى الحوار المشتبك حتى يستطيع أن يتحكم في المشهد والحدث والموقف، ويعوض ذلك بالحوار المتصل والبراعة في تحريك الشخصيات، شارحاً أو سائلاً ومجيباً على شكل حوار بين الشخصيات من جهة، وبين الشخصيات والجمهور من جهة أخرى حتى يستخلص العبرة المطلوبة التي يرمي إليها[13].
مادة الخيالات وصنعها: تتخذ الشخصيات من جلود البقر والجاموس، تملّح هذه الجلود وتشد على جدار معرض للشمس (الدباغة)، فإذا تمت دباغة الجلود يرسم عليها الأشكال والأجزاء المرغوبة، ثم تقصّ وتجمّع إلى بعضها بوساطة سيور جلدية، ومن ثم تثقب وتزيّن وتلوّن بالأصباغ والألوان المناسبة، وفقاً لما تقتضيه ألوان الوجوه والثياب وأجسام الحيوان وجذوع الأشجار وأوراقها وثمارها وغيرها من عناصر العرض المختلفة، بحيث إذا عرضت الشخصيات أمام الضوء ظهرت زاهية وبهيّة. وعند اكتمال إعداد الخيال، يوضع له مركز ثقل، يوفر تحرك الشخصية وجميع أجزائها على الشاشة، وقد يكون للشخصية أكثر من مركز ثقل، وذلك يتوقف على طبيعة حركتها على الشاشة وضروراتها، ويدخل في ذلك المركز عود رفيع تحرّك بواسطتها الشخصية أو بعض أجزائها[14].
الأجور: كما الحكواتي كانت الأجور تقسم مناصفة بين صاحب المقهى والمخايل، وقد يتجاوز نصيب المخايل هذا القدر إلى نحو السبعين بالمئة، وهذا يعود إلى شهرة المخايل وشعبيته. ومنهم من كان يعمل لحساب صاحب المقهى بأجر متفق عليه قد يصل إلى عشرين ليرة سورية في بداية القرن العشرين في اليوم الواحد خلال شهر رمضان، أو أن يكون الدخل بكامله للمخايل لقاء أجرة مقطوعة يدفها لصاحب المقهى، وفي جميع الأحوال فإن المشاهد يدفع ثمن المشروب لصاحب المقهى. وكان رسم الدخول يتراوح بين عشرة قروش وخمسين قرشاً، وذلك يعود إلى شهرة المخايل ومكان جلوس المشاهد. أما الأطفال فإن منهم من يدخل مجّاناً كرامةً لشخص أو وجيه، ومن يدخل بقرش واحد أو برغيف أو قطعة قمر الدين أو بضع حبات من الجوز[15].
الحواشي:
[1] كراكوز: الشخصية المحورية الأولى في مسرح خيال الظل في بلاد الشام وهي تتقاسم أدوار البطولة مع توأمها عيواظ. وهناك من يذهب إلى أن الأتراك العثمانيين استمدوا شخصية كركوز من شخصية قراقوش الذي أسندت إليه أمور مشبعة بالسخرية والتهكّم، وقد حور هذا الاسم إلى كراكوز ليعني العين السوداء. وتذكر بابة التأصيل السورية أن كركوز كان غجرياً ووالده بطمان من زعماء الغجر، في حين كان عيواظ (عوض البرصاوي) ابن كبير تجار بورصة واسطنبول. كان شخص كراكوز يمثل الناس جميعاً بما فيهم من طيبة وشر، فهو تاجر عند تصوير أساليب التجار في تعاملهم، وهو عامل بسيط عند تصوير شقاء العامل وهمومه، وهو غبي عندما يريد أن يتعامى عن الواقع، وهو في جميع الأحوال دائم الخوف من وجه ويحسب لها ألف حساب، ومصدر الضحك من شخصية كراكوز هو نوعها العصبي، فهو يثور بسرعة ويرضى بسرعة، الأمر الذي يصدر عنه مواقف غير متوقعة تثير الضحك في تباينها. (المصدر: منير كيال، معجم بابات مسرح الظل، ص11)
[2] عيواظ: الشخصية المحورية المشاركة لكراكوز في مسرح خيال الظل. تمتاز شخصية عيواظ بتصنع الرزانة والتدبير والحكمة، وإعداد المقالب لشخصية كراكوز التي غالباً ما يقع فيها. ويذهب بعضهم إلى اعتبار عيواظ حكيم خيمة كراكوز لتفاصحه وإرشاداته، ولما كان يأتي على لسانه من حكم وأشعار وأمثال. تروي بابة التأصيل السورية أن عيواظ التقى كراكوز بينما كان كراكوز يعلق غربالاً في رقبته، يبيعه كل يوم مراراً وتكراراً. وفي كل يوم كان يبيعه فيها كان يستعيده بأسلوب لا يخلو من الحدق والحدق والدعابة. فشكل الاثنان ثنائياً لا يفترق ولا يستغني أحدهما عن الآخر في السراء والضراء. وأخذ الاثنان يقضيان وقتهما في المزاح ورواية النكات وإحياء الحفلات التي يقيمها الأغنياء، حتى آل بهما النقام إلى بلاط السلطان، فجعلهما نديمين له، وحرم عليهما مغادرة القصر، ولما خالفا أمره أمر بقطع رأسيهما، وأصؤ السلطان على الوزير بتنفيذ أمره، فحار الوزير بأمره، وكان الحل على يد الشيخ محمد السشتري، الذي تناول سمكة من البحر وسلخ جلدها وجعلها على هيئة كراكوز وعيواظ، وصار يحركهما كل مساء وراء شاشة منارة، ويحكي على لسانهما النكات ويعما عملهما. (المصدر: منير كيال، معجم بابات مسرح الظل، ص10)
[3] منير كيال، معجم بابات مسرح الظل، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، 1995، ص7
[4] يوسف جميل نعيسة، مجتمع مدينة دمشق :1172-1840م، دار طلاس، دمشق، سورية، 1994م، ص:721
[5] جمال الدين القاسمي، قاموس الصناعات الدمشقية. دار طلاس، دمشق، سورية، 1988، ص:384
[6] عبد الحميد يونس، دفاع عن الفلكلور. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1973، ص237
[7] منير كيال، معجم بابات مسرح الظل، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، 1995، ص20
[8] أحمد رشدي صالح، الفنون الشعبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1997، ص60
[9] منير كيال، معجم بابات مسرح الظل، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، 1995، ص21
[10] محمد ابن إياس الحنفي، بدائع الزهور في وثائع الدهور، ج1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1984، ص174
[11] جبل قاسيون، محاضرة ألقاها الشيخ دهمان في قاعة المجمع العلمي، شباط 1943م
[12] خيمة كراكوز: ستارة تنصب وتشد بين جداري الزاوية المختارة للعرض في المقهى، ويتوسطها شاشة من القماش الأبيض الشفاف تنتهي بعارضة ضيقة من الخشب تقام في نهاية الشاة من الأسفل، يوضع فوق تلك العارضة سراج زيتي ذو شعلة وضاءة، يقف ورائها الكركوزاتي محجوباً عن أنظار المتفرجين، فإذا انطفأت أنوار المقهى وأوقد السراج تظهر خبالات الشخوص على الشاشة البيضاء واضحة جلية. (المصدر: منير كيال، معجم بابات مسرح الظل، ص10)
[13] منير كيال، معجم بابات مسرح الظل، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، 1995، ص26
[14] عبد الحميد يونس، دفاع عن الفلكلور. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1973، ص240
[15] منير كيال، معجم بابات مسرح الظل، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، 1995، ص30
[16] ولد علي حبيب في محلة العقيبة بحي سوق ساروجة بدمشق، في مطلع القرن التاسع عشر، وتوفي في العقد الثامن من القرن العشرين، وفي هذا الحي نشأ وترعرع وتلقى مبادئ القراءة والكتابة في الكتاتيب، فختم القرآن الكريم، ثم تنقل في عدة حرف، وقد دفعه حبه للفن إلى ممارسة المخايلة، وساعده على ذلك قوة ذاكرته وقدرته على حفظ الأدوار والموشحات، ونبوغه الموسيقي، فوظف ذلك في مسرح الظل، وضمّن فصوله الأناشيد والقصائد والمواويل وبعض الأغاني الخفيفة.
[17] أحمد الجندي، رواد النغم العربي. دار طلاس، دمشق، سورية، 1984، ص21
[19] منير كيال، معجم بابات مسرح الظل، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، 1995، ص32
[20] خالد بن علي حبيب: الابن الثالث لعلي حبيب، لم تتح للأب فرصة تعليم ابنه في صغره، فأخذ الابن يتردد على حلقات الدرس والعلم في العقد الرابع من العمر، وشرع يفك الحروف، ثم أخذ يقرأ ويكتب، وما لبث أن ختم القرآن الكريم وأحسن تجويده على يد الشيخ سليم المسوتي في حي العقيبة ثم واظب على مجلس المحدث الأكبر بدر الدين الحسني لدراسة الفقه والحديث النبوي.
[21] صالح حبيب: ولد عام 1898م في حي العقيبة بحي سوق ساروجة بدمشق ونشأ وترعرع في البيئة الشامية البسيطة، وعرف عنه منذ صغره حبه للفن والأدب من شعر وغناء وموسيقا وقد تميز بصوته الشجي وأدائه الفريد، تتلمذ صالح منذ صغره على يد الشيخ سليم المسوتي ثم جلس إلى حلقات درس الشيخ أبي الخير الميداني والشيخ أبي اليسر العابدين والشيخ سعد البرهاني وأخذ عنهم علوم القرآن الكريم والفقه والحديث
طريق خيال الظل إلى البلاد العربية: عرف هذا الفن طريقه إلى البلاد العربية بواسطة المغول والسلاجقة إبان القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلادي عبر بلاد فارس والأناضول[8]، وواكب الحياة الإسلامية، فأسهمت الطبقات الوسطى في إثرائه، فازدهر وانتشر في أصقاع بلاد العرب قبل أن تنشأ الدولة العثمانية؛ ولكن العثمانيون ينسبون انتشار خيال الظل في بلاد العرب إليهم، ويقال أنه بينما كان العمال يبنون للسلطان العثماني أورخان مسجداً في بورصة، كان هناك رجلان بين العمال يدعيان كركوز وعيواظ، لكنهما كانا يلتهيان برواية النكات والحكايات الهزلية، مما صرف العمال عن العمل، وبالتالي التأخير في بناء المسجد، فعلم حكمدار بورصة بذلك فأمر بإعدامهما، قم ندم على فعلته ندماً شديداً وأصابه غمٌّ شديد. وكان في ذلك الزمن رجل يدعى محمد كوشتري أراد أن يزيل الغمة عن الحكمدار، فصنع له على هيئتهما شكلاً من الجلد وصار يحركه كل مساء وراء شاشة منارة ويروي بأسلوبهما وعلى لسانهما النكات والدعابات[9].
ويذكر ابن إياس معرفة الأتراك العثمانيين لمسرح الظل من العرب. فبعد أن اجتاح العثمانيون بلاد الشام ومصر إثر معركة مرج دابق لاحفوا فلول المماليك إلى مصر وانتصروا عليهم، وقبضوا على الحاكم المملوكي طومان باي وشنقوه على باب زويلة في القاهرة. وفي المساء احتفل السلطان العثماني بانتصاره، ومثل له المخايلون هذه الموقعة، فأعجب السلطان بذلك، وأخذ معه إلى اسطنبول الكثير من المهرة والحرفيين وعدداً من المخايلين، فكان الإقبال عليهم كبيراً لتمكنهم من فنهم وسرعة بديهتهم في التلاؤم مع مقتضيات الحياة في المدينة[10]؛ ونتيجة للسيطرة العثمانية على بلاد العرب، فقد بدت التأثيرات العثمانية واضحة في النصوص والأزياء، بشكل يبدو بأن الأصول العثمانية هي المنبع الذي صدر عنه مسرح الظل في بلاد العرب، فعلى الرغم من الأثر الذي تركه المصريون في فن الظل العثماني، فقد ترك المخايلون العثمانيون بصماتهم على مسرح الظل العربي وخاصة في بلاد الشام.
كانت النصوص العربية والعثمانية تعتمد على الأدب الخيالي والأساطير الشعبية، وعلى مظاهر السلوك في الحياة العادية، كما أنها كانت متقاربة من ناحية المستوى الفني ومضمونها الأخلاقي. وكان من الشائع توفر عنصر الفكاهة إذ كان الهدف منها طرد السأم والملل لدى الجمهور. وكان من الممكن أن تثير هذه الفكاهة ألواناً من السخرية، وقد استغلت هذه الفكاهة بشتى الطريق جميع الإمكانات التي أتاحها مسرح الظل، من ألوان وحركة في تبديل الخيالات (الشخوص) فضلاً عن فنون المحاكاة في مختلف صورها، حنى المصحوبة منها بالموسيقا والغناء.
رواد مسرح خيال الظل في دمشق:
اشتهرت أسرة حبيب بالحفاظ على تقاليد خيال الظل وأصوله وباباته أربعة أجيال متتالية، وكان من أفراد هذه الأسرة من مارس المخايلة حتى العقد الخامس من القرن العشرين، وكان رائدهم “علي حبيب”[16] وقد عرف أبو خليل القباني ما عند الرجل من أصول عريقة في الفن[17]، وحفظ متقن لكثير من الأدوار والموشحات والأدوار، فأخذ يلازمه في سهراته وحفلاته ويحفظ ما عنده، فكانت هذه الحصيلة النواة الأولى والخميرة التي انطلق منها القباني وإبداعه وتجديده. كان علي حبيب في أوائل القرن العشرين من أشد العوامل تأثيراً في تهذيب الأخلاق وتقويمها يما كان يلقيه على ألسن خيالاته من المواعظ الأخلاقية، بعبارات ملؤها الانتقاد ليؤثر في المشاهد[18]. أنجب علي حبيب ثلاثة أولاد هم: عبد اللطيف وعلي وخالد ، أما علي الذي ورث فن أبيه وحاول السير على نهج والده، وعمل جاهداً على شد الجمهور إليه، لا سيما أن جمهور المسرح اتجهوا إلى ما تقدمه الفرق الفرنسية، الأمر الذي جعله يتراجع عن مستوى أبيه. ولكن لولا ولع الناس بمسرح الظل لما استطاع الاستمرار، هذا الولع الذي حمل ولديه حبيب وخالد على احتراف المخايلة[19]. وقد عمد الأب إلى تلقين ولديه أصول هذا الفن بعد أن تمرس كل منهما على ذلك من خلال مساعدته وراء الشاشة في تثبيت الشخوص والمناظر وبمصاحبة الحوار على لسانهما. وما أن قوي عودهما حتى انفرد كل منهما في مقهى أو أكثر يقدم عروضه على طريقته الخاصة. وكان الأب يتفقد عمل كل منهما ويوجهه. وأما خالد بن علي حبيب[20]، الابن الثالث لرائد هذا الفن فقد كان همه الأكبر متابعة رسالة أبيه في فن المخايلة بعد أن أخذ عنه أصول الصنعة وأسرارها، ولكن سرعان ما طوّر مضمون النصوص مستفيداً من حصيلته العلمية وملكاته الإبداعية في نظم الأشعار والأزجال والمواويل والأقوال والأغاني في قالب إبداعي ممتع. فكان له دور كبير في إبعاد مسرح الظل عن التبذل، وهذا ما جعل طالي تزجية الوقت ينأون عن مشاهدته. وكان القباني من الأصدقاء المخلصين لخالد والملازمين له، وقد تأثر بفنه حتى أمكن القول بأن الكثير من مشاهد مسرحيات القباني مأخوذة من مسرح خالد حبيب.
أنجب خالد حبيب أربعة أولاد هم: حسن وزكي وصالح وعلي، أبدع صالح[21] في فن المخايلة وأخذ عن جده وأبيه، وقد كان له شأن في مسرح الظل في مقاهي دمشق. أكسبه إبداعه في هذا المجال صداقات كثيرة ومعارف منهم الطبيب سليم العجة والمجاهد فخري البارودي والشاعر أحمد الجندي، كما كانت له صلات برجالات الثورة السورية الكبرى ومنهم محمد الأشمر وحسن الخراط. وقد سبب له ميله الوطني وانتقاد ممارسات السلطة متاعب كثيرة، بدأت بأخذ العهد عليه بعدم التعرّض للسلطة ثم بالوعيد والتهديد، وانتهت بالسجن مرتين. وفضلاً عن ذلك كله فقد أبدع صالح بتصميم شخصياته، وكان على معرفة كبيرة بالجلود وأنواعها والاستعانة بالألوان لإبراز تفاصيلها، وبالتالي تخيل أبعاد الشخصية ودورها في الفصل، وما يمكن أن تسبغ تقاطيعها على سماتها وسلوكها من طول أو قصر، وبدانة أو نحافة، وثياب مناسبة. الصورة(4-6). حتى بداية القرن العشرين كان لمسرح خيال الظل مجده الحقيقي في مقاهي دمشق قبل ابتكار الفن السينمائي وقبل ظهور حركة المسرح على يد أبي خليل القباني، وإذا كان الحكواتي قد أشبع بعض رغبة الساهرين للتسلية في المقاهي، فإنه لم يكن قادراً بالقراءة وحدها ومهما أوتي من إمكانات تمثيلية على أداء الدور الذي يلعبه الكركوزاتي أو لاعب خيال الظل أو المخايل.